في حديث شيق على المحمل «عارف» الذي يقبع اليوم في مدخل قرية البوم السياحية شاهداً على الماضي وجماله وقصة التاريخ الذي يجسده بخشبه الذي أبحر سنوات في رحلات تجارية ورحلات حجاج، سألت: كم عدد الحجاج الذين كان ينقلهم في كل مرة، فقيل لي: ما يقارب الـ 300 حاج.
قد تتساءل: كيف، فهو ليس بالحجم الذي قد يمنح الكثير من المساحات لكل فرد أو يمكن أن يوفر خصوصية لكل شخص يرتحل على متنه.
كان الجواب الذي احتوى دروساً كثيرة: «هي حالة من القبول بالآخر». نعم هو ذلك الماضي الذي كان فيه كل فرد يحاول أن يكون جزءاً من الآخر يخاف عليه ويسأل عنه. يسأل عن حاله وأحواله فما بالك حين يسافر معه فيغدو هو كل الوطن له وكل الحاجة التي تنحصر في زوايا ومتر مربع لربما.
على محمل «عارف» وغيره من المحامل التي تقبع اليوم في متاحفنا ورواسينا نتأمل الكثير من قصص التضحيات والتعب والسفر الذي لم يكن إلا حاجة ملحة وغربة من أجل الرزق قبل المكان أو السياحة.
اليوم نعيش كل مظاهر الفخامة والمساحات الشاسعة والأماكن الكثيرة لكن هل نتشاركها مع من نحب؟ هل نعي أن الحياة ليست إلا ذاكرة لمكان فيها أفراد يشاركوننا قصصهم، يومياتهم، حالاتهم، وبعضاً من أفكارهم والكثير من مشاعرهم وحبهم؟
ليس في ذلك أي تكلف أو تصنع، بل شفافية وتخلٍ عن أي صورة من الأنانية والتكلف وأحياناً حالات الغرور التي قد تجعلنا نتوهم أفضليتنا أو أننا جئنا من كوكب مختلف عن البشر.
ليسأل كل منا جده أو جدته: كيف كانت ميزة الحياة؟ وكيف كانت راحة البال سمة والطمأنينة متوشحة أرواحهم؟ وكيف أن الهدوء والتآلف كانا سمة حياتهم؟
بين أروقة تلك الأماكن والفرجان كانت تقام الأفراح بين الكل وكانت الألعاب. لا خوف ولا إحساس بأن هناك نفوساً مريضة أو عقولاً لا تخاف على طفل غيرهم.
الماضي برائحته وعبقه، نهاره الذي يبدأ مع خيوط الشمس الأولى وينتهي بعد صلاة العشاء. وإن طال كانت المجالس هي المكان الذي يحتوي كل تلك الأجساد المتعبة في أحاديث اجتماعية تجمعهم وتعتق ما بقي من اليوم. لا كدر ولا ضغائن أو حتى أحقاد.
كان الغني هو الأب الذي تراه يتفقد الكل. كان الابن لعائلة غنية يعي أنه لا يجوز له أن يتكبر أو يترفع على غيره. تربيته متأصلة بأن الكل له احترامه وأن ما يفرقه عن غيره خلقه وعكسه لصورة أمه وأبيه اللذين ربياه. الأرجوحة (الميرحانة) التي تتعلق في مكان ما تتقاسمها الفتيات ويضحكن ويمرحن من دون أن تستبد طفولتهن على صدق صداقتهن.
على «عارف» سمعت القصة وأيقنت أن بعض الأماكن تبقى حية حتى تذكرنا وتعطينا دروساً في الحياة فيها من الإيثار ما هو منهج وتربية.
تعلمنا أن تكون القيم والأخلاق عنواننا والتسامح وقبول بعضنا منهج حياتنا حتى ندرك حقيقة الوجود والإحساس بالآخر.