تعد لحظة الميلاد لأي إنسان مصدر فرح وسرور، وبدايةً لمرحلة جديدة في حياة الأسرة التي تستقبل وليدها بأسارير الحاضر المنفرجة، وآمال المستقبل الزاهر. إلا أن لحظة الميلاد هذه لدى رجال القانون لها وجه آخر يشكل وسيلة حماية فرحة الحاضر وتحقيق آمال المستقبل. فالإنسان بمجرد ولادته حاملاً تلك الصفة تثبت له جملة من الحقوق الأساسية، التي تشكل في مجموعها نطاقاً من الحماية القانونية، التي تضمن للوليد الصغير الحق في الحياة، وسلامة الجسد، والصحة والتعليم.
واكتساب هذه الحقوق إنما يتأتى من خلال ثبوت الأهلية القانونية لكل من دلف هذه الحياة محمولاً، وتلازمه حتى يخرج منها محمولاً. فما تراها ماهية هذه الأهلية القانونية، وما عساه يكون أثرها على ممارسة الحقوق والحريات؟
ماهية الأهلية القانونية وأقسامها
الأهلية القانونية ببساطة، هي اعتراف القانون للشخص بحقوقه الأساسية الممنوحة لأمثاله، وحقه في التمتع بتلك الحقوق، وممارستها على أساس من المساواة مع الآخرين. والدولة بوصفها المكلف الأول بإنفاذ أحكام القانون، يقع عليها عبء كفالة تلك الحقوق، وتوفير ما يلزم لممارستها للأفراد كافةً، دون تمييز على أي أساس كان.
فالأهلية القانونية بهذا المعنى لها شقان أساسيان لا يقبلان التجزءة أو المفاضلة: شق يتعلق باكتساب الحقوق وثبوتها، وهو ما يعرف بأهلية الوجوب، وشق آخر يتعلق بممارسة تلك الحقوق، وما يستتبع ذلك من القيام بالتصرفات القانونية والواقعية اللازمة للتمتع بتلك الحقوق تمتعاً كاملاً، وهذا الشق يعرف بأهلية الأداء.
-
أهلية الوجوب
كما هو واضح من تسميتها، فإنها تعني أن الحقوق قد وجبت للشخص بغض النظر عن ديانته أو لونه أو حالته الصحية الخ. وثبوت الحقوق الأساسية بهذا المعنى ينطوي على اعتراف بالشخصية القانونية للإنسان، بوصفه شخصاً طبيعياً، وفقاً للاصطلاح القانوني الدارج في فقه القانون المدني. فلا يشترط إذن في ثبوت أهلية الوجوب إلا أن يولد الشخص إنساناً حياً، ليس به مسخ يخرجه عن دائرة المخلوقات الآدمية، وفقاً لما يحدده أهل الخبرة من علماء الطب وعلم الأحياء.
-
أهلية الأداء
وهذا الشق من الأهلية القانونية يتعلق بثبوت الصلاحية القانونية لما يقوم به الشخص من تصرفات وأعمال، للتمتع بالحقوق على النحو الأكمل. وهذا يفترض بداهةً أن الشخص قادر على اتخاذ القرارات، وفقاً لإرادة حرة مستنيرة يعبر عنها بوضوح وجلاء. فالحق في التعليم يستتبع اختيار مجال التعليم ودرجته ومكانه، والحق في الصحة يستتبع الموافقة على ما يتم اتخاذه من إجراءات طبية وقائيةً كانت أو علاجيةً في مواجهة الشخص. وكلا الأمرين ـ الاختيار في التعليم والموافقة في المجال الصحي ـ يتطلبان معرفة الشخص بالخيارات المختلفة، ومزايا كل منها ومساوئه، حتى يقوم بالموازنة وفقاً لما يتراءى له من اعتبارات، إلى أن يصل إلى قرار محدد يعبر عمّا استقرت عليه إرادته الحرة.
فالإحاطة بجوانب الأمور والتعبير عن الإرادة هي قوام أهلية الأداء، كما هو مستقر عليها في فقه القانون المدني. ولما كان الإنسان منذ ولادته وحتى بلوغه سن الرشد، يمر بمراحل تطور مختلفة من الناحيتين الذهنية والجسمية، فقد أرسى القانون مبادئ وقواعد عامة تحكم أهلية الأداء تضييقاً وتوسيعاً بحسب كل مرحلة. فحجب عن الصبي غير المُميز الذي لم يبلغ السابعة أهلية الأداء بالكلية، واعترف بأهلية محدودة جداً للصبي المميز، تنحصر في التصرفات النافعة نفعاً محضاً، أي التي لا ترتب على الصغير أي التزام، وتعود عليه بالنفع المطلق، كما هو الحال في الهبة والتبرع غير المشروط. ثم يتدرج القانون مع مراحل نمو الشخص فيعترف له بأهلية أداء أوسع نطاقاً قبل بلوغه سن الرشد بقليل، فيقر له بصحة التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، مع إبقائها قابلةً للإبطال حال بلوغ سن الرشد، ثم ينتهي المطاف بأهلية الأداء عند بلوغ سن الرشد لتصبح كاملةً مكتملةً لا قيد فيها ولا شرط، اللهمّ، إلا ما تعلق بالنظام العام والآداب.
وعلة التدرج في نطاق أهلية الأداء كما يبيّنه شراح القانون وأحكام القضاء، تكمن في عدم قدرة الشخص في مراحل معينة من عمره على التمييز بين ما هو نافع وما هو ضار بمصلحته، لذلك أوكل القانون لوليه أو وصيه مهمة النيابة عنه، في كل ما يحتاج إلى اتخاذ قرار وتعبير عن إرادة، وذلك كله وفق تفصيل وتأصيل تضمنته أحكام الولاية على المال والقوامة والوصاية.
وإذا كانت علة النيابة في أحكام الولاية والوصاية مردها عدم القدرة على التمييز بدرجات متفاوتة، ولما كان هناك من عوارض الأهلية ما يتعلق بأنواع محددة من الإعاقات النفسية والذهنية، ولما كان التعبير عن الإرادة من مستلزمات ممارسة تلك الأهلية، وإذا كان معلوماً أن ثمة أنواعاً من الإعاقات تحتاج إلى وسائل مختلفة للتعبير عن إرادة أصحابها، فإن التساؤل يثور عن الأثر المحتمل للإعاقة على أهلية الأداء.
حقيقة أثر الإعاقة على نطاق أهلية الأداء
لقد كانت المادة 12 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة مثار جدل كبير ما زالت أصداؤه تتردد حتى الآن، بين الدول المختلفة ومنظمات المجتمع المدني، وبصفة خاصة منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة.
وبموجب الفقرة الثانية من هذه المادة، تعترف الدول الأطراف للأشخاص ذوي الإعاقة بأهلية قانونية كاملة على أساس من المساواة مع الآخرين، وتقدم أشكالاً من الدعم القانوني والقضائي للمساعدة على اتخاذ القرار وفقاً لما ورد في نص الفقرة الثالثة من هذه المادة. وقد أبدت جل الدول العربية وروسيا والصين وبضع دول أخرى تحفظها على نص هذه المادة متعللةً بأن الأشخاص ذوي الإعاقات النفسية والذهنية ليسوا محلاً لأهلية الأداء، بل هم يستأهلون فقط أهلية الوجوب، شأنهم في ذلك شأن الصبي غير المميز على التفصيل الذي أوردناه آنفاً. وقامت تلك الدول بوضع حاشية في مسوَّدة نص المادة 12، تقول إن الأهلية القانونية الواردة في نص الفقرة الثانية تنصرف إلى أهلية الوجوب، وليس أهلية الأداء، وذلك في سياق اللغة العربية والروسية والصينية. وبعد جدال ومناقشات طويلة، وافقت المجموعة العربية ومن حذا حذوها على شطب تلك الحاشية، إلا أن هذه الدول أعربت في اجتماع الجمعية العامة لتبني الاتفاقية عن أنها تفهم وتفسر الأهلية القانونية الواردة في نص المادة المذكورة على أنها أهلية الوجوب وليست أهلية الأداء.
ولتحليل هذا الموقف من جانب معظم الدول العربية، فإننا نطرح السؤال الآتي: هل يعد الأشخاص ذوو الإعاقة من حيث اتخاذ القرار والتعبير عن الإرادة بمثابة الصبي غير المميز؟ ثم هل ميزت الدول العربية في تحفظها بين إعاقة وأخرى، وبين الإعاقة الشديدة والمتوسطة والبسيطة؟
في الواقع، إن الصور النمطية السائدة عن الإعاقة والفهم الخاطئ الذي غالباً ما ينبني على رؤية شخصية أمور كانت المحرك الأساس لهذا الموقف المتحفظ تجاه المادة 12 من الاتفاقية. وقد تعللت الدول العربية بأحكام الولاية على المال والوصاية المستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية، وادّعت هذه الدول أن الاعتراف بأهلية كاملة للأشخاص ذوي الإعاقة يخالف النظم التشريعية الخاصة وهو من بعد يخالف أحكام الشريعة الغراء.
والحقيقة أن هذا التبرير يفتقر إلى الدقة وسلامة المنطق. فهو غير دقيق لأنه يسوّي بين الإعاقات على اختلاف أنواعها ودرجاتها. فنصّ الحاشية المحذوفة وما جاء في البيانات التفسيرية المعلنة، ينبئ بتعميم جائر يشمل الإعاقات كافةً نفسيةً وذهنيةً وبصريةً وسمعيةً الخ. وحتى إذا سلمنا جدلاً بما أثارته بعض الوفود بشكل غير رسمي حول الإعاقات النفسية والذهنية، فإن حجة تلك الوفود تظلُّ واهيةً، لكون الإعاقات النفسية والذهنية بها من التنوع ما يستحيل معه الحكم عليها جملةً واحدة، من حيث أثرها في قدرة الشخص على التعبير واتخاذ القرار.
أما من حيث أن دعوى تلك الدول تفتقر إلى سلامة المنطق، فذلك لكون التعلل بأحكام الولاية على المال ومبادئ الشريعة الغراء إنما استخدم في غير محله ودون تأمل وتمحيص.
فالثابت فقهاً وقانوناً أن النيابة في التصرفات تدور علتها مع مصلحة الأصيل وجوداً وعدماً، فالولي أو الوصي يتصرف وفقاً لما تمليه مصلحة الشخص، التي تتحدد وفقاً لضوابط قانونية وتحت رقابة القضاء، فالولي لا يتصرف وفقاً لهواه أو لما يعتقد هو أن فيه مصلحة من كان تحت ولايته.
وقد احترم المشرع إرادة الشخص إلى حد أنه جعل ما يبرم من تصرفات في مرحلة عمرية معينة قابلاً للإبطال متى عبر الشخص عن إرادته بعد بلوغه سن الرشد بل أكثر من ذلك، فإن معظم نصوص القانون المدني في الدول العربية توجب على المحكمة انتداب خبير في حال تعذر التعبير عن الإرادة من جانب الشخص الأصم أو الأبكم أو الأصم الكفيف، ثم إن هذه النصوص تعطي مكنة الاستعانة بمساعد قضائي يساعد الشخص على اتخاذ القرار، وفي حال صدور أي إشارة تعكس إرادة الشخص وتفهمها المحكمة، فإن كل هذا يطرح جانباً ويؤخذ بما عبر عنه الشخص.
فالعبرة إذن دائماً بمكنون الإرادة وما يعبر عنه صاحبها. والقول بأن الأشخاص من ذوي الإعاقة لا يستأهلون التمتع بأهلية الأداء، يعني أن القائلين بهذا الرأي ينفون عن الأشخاص ذوي الإعاقة الإرادة نفياً تاماً، منزلينهم منزلة الصبي غير المميز. وهذا هو الإجحاف والافتئات بعينه. فأصحاب هذا التوجه يخلطون بين توافر الإرادة والتعبير عنها. فتعذر التعبير عن الإرادة بالوسائل المألوفة لا ينفي عن صاحبها وجودها واقعاً وقانوناً.
وثمة نقطة أخرى غاية في الأهمية في هذا الصدد، ألا وهي أن المسألة يمكن النظر إليها من زاويتين مختلفتين تؤدي كل منهما إلى نتائج مختلفة. فالرائج في عوارض الأهلية، وتحديداً فيما يخص الإعاقة، القول بأنه يتعذر على الشخص التعبير عن إرادته. وهذا مؤداه أن تبعة ذلك التعذر إنما تقع على الشخص نفسه. في حين أن المسألة قد تأخذ منحى آخر إذا ما قيل: تعذر فهم الإرادة، إذ في هذه الحالة سوف تكون تبعة تعذر الفهم واقعةً على المتلقي وليس على الشخص، الأمر الذي يحتم على الجهات ذات العلاقة، وبصفة خاصة المحاكم اتخاذ ما يلزم لتتمكن من فهم الإرادة على نحو دقيق لا لبس فيه. فعدم فهمنا لأمر ما لا يعني بحال نفي ذلك الأمر واعتباره غير موجود. فعدم فهمك للغة الصينية، مثلا، لا يعني أن اللغة الصينية غير موجودة، أو أن الشخص الذي يتحدث هذه اللغة ليست لديه أهلية الأداء أمام المحاكم العربية والعكس بالعكس.
وبناءً عليه، فإن الأشخاص من ذوي الإعاقات النفسية والذهنية لديهم، ولا ريب، إرادة ورغبات وميل، واستجلاء ذلك كله يحتاج إلى وسائل داعمة متخصصة تتيح استقراء مكنون الإرادة لدى هؤلاء الأشخاص، وتختلف تلك الوسائل تبعا لنوع الإعاقة ودرجتها. وعدم إلمامنا بالمعرفة اللازمة لتحقيق ذلك الاستجلاء والاستقراء لا ينفي عن هؤلاء الأشخاص أهليتهم القانونية في شقها المتعلق بالأداء.
وإذا كانت المصلحة كما سبق البيان هي مناط الأحكام الخاصة بالولاية والوصاية، فإن لا أحد يجادل في أن مصلحة الشخص تكمن في تنفيذ ما تنصرف إليه إرادته، بما لا يخالف النظام العام والآداب. فإذا كان ذلك كذلك، وجب تحري إرادة الأشخاص من ذوي الإعاقات النفسية والذهنية وغيرها، وتقديم المساعدة القضائية التي تسهل اتخاذ القرار الأقرب لإرادتهم.
إن ما نقول به ليس وجهة نظر شخصية، بل هو تطبيق لصحيح القانون، وإعمال لعلة التشريع في هذا الصدد. فإذا ما علمنا أن الكثير من النظم القانونية تحترم إرادة الشخص الذي دخل في غيبوبة تامة غير مرتجعة، إذ توجب تلك النظم، في حال تعذر الاستدلال على ما قد يكون عبر عنه الشخص قبل دخوله في الغيبوبة، الأخذ بعين الاعتبار الظروف البيئية والاجتماعية والثقافية للشخص، بحيث تقوم حالة افتراضية كاملة يُتخذ بناءً عليها قرار ما، فإنه يتبين لنا مدى الإجحاف بحق الأشخاص ذوي الإعاقة، والادعاء بأنهم ليسوا أهلا لاكتساب أهلية الأداء على أساس من المساواة مع الآخرين.
يتضح، إذن، أن حجة الدول التي أبدت تحفظها على الاعتراف للأشخاص ذوي الإعاقة بأهلية قانونية كاملة، هي حجة واهية لا سند لها من منطق أو قانون. وحسب هذه الدول أن تنظر حولها لتطالع نماذج من الأشخاص ذوي الإعاقة النفسية والذهنية ممن برزوا وساهموا في تغيير دفة الحركة الصناعية والثقافية والعلمية والتشريعية وغيرها. فهل يقول أحد بأن مثل هؤلاء لا يمكن الاعتراف لهم بأهلية الأداء التي يعترف بها للأميين، بل وحتى للمنحرفين من أفراد المجتمع؟ إن هذا لعمرك هو التمييز البيّن الذي قلّ أن تجد له أي نظير، وإن كان له في كل محفل عندنا ظهير.
أثر إنكار أهلية الأداء على ممارسة الحقوق والحريات
لقد سبق أن أشرنا إلى أن أهلية الأداء هي ترجمة للحقوق التي يكتسبها الشخص بمقتضى أهلية الوجوب. فإن أي حق لا يتمكن الشخص من ممارسته بحرية واستقلالية سوف يكون فارغاً من مضمونه، ولا يتعدى أثره الصفحات التي كتب فيها. فإذا كفل القانون الحق في الخصوصية مثلاً، فما جدوى هذا الحق إن لم يكن بوسع الشخص أن يبدي رفضه أو موافقته على الاطلاع على ما يخصه من معلومات شخصية أو طبية أو غيرها؟ وإذا كان الحق في العمل ثابت للجميع، فكيف يمكن تصور تمتع الشخص بهذا الحق، دون أن يكون بوسعه إبرام العقود والتوقيع عليها والاختيار بين مجالات العمل المختلفة؟ ويقاس على ذلك سائر الحقوق التي يعد من أوجه ممارستها اختيار طريقة تلك الممارسة ووسيلتها دون قيد، إلا قيد عدم التعسف والتزام النظام العام والآداب، وما شاكل ذلك من القيود العامة المعروفة لدى رجال القانون.
والاعتراف للأشخاص ذوي الإعاقة بحقوقهم الأساسية مع حرمانهم من اتخاذ القرارات اللازمة لممارسة تلك الحقوق، أو الحد من قدرتهم على القيام بالتصرفات القانونية المنبنية والمتفرعة عنها، كل ذلك يعد وبحق تسويفاً غير مقبول، وإفراغاً لهذه الحقوق من كل مضمون لها.
ولا يقتصر الأمر في هذا المقام على الإعاقات النفسية والذهنية، بل إن الأشخاص ذوي الإعاقات المختلفة يواجهون قيوداً تحد من أهلية الأداء المقررة لهم قانوناً ودستوراً. فالأشخاص من ذوي الإعاقات السمعية ليس لهم في الكثير من الدول العربية مكنة الدخول إلى الجامعات، وإن دخلوها فليس لهم الاختيار بين فروع العلوم المختلفة، بل يجب أن يدخلوا قسم التربية الخاصة أو ما شاكلها وإلا فلا. ويعد عدم التواصل مع الصم على نحو فعال من أبرز العقبات التي تحول دون تمتع هؤلاء بأهلية قانونية كاملة، سواء كان ذلك في الدوائر الحكومية أو الخاصة، ناهيك عن التواصل مع المحكمة في حال وجود نزاع أو اتهام.
والأشخاص من ذوي الإعاقات البصرية يواجهون قيوداً عدة في تعاملاتهم اليومية وحقهم في الخصوصية. فالشخص الكفيف في كثير من الدول لا يستطيع أن يودع أو يسحب من حسابه البنكي الخاص، إلا بوجود شاهدين يطلعان على ما أودع أو ما أخذ وما في حسابه. وكذلك فإن قيام الشخص الكفيف بالبيع أو الشراء أو توكيل محامٍ يتطلب دائماً وجود ما يسمى في بعض الدول بالمعين أو المساعد، الذي يجب أن يشهد بأن الشخص الكفيف يقوم بما يقوم به من تصرفات تحت ناظره وبحضوره. هذا بخلاف الشهادة العادية المطلوبة في بعض العقود والتعاملات.
إن إنكار أهلية الأداء على الأشخاص ذوي الإعاقة يعني أن هؤلاء الأشخاص يفترض فيهم الجهل وعدم القدرة على تقييم الأمور مهما بلغ شأنهم في العلم والمعرفة، وغالباً ما يكون القيّم عليهم في تصرفاتهم أقل منهم علماً وخبرةً، إلا أنه لديه كلمة السر ألا وهي الخلو من الإعاقات.
ودون أن نخوض في فساد حجج هذا التوجه الذي يلقي بتبعة نقص المعرفة والتهيئة على الأشخاص ذوي الإعاقة، فإننا نشير إلى أن الفيصل في هذا المقام يتعلق بالبيئة التي يجب أن تزال فيها العوائق المادية والمعنوية، بحيث يتاح للأشخاص ذوي الإعاقة وسائل ملائمة تتيح لهم التعبير عن إرادتهم والقيام بالتصرفات القانونية، باستقلالية تامة يغلفها حرم منيع من الخصوصية واحترام حرية الاختيار.
وثمة نقطة هامة يجب معالجتها حتى تستبين سبيل المنصفين، ألا وهي مدى وجاهة الاحتجاج بأحكام الشريعة الغراء للانتقاص من أهلية الأشخاص ذوي الإعاقة. وهذا ما نتولى إيجازه فيما يأتي.
وضع المسألة في الشريعة الإسلامية
إننا لا نغالي في القول إذا ما قررنا أن الشريعة الغراء تعد حجةً على من ادّعى وجوب الانتقاص من أهلية الأشخاص ذوي الإعاقة لا حجةً لهم. فقد منح الشارع الحكيم الأشخاص ذوي الإعاقة أهليةً قانونيةً غير محدودة. فحسبك بعمرو أو عبد الله بن أم مكتوم أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان كفيفاً، فقد عهد إليه النبي عليه السلام أكثر من 31 مرةً بالولاية على المدينة، التي شهدت نواة تكون الدولة الإسلامية. وهذا يعني أن الإسلام قد أقر بأهلية الحكم للأشخاص ذوي الإعاقة متى توافرت فيهم الشروط والضوابط الشرعية الأخرى. وهذا الصحابي نفسه توفي في معركة القادسية حيث خرج مقاتلاً حاملاً الراية للجيش، فما نهره أحد بدعوى أنه مسكين مكانه البيت والمسجد فقط، فأي نظام لدينا اليوم يسمح للأشخاص ذوي الإعاقة بتولي المناصب أو الانخراط في القوات المسلحة؟ لقد فهم السلف ما غاب عن الخلف، فنظروا إلى الإعاقة ضمن محيطها البيئي وكلّفوا هذا الصحابي الجليل بمهمة قتالية تتناسب ومتطلبات إعاقته، وهذا نوع ممّا يعرف اليوم بالترتيبات التيسيرية المعقولة، كما وردت في نص المادة 2 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
فإذا ما تعمقنا قليلا في البحث، فإننا نجد أن الشارع الحكيم قد أعطى الأشخاص من ذوي الإعاقات الذهنية والنفسية بمصطلح اليوم، مكنة إبرام التصرفات القانونية المالية التي تصنف وفقاً للقانون المدني على أنها من التصرفات الدائرة بين النفع والضرر. فالآية 282 من سورة البقرة المعروفة بآية الدين واضحة تماماً، في أن الشخص الذي عليه الحق قد يكون سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يُمِلّ بنفسه، وفي هذه الحالة أمر ربنا تبارك وتعالى وليه أن يملَّ له بالقسطاس المبين. والملاحظ في هذا الحكم، أن الشارع الحكيم إنما جعل مناط الولاية العدل وليس الحلول محل الأصيل، واتخاذ ما يرتئيه النائب وفقاً لتقديره أو هواه. كما تجدر ملاحظة أن الدين يعد من التصرفات الدائرة بين النفع والضرر في جانب المدين، أما في جانب الدائن، فإنه من التصرفات الضارة ضرراً محضاً نظراً لعدم مشروعية الفوائد وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، فإذا كان بوسع الشخص ذي الإعاقة الذهنية أو النفسية أن يبرم عقود الدين بوصفه دائناً وفقاً لشروط وضوابط معينة، فإنه يتجلى مدى نطاق الأهلية القانونية التي أعطاها الشارع الحكيم للأشخاص ذوي الإعاقة.
فأين من احتجوا بالشريعة الغراء من هذه الأمثلة والأحكام؟
وقد احترمت الشريعة الإسلامية حرية الاختيار حتى أنها غلّبتها على بعض الرخص والاستثناءات، كما هو في حالة انخراط بن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ في الجيش وترخيص الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن الجموح ـ رضي الله عنه ـ الذي كان أعرج، أو ذا إعاقة حركية بمفهوم اليوم بالقتال في موقعة أحد، على الرغم من أنه مُعفى من الخدمة العسكرية وفقاً للاصطلاح الدارج. إن هذا الاحترام لإرادة الأفراد وحقهم في الاختيار ينبئ عن نظرة متقدمة لحق الشخص في ممارسة أهليته القانونية، على أساس من المساواة مع الآخرين.
فإذا ما رغب راغب بأمثلة من حاضر زماننا، فإننا نحيله إلى ما صدر من فتاوى كان من أحدثها فتوى مفتي الديار المصرية د. علي جمعة الذي بين فيها حق الأشخاص من ذوي الإعاقات الذهنية والنفسية بالزواج.
خلاصة القول، إذن، إن الشريعة الغراء تعزز أهلية الأداء للأشخاص ذوي الإعاقة، هذا، فضلاً عن أهلية الوجوب، وإن احترام حق الشخص في الاختيار واتخاذ القرار غالب ومعتبر، على نحو لا نجد له مثيلاً أو حتى بدرجة أقل في التشريعات الوطنية الحالية.
بين الاتفاقية والتشريعات الوطنية، إلى أين؟
لقد بات واضحاً مدى تأثير الانتقاص من الأهلية القانونية للأشخاص ذوي الإعاقة على تمتعهم بالحقوق والحريات الأساسية بالمساواة مع الآخرين. وهذه المسألة تطرح تساؤلاً غايةً في الأهمية، ألا وهو: هل أحكام الأهلية كما وردت في المادة 12 فقرة 2 من الاتفاقية ونصها: (تقر الدول الأطراف بتمتع الأشخاص ذوي الإعاقة بأهلية قانونية على قدم المساواة مع آخرين في جميع مناحي الحياة)، تعد مما يجوز التحفظ عليه؟
تنص المادة 64 فقرة 1 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على أنه: (لا يجوز إبداء أي تحفظ يكون منافيا لموضوع هذه الاتفاقية وغرضها)، فإذا ما تساءلنا عن غرض الاتفاقية، أجابتنا المادة 1 من الاتفاقية التي نصت على أن: (الغرض من هذه الاتفاقية هو تعزيز وحماية وكفالة تمتع الأشخاص ذوي الإعاقة تمتعاً كاملاً على قدم المساواة مع الآخرين بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وتعزيز احترام كرامتهم المتأصلة).
إذن، فغرض الاتفاقية يتمثل في تعزيز تمتع الأشخاص ذوي الإعاقة بحقوق الإنسان وكفالة ذلك وحمايته، ليس هذا فحسب، بل يجب أن يكون هذا التمتع كاملاً وعلى أساس من المساواة مع الآخرين. وفي ضوء ما بيّناه من مدى تأثير الانتقاص من الأهلية القانونية للشخص على أساس الإعاقة على ممارسته لحقوقه وتمتعه بها، فإنه يبدو جليّاً أن الأحكام الخاصة بالأهلية القانونية الواردة في المادة 12 فقرة 2 تعد من موجبات تحقيق الغرض من هذه الاتفاقية. فأي تعزيز وكفالة للحقوق وأي تمتع كامل بها يمكن تصوره في ظل قيود قانونية تنزل الشخص ذا الإعاقة منزلة الصبي غير المميز؟ ثم كيف يمكن الحديث عن المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص في واقع لا يملك فيه الشخص أن يصدر ورقةً عرفيةً تحمل توقيعه.
ومن جهة أخرى، فإن احترام الكرامة المتأصلة بوصفه من مكونات غرض الاتفاقية، لا يتصور أن يستقيم مع تحجيم الأشخاص وتحقير إرادتهم وقدراتهم القانونية والفعلية. فهل من باب احترام الكرامة إبطال كل ما يقوم به الشخص من تصرفات، ما لم يكن مؤيداً بموافقة القيم أو الوصي؟ إن هذا لهو العجب العجاب الذي ينبئ عن ترسخ المفهوم الرعائي والمنظور الطبي للأشخاص ذوي الإعاقة بوصفهم، مرضى وليسوا أصحاب قضية.
ويبقى السؤال معلقا، وماذا بعد؟
إن قضية الأهلية القانونية تتطلب تضافر جهود منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة وحقوق الإنسان وأعضاء المجالس التشريعية؛ حتى يمكن الوصول إلى فهم مشترك لهذه المسألة، يؤدي في النهاية إلى اعتراف كامل وفاعل بالأهلية القانونية للأشخاص ذوي الإعاقة.
أما من حيث أنه كامل، فلأنه يجب أن يشمل أهلية الوجوب والأداء سواءً بسواء.
وأما من حيث إنه فاعل، فلأنه يجب أن يقترن بتبني وسائل قانونية وقضائية جديدة تتيح للشخص عند الحاجة تلقي الدعم اللازم لاتخاذ قراره بما يعكس مكنون إرادته ويضمن استقلاليته وخصوصيته، والتعبير عن الإرادة قد يحتاج هو الآخر إلى أشكال مختلفة من الدعم والمساعدة الفنية التي يجب أن تظلّ دائماً وأبداً تحت إشراف القضاء ورقابته.
باحث متخصص في الشؤون القانونية وحقوق الأشخاص المعاقين أحد المشاركين في صياغة نص الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص المعاقين.
يحمل درجة الدكتوراه في القانون الجنائي من جامعة الإسكندرية (2002)، من مؤلفاته كتاب بعنوان: «الحماية الجنائية للجسم البشري في ظل الاتجاهات الطبية الحديثة»، صدر عن دار النشر الجديدة للنشرالإسكندرية في العام نفسه.
عمل منسقاً لمنطقة الشرق الأوسط للحقوق وكسب التأييد، منظمة هانديكاب إنترناشونال، عمان الأردن، وعضواً في مجلس أمناء المركز الوطني في الأردن.