أنى لهذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن صوره وأتم عليه كل النعم من سمع وبصر وفكر وإدراك وإحساس أن يتدبر في خلق الله له!
يتساءل المرء ما هو الإنسان غير ذلك؟ بعبارة أخرى ما هي كوامن هذا الإنسان؟ الإجابة عن كل هذه التساؤلات سيجدها في ذاته وهي عبارة عن مجموعة من الأحاسيس والمشاعر والعواطف الكامنة والظاهرة بالنسبة للشخص العادي.
فماذا عن الشخص من ذوي الإعاقة وخاصة الإعاقة الذهنية! هل هو كذلك أيضاً! وهل يعبر عن مشاعره وانفعالاته بصدق وتلقائية! وهل هي مشاعر صادقة غير مزيفة وغير منمقة! وهل هي موجهة لأشخاص أو شخص معين! وهل هي مؤثرة؟
تلك التساؤلات قد يطرحها بعض المتخصصين في رعاية وتربية الأشخاص ذوي الإعاقة أو غيرهم من الأشخاص أو حتى أولياء أمور الأشخاص ذوي الإعاقة.. وللإجابة عنها لابد أولاً من طرح التساؤل التالي: هل للحيوان مشاعر وانفعالات حيال تصرف ما تجاهه! نعم لديه، ولكن ليس كالبشر فقد تقوم بتعذيب حيوان معين مثل القط أو الكلب فيبدأ بمقاومتك والاعتداء عليك.. إذاً هذا شعور انفعالي، أو حين تدلل حيواناً معيناً فتراه يتقرب منك ويشعرك بذلك.. ومعروف أن كثيراً من المكفوفين في الدول الغربية يستعينون بالكلاب المدربة لإرشادهم وايصالهم إلى المكان الذي يريدونه.. كما أن بعض الأفراد استطاع أن يتفاعل مع حيوانات مفترسة ويكون صديقاً لها مثل النمور والأسود مع أنها صداقة محوفة بالمخاطر.
المقارنة مع الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية غير واردة على الاطلاق ولكن الثابت هو وجود القدرة على التفاعل والانفعال لدى الكائنات، فنرى أن الشخص من ذوي الإعاقة الذهنية لديه أحاسيس ومشاعر إنسانية تجاه الآخرين مثله في ذلك مثل الناس غير المعاقين، ولكنه قد يبدو قاصراً نوعاً ما تجاه بعض التصرفات أو ردود الأفعال العفوية ومدى مناسبتها للموقف.
في كثير من الأحيان يبدي بعض معلمي التربية الخاصة استغرابهم وتعجبهم من تصرف عاطفي يقوم به الشخص ذو الإعاقة العقلية ـ وهو ما دفعني لكتابة هذه السطور ـ فموقفهم هذا ناجم عن فهم واعتقاد خاطئين لهذا الشخص بأنه قاصر بل معدم في هذا الجانب! كنت لا أعطيهم مبرراً لهذا التفكير وعلى العكس كنت أقنعهم بوجود هذه المشاعر الإنسانية الإيجابية في نفس الشخص ذي الإعاقة وذهنه.. وقد روى لي أحد المعلمين موقفاً مؤثراً عن أحد طلاب التربية الفكرية حزن له من كل من شهده.. كان هناك قرار بنقل بعض الطلاب إلى مدرسة أقرب إلى سكناهم، وعند تنفيذ هذا القرار بكى كل الطلاب المنقولين ورفضوا تنفيذه، لأنهم شعروا بمدى ارتباطهم الوثيق بمدرستهم ومعلميهم وزملائهم، ولكن ما قام به الطالب عبد الإله أحزن بل أبكى معلمه.. خرج الطالب من الفصل وتوجه إلى الحافلة التي ستقله مع زملائه.. توقف وطلب من معلمه أن يسمح له بالبقاء في مدرسته،.. أخذ معلمه يطمأنه ويغريه بالمدرسة الجديدة وكان من الصعب إقناعه، ولكنه أحس في النهاية أن الوداع حتمي لابد منه، اقترب من معلمه واحتضنه وقبل رأسه وهو يبكي ويردد كلمات مؤثرة ذات معان إنسانية عميقة.
عندما انتهى المعلم من سرد الواقعة قلت له: هل اقتنع بأن هذا الطالب لديه شعور إنساني وانفعالي وعاطفي مثل الأطفال الآخرين! هذا الموقف يا عزيزي يؤكد صدق الأحاسيس والمشاعر الصادقة غير المنمقة أو المتملقة وهذا الطالب لا يعرف لتلك الأفعال سبيلاً، وقد تصرف بعفوية وصدق وادراك لمعنى العشرة والمودة.. وهذا أيضاً يؤكد فكرة أخرى لدى التربويين المتخصصين في التربية الخاصة وغيرهم بأن الاندماج والتفاعل الاجتماعي بين الطفل ذي الإعاقة وغير المعاق سوف يحقق فلسفة التربية الخاصة الحديثة القائمة على أساس دمجهم في البيئة المدرسية العامة لتلقي تعليمهم وتربيتهم جنباً إلى جنب مع أقرانهم غير المعاقين.
من هنا، أدعو التربويين في المدرسة العامة أن يستفيدوا من هذا الجانب لتحقيق غايات الدمج وألا ينقصوا من حق الشخص من ذوي الإعاقة العقلية أو يبخسوا قدرة من قدراته بداعي النقص في قدراته العقلية، فالكثير منهم لديهم الكفاية الاجتماعية العالية التي تعينهم على الاندماج والإنصهار في جوانب الحياة الاجتماعية كافة.