(إلى ابني الصغير محمد)
ها أنا أخاطبكم.. لقد قرأت تاريخكم عبر الثقوب.. كلاهما يتسم بالخشونة.. التاريخ والثقوب. الأحزان مرّة إلى حد ما لكنها لا تجبرنا على أن نتخلى عن أقلامنا. في هذا الرأي أخالف أبي ولهذا أكتب الآن.. وعلى ذكر أبي فإن والديّ كليهما لاقيا حياة مرة.. كانا ضجرين دائماً، أحس بهما في الظلام يرسلان الدمع لأجلي، كنت صغيراً حينما ترك أبي قلمه ولحق بحزنه يثأر بأبرة يطعن بها صفحات، يشق لي بطريقة برايل نافذة ألتمس بها الدنيا، وبكل وخزة للورقة أحس بوخزة ألم تثقب صدره.. وأمي كانت تمسح الدمع عن وجنتيها أكثر مما تمسح الصديد المسال من عيني.
في الليل أسمعهما يتهامسان.. وكما يتهامس العشّاق عن القمر.. يتهامسان.. أبي وأمي.. عن الفقر وعيوني العمياء.. يحصيان ما بقي لديهما من مال لأجرة طبيب الغد.. وينقضي ظلام ليلي.. إلى ظلام نهاري.. ولا تشرق شمس بعد عودتنا من الطبيب بجيوب خاوية.
في المستشفى يبقيان معي سويةً.. لا يترك أحدهما الآخر.. الليل أصبح يرهبهما فلا يفترقان بانتظار أجراء العمليات المتلاحقة لعيوني.
(شراسة الحياة قد ظهرت بشكل غير متوقع) هكذا قالت أمي وأنا أتوسد حجرها فيما غاب أبي في دخان سيجارة أشمها.. لا تغيب رائحة تلك السيجارة الحيرى عن ذاكرتي.. لقد طغت على صوت نبضات قلب أمي الخائف.. رائحة أبي الذي بقي متحدياً.. صوت قلب أمي الخائف.. منذ تلك الليلة أصبح لكل شيء رائحة وصوت. غدوت كلباً بين البشر يشم الروائح، أصغي بدقة إلى مخاوف أبي الهامسة محدثةً صمت الليل وشخير أمي التعب، ومثلما يكون للكلب دور ثانوي في الحياة كان علي أن لا أعمل بل فقط أشغل أسرتي بإعداد طعامي والعناية بي.. ذكريات مرة من طفولتي الأولى.. لا أذكر أني شاهدت الأشياء فقد كنت في الثانية حين فقدت البصر.. أمسد شعر أمي وأتلقى دعابات ذقن أبي الخشنة أبداً.. وتلمست دربي بين حجرات المنزل بأناملي لأرسم صورة في خيالي لعالم سأقاتله بلا سلاح حين أكبر، كنت طفلاً لعب الكرة مع الأطفال بأذنيه.. يقف ببله وهو ينصت إلى صرخاتهم الفرحة..
- ماذا سيستطيع أن يعمل حين يكبر؟ لا يمكنه كسب قوته إذا فَقَدَنا.
نزف أبي.
- هل له غير أن يحفظ القرآن ليقرؤه على الموتى في الجنائز.
تصدعت امي.
- ومن منا يريد له ذلك؟!!
ما كانا يريدان لي ذلك. حين كبرت كنت أشعر بالذنب دائماً إذ أحّملهما عناء العناية بي.
فرح أبي يوماً إذ سمعته يخاطب والدتي بأن عيني ستستقران في منظرهما هذا.. كان يطير فرحاً.. وأنا أسأل نفسي ما الذي يفرح أبي فأنا لا أرى شيئاً.. وظل هذا السؤال يحيرني طويلاً حتى علمت بأن عيني غير مشوهتين حين يراني الناس.. حسناً إذن سوف لا أقرف الناس بمنظر عيوني. قالت لي أول امرأة أحببتها: (عيناك جميلتان.. لم أظنك أعمى حينما شاهدتك للمرة الأولى!!). كانت كلماتها هذه طعنة كبيرة في حياتي سمعتها وأنا أكتم عنها حبي.. كنت أعشق صوتها إذا تحدثت.. أتخيلها.. أحب بطريقة لا يدركها عالمكم وهكذا سمعت كلماتها وهكذا كان علي فقط أن أسمع بعد ذلك ما يؤلمني من أنها لا تعبأ بأعمى.. أعمى.. أعمى كلمة طالما قتلتني حينما يطلقها أصحاب العيون.. من أين آتي بالعيون لقد خسرتها وأنا طفل وسط آلام ليالي الطوال.. آلام وآلام.. أسهر الليل أصرخ في وجه الآلام التي تجتاح محاجر طفل.. طفل ليس إلا..
– محمد لم ينم، إنه يتألم.
تقول أمي وهي تحاول ايقاظ أبي إذ فزّت من نومها فيسحب هو نفساً من سيجارته وسط الظلام.. هكذا يجيبها ليرد بأنه يعرف ذلك وهو الآخر لم ينم فالهَم يملأ صدره.
لا أنام.. لا أنام.. ولا أنام كما ينام الناس حين أنام.. فوسادتي حشيت بأدعية تسترجي الرب: (محمد.. اللهم إنه طفل بريء لا يرى الدنيا فارحمه يا رب العالمين).
إنه دعاء ابنة الجيران التي كانت ترعاني كتبته حين غادرت منزل أبيها عروساً إلى منزل زوجها كي يحفظني الله برعايته في غيابها.. ولم يمض شهران بعد ذلك حتى فارقت الحياة محترقة.
(إنه طفل بريء لا يرى الدنيا فارحمه يارب العالمين) كرر أبي دعاءها وهو عائد من جنازتها وكنت أنا بانتظاره لا أعرف ما جرى. لقد تأخر قليلاً عن موعد كل ليلة.
- هل سنلحق به؟
- سنلحق.. لابد لنا أن نلحق.
كان يحملني ويهرول.. فموعد القطار قد حل.. كنت أتمتع بمروره كما يتمتع الأطفال برؤيته، يحملني أبي ليلاً حيث أتلذذ بصوت عرباته الغضبى تسحق السكة وأشم ما يحمل وتصرخ صافرته تشق سكون الليل.. تلك كانت لذتي.
- إني أسمعه.. لقد اقترب، أظننا لا نلحق به الليلة.
- لم أسمع شيئاً بعد.. أعدك بأني سأوصلك إلى السكة قبل وصوله.
يزيد من سرعته يسابق القطار، تعالى لهاثه وسبقنا القطار. مر الصوت أمامنا خاطفاً.. كم تلذذت بهذا، كانت تلك الليلة نسيجاً عجيباً من الأصوات أبي يحملني في حجره وصوت لهاثه في أذني، القطار يصرخ والعربات تطبل.
- إنه يحمل الكبريت.. هل تشم؟ إنها رائحة الكبريت.
كان أبي يلهث لا يستطيع الإجابة.
- نعم إنه يحمل الكبريت.
ورحل القطار بعيداً وترك وراءه نسيماً بارداً يحمل غبار كبريت لم يشمه أبي فعلاً، رحل القطار، ورحلت جارتنا وهكذا كان مصير الأرواح التي تؤازرني في ظلمتي.. الواحد تلو الآخر أبي ثم أمي.. فوقفت وحيداً أحارب الدنيا بلا سلاح سوى ثقوب الصفحات التي طعنها أبي.. أذهب إلى المقبرة كي لا أشعر بوحدتي أتعثر بالشواهد ولا أجدهم فهناك تتشابه الأشياء.. وهناك لا ينطق الموتى ولا يهمسون ولا أتلمس دعابات الذقون.. ولا أميز رائحة أحد، فموت كل البشر له رائحة واحدة.. حين يطمرون.. إنني أتيه وسط القبور.. أفلا تنظرون؟؟!!
الدكتور عدنان يعقوب رمضان القره غولي
مواليد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 1964
حاصل على كلوريوس طب وجراحة بيطرية، ماجستير أحياء مجهرية
بدأ بنشر المقالات والقصص القصيرة
- منذ عام 1988 في الصحف المحلية العراقية: (مقالات أدبية وعلمية وقصص قصيرة).
- منذ عام في الصحف 2000 في الصحف العربية الصادرة في أوربا (2000 ـ 2012) والعديد من المواقع الالكترونية.
الكتب المنشورة:
- عنكبوت وكر اللذة (مجموعة قصص قصيرة عام 2000)، مكتبة مرام، العراق.
- النورس (مجموعة قصصية عام 2001)، مكتبة مرام العراق.
- صور من أحلام عليل (مجموعة قصصية 2002) عن دار الشؤون الثقافية، العراق.