منذ أن تسللت الحياة إلى أنفاسه، وانهمرت الدموع من عينيه عند صرخة الميلاد، لم يكن وجه أمه هو أول ما استفاقت عليه تلك العينان البريئتان، بل كانت العتمة هي أول ما اصطدمت بهما، ليكون من قضاء الله وقدره أن يبتلى (علي) بحبيبتيه فيصبر على نعمة حرم منها، ويمضي طفولته بين أقرانه موظفاً حواسه الأخرى في استكشاف العالم الخارجي والتعرف عليه، حيث عوضه الله عنهما بفطنة وذكاء حاد كان محط أنظار المحيطين به.
لطالما تعثرت القدمان وارتطم الجسد اللين بصلابة الأرض، إلا أن اليدين الصغيرتين ما لبث أن تستجمعا قواهما لينهض الجسد من جديد وتواصل الخطوات الصغيرة دربها الطويل، فكانت العثرات تزيده قوة وصلابة، وتمنحه العزم على مواجهة الواقع الذي يعيش والتكيف معه.
لم تكن تلك الطفولة مختلفة عن سواها، فكان لها احتياجاتها المشابهة في كل مرحلة من مراحل تطورها النمائي بكافة جوانبها الإجتماعية والعقلية، بل كان لهذا الطفل السبق في القدرة على الحفظ واستظهار السور القرآنية منذ الصغر، ويرافق تلك الموهبة صوت رقيق عذب ينساب من حنجرة (علي) لتخشع الآذان المصغية إليه، وتلين القلوب لأعظم كلمات حين تخرج من فم طفل صغير دخل النور قلبه وعقله قبل أن يدخل عينيه.
وهكذا ظل (علي) في مدرسته محط إعجاب أساتذته، يفتتح الإذاعة المدرسية كل صباح، ويكاد لا يخلو احتفال في المدرسة دون أن يكلل افتتاحه بآيات عطرة يتلوها على مسامع الحضور، ولم يقتصر تفوقه على زملائه في هذا المجال فحسب، بل كان كذلك في المواد الدراسية، ناهيك عن لباقته في التعامل مع زملائه، ومساعدته لهم في حل بعض المسائل الرياضية التي قد تصعب عليهم، على الرغم من استخدامه لغة برايل كمعين على الدراسة، وذلك ما جعله ملتفاً بجمع من الأصحاب الذين علقت محبته في قلوبهم.
كان طموحه لا يتوقف عند المرحلة الثانوية، بل امتدت نظرته الثاقبة إلى ما بعد المدرسة، ليتحقق حلمه في الدراسة الجامعية وفي التخصص الذي أحب، وبذلك انتقل إلى مجتمع آخر وبيئة جديدة تطلبت منه وقتاً للتكيف معها، فليس سهلاً على كفيف أن يتلقى تعليمه بين المبصرين إن لم يتحلى بروح المثابرة والجد في الدراسة، ولكنه أمر غير مستحيل على (علي) الذي بدأ بمضاعفة جهوده والتغلب على كل هاجس من شأنه إضعاف دافعيته.
كانت عملية التنقل بالنسبة له عائقاً تغلب عليه بمثابرته على حضور المحاضرات ترافقه عصاه البيضاء مرشده ودليله لما حوله، وكما هو الحال في المدرسة، استمر بالتفوق في المرحلة الجامعية، وكان ذلك بفضل الدعم المعنوي الذي تلقاه من أسرته التي لفّته بدفئها، فهيأت له الظروف المناسبة، وساعدته في التغلب على كل العقبات، وتشجيعه المتواصل من أمه التي طالما أحبته وغرست فيه حب الحياة منذ الصغر.
أما زملاءه وأساتذته فكانوا أسرته الجامعية التي اعتبرته جزءاً من كيانها الذي قد يتخلخل دونه، لا رأفة على حاله كشخص كفيف، ولكنه انتزع هذه المكانة بينهم لما عكسه من صورة مثالية عن الشاب الطموح، والطالب المجتهد الذي يحب جامعته وينتمي إليها.
وما كان من جراء انسجامه في نسيج الحياة الجامعية، إلا أن أفضى ذلك عن حبه لإحدى الزميلات التي رآها بقلبه المبصر فعشقها كما يعشق قلب شاعر وجه البدر في ليلة ظلماء، فرأى فيها زوجته ورفيقة طريقه الطويل، ولكنه يتساءل في نفسه متردداً: (أيحق لكفيف أن يهوى حسناء مبصرة يتمناها كل شاب لجمالها وحسن خلقها؟ أليس من الأفضل لي أن أبحث عن كفيفة مثلي ترضى بوضعي الصحي وتبادلني المشاعر، فتاة تعرف معنى الإعاقة لأنها عاشتها وارتشفت من كأسها؟).
لكن الأمر يبدو مختلفاً حين يبادله الطرف الآخر المشاعر نفسها إن لم يكن أكثر، فيتبدد الظلام إلى نور، ويختار القلب المحب كفيفاً يفضله على كل زملاء الكلية، ليكون شريك حياة، هذا ما صارحته به (ليلى) بعد شهور طويلة من الزمالة الجامعية والتعاون الدراسي معه، ولعل هذه المشاعر قد أثارت استهجان زميلاتها، حين وصفنها بمن ترمي نفسها في حياة تعيسة، تتحول فيها إلى مجرد خادمة لشخص عاجز لا يقوى على قضاء أبسط حاجياته – على حد قولهن – فكيف له أن يمنحها الأمان الإجتماعي والعاطفي ويحقق لها الإستقلال الإقتصادي، ويكون أباً لأطفالها، يشاركها تربيتهم، ويكون لها عوناً في حياتها لا عالة عليها…؟!.
بهذه الكلمات اللاذعة واجهتها زميلاتها، ولعل خلف هذه الكلمات شيء من المنطق، فليلى فتاة جميلة من عائلة محترمة قد تقدم لخطبتها أفضل الشبان، فلماذا تصر على ذلك الكفيف وتربط مصيرها بمستقبل مجهول؟!.
واكتملت دائرة المعارضة، وضاقت ليلى بالحيرة ومرارة المواجهة بين عاطفة يعتبرها الآخرون نزوة يجب التخلص منها، وبين الواقع الذي وجدت نفسها في مجابهة معه، فقد رفضت أسرتها وبشدة طلب (علي) الزواج منها، واستنكرت تلك الجرأة من شخص كفيفٍ جاء يتحسس طريق البيت باحثاً عن فتاة للزواج، فكان الرد قاسياً ذكّره بعينيه اللتين لم تبصرا النور، وبعصاه التي ربما لم تقده إلى المكان المناسب.
وعلى الرغم من مضايقات الأهل والمحيطين ونصحهم لها بالإبتعاد عنه، ظلت العلاقة تشتعل بين محبين جمعتهما روح واحدة، وألّفت بينهما رابطة وجدانية لم تطفئ أوارها تعليقات الآخرين، وتتحرر ليلى من خجل الأنثى لحظاتٍ لتقول لهم: (إن هذه المشاعر ليست شفقة على شخص معاق، إنه ليس ضعيفاً ليستحق الشفقة، إن كنتم ترونه معاقاً، فإنني أراه أقوى من زملائه المبصرين بروحه المتقدة الحماس، وعقله الوضّاء، وفكره الذي ينم عن إنسانيته النبيلة التي لم تعطلها حاسة عن أداء رسالتها في الحياة، أراه ملهماً لي أستمد منه القوة وزوجاً مثالياً يشاركني المستقبل).
إلا أن كل هذه التبريرات قد عجزت عن إقناع أسرتها بالزواج من (علي). وبعد أن تخرجا من الجامعة تجاوز الأمر مجرد الإجحاف بحريتها في الزواج من الشاب الذي تحب، ليتعدى الأمر ذلك فترغمها الأسرة على الزواج من شاب آخر قد جاء لخطبتها.
وحينما رفضت ليلى وغسلت الدموع مقلتيها حتى تورمت عيناها، وانعكس ذلك على وضعها النفسي، فساءت تغذيتها وقل نومها، حتى مرضت وهزل جسمها الذي أعياه التعب، ولزمت غرفتها لا تخاطب أحداً من المحيطين.
وأمام عنادها وتبريراتها، وبعد تدخل أحد الأقارب بعد أن استمر وضعها الصحي في تراجع، وافقت الأسرة – على مضض – من زواجها من (علي)، ولكن مع تحميلها كامل المسؤولية ولومها على ذلك الزواج، ولم يخل الأمر من مظاهر الحزن التي سادت أجواء الفرح، والتي أهمها عدم حضور والدتها مراسم العرس.
هي أمنية حققتها ليلى بعد طول عناء، وكانت بلا شك غالية الثمن، لكنها مستعدة لتحمل نتائج قرارها وتداعياته على علاقاتها الإجتماعية، فالمحبة شيء وواقع الزواج شيء آخر.
كانت البداية صعبةً عليها حين كانت تخرج مع زوجها الكفيف خارج البيت، تقود له السيارة، وتزور معه الأقارب والأصحاب، وتتسوق معه، تصف له كل شيء وتشركه في تصور كل ما تقع عليه عيناها، وله أن يسبح في فضاءات خياله لإكمال الصورة التي تشاهدها زوجته. كان يقول لها دائماً: (إني أرى كل ما تقع عليه عيناك، فأكره ما تكرهين وأحب ما تحبين). تلك هي الأرواح المجندة حين تجتمع في جسدين منفصلين فيكفي أن تكون في أحدهما حاسة ليزرعها في الجسد الآخر.
عاشت معه زواجاً مثالياً، أعطاها كل ما يملك، وفي كل يوم تمضيه معه يتكشف لها أن العيش مع من تحب هو أسمى من حاسة قد عطلتها حكمة الله، لتنبت مكانها حواس أخرى لا يدرك كنهها سواها من البشر.
ويتكلل هذا الزواج المبارك بعد مضي أولى سنواته بالمولود البكر الذي طالما حلمت ليلى به، فوجدته مستلقياً إلى جانبها بعد أن استفاقت من آلام المخاض، وكم كانت فرحتها الكبرى حين رأت والدتها تدخل عليها، تسبقها بدموع عينيها، فتعانقها لتغسل آلاماً مضت إلى غير رجعة، وفي غمرة مشاعر الأمومة تقاطعهما ( نور) التي بدأت تصرخ لتدوي صرختها بين أروقة المستشفى، تتوجه إليها جدتها تحتضنها.. تضمها.. تقبل نوراً أشرق من عينيها، تمتزج الدموع معاً لترسم لوحة تراجيدية يكمل معالمها دخول (علي) للمشهد، ترتسم ابتسامته على وجهه الوضاء كعادته، لم تحجب نظارته السوداء بصيرته النافذة التي كانت سر نجاحه، يسمع تمتمات في الغرفة فيقول: هذه رائحة العمة، كم انتظرت هذا اللقاء منذ زمن.
ويستدير الوجه المغسول صوبه.. تخرجُ أصواتٌ من حنجرة خجولة، تعتذر دموعها لسنة من الفراق، فتكسر صرخة نور المشهد مرة أخرى، وتتلقف الدفء من صدر أمها، وتبدأ رحلتها بلا عتمة، في كنف أبوين جمع كل منهما قوة المحبة والإيمان بالطرف الآخر، ولم يفرقهما ضعف الإعاقة.
- دكتوراه الفلسفة في التعليم الخاص والدامج ـ الجامعة البريطانية بدبي
- يعمل حالياً في إدارة رعاية وتأهيل أصحاب الهمم ـ وزارة تنمية المجتمع ـ دبي.
- له العديد من المؤلفات حول التقييم والتأهيل النفسي والتربوي وتشغيل الأشخاص ذوي الإعاقة.
- باحث مشارك مع مجموعة من الباحثين في جامعة الامارات العربية المتحدة للعديد من الدراسات المنشورة في مجال التربية الخاصة.
- ألقى العديد من المحاضرات والدورات وشارك في الكثير من المؤتمرات حول مواضيع مشكلات الأطفال السلوكية، وأسر الأشخاص المعاقين، والتقييم النفسي التربوي، التشغيل، التدخل المبكر.
- سكرتير تحرير مجلة عالمي الصادرة عن وزارة تنمية المجتمع في الإمارات.
- سكرتير تحرير مجلة كن صديقي للأطفال.
جوائز:
- جائزة الشارقة للعمل التطوعي 2008، 2011
- جائزة راشد للبحوث والدراسات الإنسانية 2009
- جائزة دبي للنقل المستدام 2009
- جائزة الناموس من وزارة الشؤون الاجتماعية 2010
- جائزة الأميرة هيا للتربية الخاصة 2010
- جائزة العويس للإبداع العلمي 2011