تطورت الحياة تطوراً كبيراً وتغيرت المفاهيم الطبية حول تفسير ظواهر جسمية ما كان أحد في الماضي يعرف لها سبباً إلا الأرواج الشريرة أو تلبس الشياطين والعياذ بالله.
ومن أوائل المشكلات في علم الأعصاب والتي نالت حظاً معقولاً ولا نقول كبيراً جداً من البحث والدراسة والتقصي كانت ظاهرة الصرع. إن تقدم علوم التشريح والأمراض ورسم المخ كهربائياً والأشعة المقطعية بالكمبيوتر والرنين المغناطيسي.. إلى ما هنالك من فحوص جديدة تطبق الآن على نطاق ضيق وتعتبر متقدمة لقياس التمثيل الغذائي والدورة الدموية في المراكز المختلفة من المخ.. كل ذلك كان من شأنه المساعدة في تشخيص وتصنيف حالات الصرع وأمراض عديدة تصيب المخ والجهاز العصبي المركزي. هنا تجدر الإشارة إلى ظاهرتين في غاية الأهمية أرجو النظر إليهما بعين الإعتبار.
الظاهرة الأولى: نتخيل أنفسنا قبل اختراع الأساليب السابق ذكرها والتي ـ ولله الحمد ـ ساعدتنا في النظر إلى تشريح المخ بشكل ممتاز. المريض في ذاك الزمان كان يعاني من نوبات صرع متعددة، وكل المحيطين به يظنون أن الشيطان سبب فيما هو عليه، فيكوى المريض المسكين بالنار ويضرب ويخنق بالبخور إلى آخر ما هنالك من قائمة الخزعبلات.. وعلى العكس من ذلك ففي زماننا الحاضر يعرف المريض ويشاهد هو وأهله وأصدقاؤه وبعد دقائق معدودة من الفحص على الدماغ سبب مشكلته كأن يكون ورماً في الدماغ أو جلطة كبيرة في نسيج المخ أو زيادة كهربية في بؤرة بالمخ دون تغير نسيجي.. إلى آخر ذلك من الأسباب المعروفة للصرع.
ومع تأمل المفارقة المحزنة هذه نخرج باستنتاجات عديدة؛ إن الفكر الخرافي السطحي حطم حياة أناس كثيرين بإدعائه أسباباً أسطورية نسجتها عقول بدائية وأثبتت إنجازات بشر آخرين خلال زمن بسيط كذب وادعاء أولئك المدمرين.. ونخلص كذلك إلى ضرورة عدم التسرع في ظلم المريض أو ظلم أنفسنا أو التخبط مراراً وتكراراً لإيجاد حل للمشكلة فإن لم نصل فسوف يكون عملنا لبنه جديدة تضاف إلى بناء طبي وفكري يؤدي تراكمياً ـ وكما هي سيرة العلم دائماً ـ إلى حل مشكلة مريض آخر في مستقبل ربما كان قريباً جداً.
الظاهرة الثانية: هناك سوء استعمال وتفسير لنتائج الفحوص الطبية الحديثة، فمع انتشار الآلات في كل بقاع العالم ورخصها النسبي بسبب تنافس الشركات والإنتاج المتزايد وتعدد المصادر وتقليد ونقل وسرقة البرامج، فإن في جيب أي فرد الآن ثمن إجراء فحص طبي، يذهب إلى المركز الخاص بذلك ويجريه ويأخذ النتيجة إلى الطبيب، أو يسأل باجتهاداته أصنافاًة عديدة من المحيطين به، ومنهم المتعالم والمدعي والمتهور، فيدلي كل بدلوه دون علم أو اختصاص، مع علمنا أن هناك من يفسر بالشبه أو الظن.
ومع انتشار هذه الظاهرة في العالم أجمع فنحن في مجتمعنا تحديداً نعاني منها بوضوح تام فقد انتشرت الأفكار المغلوطة والخاطئة ولكن بصيغ أخرى، ومنها في مقامنا الحديث عن مسألة الصرع، إن الحالة الاكلينيكية ـ أي الأعراض في حالة المريض ـ والتي يشكو منها هو والمحيطون به في حالة فقدانه الوعي بالإضافة إلى نتائج الفحوص والطبيب المتخصص أمور كافية لتشخيص الحالة ونوعها، والصرع أنواع عديدة فمنه الصرع اللاحركي والصرع الأصفر والتشنجات الحمية والصرع الضوئي المنشأ.. إلخ.
ولكن، ومع الأسف الشديد يفسر بعض الناس وجود تغيرات كهربية في رسم كهرباء الدماغ على أنها حالة صرع بينما أثبتت الأبحاث العلمية أن بين الأشخاص الطبيعيين والذين لم يعانوا ـ ولن يعانوا ـ من نوبات صرع توجد تغيرات في رسم كهرباء أدمغتهم، ولهذا فمن غير المعقول أن نحرمهم حقهم في الاستقرار النفسي والذهني بسبب تفسير خاطئ من شخص غير متخصص لفحص كهذا.
وفي المقابل فإن نسبة من المرضى الذين تنتابهم حالات الصرع يسجلون رسماً كهربائياً للدماغ طبيعياً تماماً، ولا تمنع هذا علمياً من تشخيص مرضه على أنه من حالات الصرع.
ونخلص مما سبق أعزائي إلى أن الصرع مرض تصاحبه (تابوهات) فكرية خاطئة في الماضي والحاضر على السواء، وأن قلة الثقافة الطبية وضعف القدرة على التفكير بشكل علمي ومنظم فضلاً عن انتشار الأمية أصلاً كلها عوامل تضاف إلى غيرها من العوامل أدت إلى تبني نظرات ومفاهيم خاطئة كلياً لمريض الصرع الذي يعامل في كل مجتمع بشكل مختلف بناء على القاعدة الفكرية السائدة وخلفية العوام تجاه المرض.
ولا يخفى أثر مثل هذه المفاهيم الخاطئة على مستقبل مريض الصرع وحالته المرضية ونموه العقلي والاجتماعي وتحصيله الدراسي وقدرته على العمل.
أخصائى الأمراض النفسية والعصبية بمستشفى آل سليمان وشركة كهرباء مصر
طبيب جمعية ومركز التأهيل الشامل للمعاقين بمحافظة بورسعيد
مستشار إعاقات الطفولة لجمعية نور الرحمن
صاحب مدونة ( إطلالة على التوحد ),
كاتب ومؤلف بمجلة وكتاب المنال الصادر عن مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
كاتب بمجلة أكاديمية التربية الخاصة السعودية