مع تعاظم أهمية العولمة في حياتنا اليومية يصبح البحث الثقافي Cultural Research حجر الزاوية للتقدم الإجتماعي، فالكثير من المشاكل التي تنشأ بين الدول وحتى بين الأشخاص تنجم عن سوء فهم للثقافة والإختلافات الثقافية.
من هنا يهدف البحث الثقافي إلى خلق فهم لآليات الثقافات المختلفة ومضامينها عبر أرجاء المعمورة سعياً وراء إيجاد حلول لجوانب سوء الفهم وكذلك التعصب.
ويواجه البحث الثقافي العديد من العوائق لعل أكبرها يتمثل في الكيفية التي ننظر فيها إلى الثقافة Culture وندوّن ملاحظاتنا عنها ومن ثم نورد تفسيراتنا بشأنها. وقبل أن ندرس الثقافة لا بد أن نتفق على تعريف واضح لها فمع وجود تعريفات كثيرة لها فإنها تبدو متفقة على النظر إليها بإعتبارها تشير إلى تراكم الأنظمة المعرفية التي تشترك بها جماعة معينة من الناس. ورغم السهولة والبساطة التي ينطوي عليها مثل هذا التعريف فإن كيفية دراسة الثقافة قد أثارت الكثير من النقاشات والحوارات من جانب العلوم الإجتماعية.
وجهات النظر الداخلية والخارجية
لا بد أولاً من فهم ما تعنيه الثقافة ليتم الإنتقال بعدها إلى فهمها ودراستها. في هذا السياق هناك منهجان لفهم الثقافة هما:
- النظرة (الداخلية) Emic من منظور الباحثين في مجال دراسة أصول الأعراق والثقافات Ethnographers الذين يسعون لبيان ماهية ثقافة من خلال تلك الثقافة ذاتها، أي من وجهة نظر المنتمي إليها.
- النظرة (الخارجية) Etic من منظور الباحث في دراسة أصول الأعراق والثقافات والتركيز على بيان خصائص ثقافة ما وفق المعايير العامة ومن ثم تستثمر وجهات النظر هذه لتحديد الحقائق الكلية Universal.
المذهب النسبي الثقافي Cultural Relativism
تعني النسبية دراسة ثقافة ما من خلال الثقافة ذاتها إعتماداً على وجهات النظر الداخلية فحسب. ويمكن تقسيم هذه النسبية إلى فئات عديدة مختلفة تبرز منها ثلاثة أساسية كثيراً ما يتم التطرق إليها في العلوم الإجتماعية هي: المذهب النسبي الوصفي والمذهب النسبي المعياري Normative والمذهب النسبي المعرفي Epistemological.
يعتمد المذهب النسبي الوصفي على نظرية الحتمية الثقافية Cultural Determinism والتي تشير إلى أن الثقافة هي التي تقرر المزايا الإجتماعية والنفسية الإنسانية. ومن هنا فإنها تفترض أن الثقافات المختلفة تمتلك أفكاراً وطرقاً مختلفة لفهم العالم. ويرى المذهب المعياري أنه لا يوجد ثمة سبيل ما للحكم على ثقافة ما إستناداً إلى معيار الأهليّة أو الإستحقاق (ما إذا كان مظهر ما جيداً أم سيئاً) لأن المعايير بمجملها تتشكل ثقافياً.
أما المذهب المعرفي فيشبه في منهجه المذهب الوصفي بإستثناء الفكرة القائلة إن الثقافة تملي على المنتمين إليها ما يفكرون به حول أنفسهم وكذلك ما يشعرون به حيال حياتهم وبذا يقدم إلينا وجهة نظر مفتوحة الأفق بخصوص التنوع الثقافي (انظر مقالة سبيرو Spiro (1986) الموسومة: المذهب النسبي الثقافي ومستقبل علم الأنثروبولوجيا).
تجدر الإشارة أن علماء الإجتماع لم يجمعوا على دعم الأفكار التي تضمنتها تلك الفئات الثلاث حيث تباين تأييدهم لهذه الفئة أو تلك أو أحياناً للأفكار الثلاثة مجتمعة. ولم تلق هذه الأفكار رواجاً لها إلا بعد جهود عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي فرانز بوز Franz Boaz وظهور المدرسة التاريخية الأمريكية American Historical School حيث عمد بوز وأتباعه إلى رفض فكرة التطور الثقافي لكون مثل هذا التوجه يوحي بأن ثقافة ما أفضل من مثيلاتها الثقافية الأخرى فضلا عن أن ذلك يعتبر بمثابة حصيلة وجهات نظر تتمحور حول عرق ما بذاته!
وما يزال الجدل محتدماً منذ فترة طويلة في ميدان علم الأنثروبولوجيا حول المذهب النسبي الثقافي والوحدة النفسية، فهل الثقافات المختلفة غير قابلة للقياس المشترك وهل يستحيل إطلاق تعميمات حول الثقافات لأن كل فرد ينظر إلى العالم على نحو مختلف إستناداً إلى الثقافة التي ينتمي إليها؟ فإذا كان الأمر كذلك ترى كيف يتسنى لدارسي أصول الأعراق والثقافات تقديم وصف لمنظومة القرابة في ثقافة مختلفة أو وصف الطقوس والشعائر وغير ذلك من الجوانب الثقافية؟
المذهب المادي الثقافي Cultural Materialism
برز هذا المذهب بصفة رد فعل على المذهب النسبي الثقافي، وهناك إعتقاد أنه ظهر للوجود مع كارل ماركس Carl Marx حيث يبين ماركس أن المجتمعات والثقافة يتصفان بكونهما يتبعان نظاماً محدداً Systemic، وقد انصب جل إهتمامه على الكيفية التي تحافظ فيها تلك الأنظمة على نفسها ومن ثم تدمر نفسها. ويرى ماركس أن مثل هذا التغيير لا يحصل بسبب الأيديولوجيا والنظام الإجتماعي لثقافة ما إنما بفعل توفر فرصة مؤاتية في البيئة المحيطة (انظر كتاب سي جي آرثر C. J. Arthur ـ 1970) الموسوم الأيديولوجية الألمانية (لندن). في إطار ذلك تعتبر كل من الأيديولوجية والنظام الإجتماعي تعديلات للتغيير البيئي الأمر الذي يجعل الثقافات قابلة للتنبؤ فضلاً عن إمكانية إجراء مقارنة فيما بينها.
البحث الثقافي
إضافة إلى الآراء المرتبطة بكل من المذهب النسبي والمذهب المادي بخصوص البحث الثقافي فإن هناك آراء أخرى تتساءل جميعها عن إمكانية إجراء البحث الثقافي في إطار علمي بحت، فهذه الآراء ترى أن العلم قابل للقياس، فإذا لم يكن بالإمكان قياس البحث الثقافي فعندئذ لا يمكن إعتباره علماً. في هذا الشأن يرفض كل من بوز وأتباعه فكرة إمكانية قياس الثقافة لأن ذلك يدلل على التطور الثقافي وهي فكرة ناشئة عن مذهب التمحور حول عرق ما. من هنا يصر البعض على إستحالة إعتبار البحث الثقافي علماً بل لا ينبغي السعي للبرهنة على ذلك!
ويرى الكثيرون من أتباع المذهب النسبي الثقافي أن الدراسات الثقافية لا يمكن أن تأخذ طابعاً علمياً بسبب عدم إمكانية إطلاق التعميمات عبر الثقافات المختلفة، لذا يتعين على الباحثين أن يركزوا دراساتهم على الثقافات الغربية فحسب ومن ثم يعمدوا إلى مقارنتها مع مثيلاتها غير الغربية. إن دراسة الثقافات غير الغربية لن تؤدي إلى نتائج يمكن للغربيين إدراكها بدقة ومن ثم مناقشتها.
ويذهب البعض أن المذهب النسبي لا يعمل كما يبدو ضمن إطار حقل الأنثروبولوجي أو أية دراسات ثقافية أخرى، وهي فكرة يمكن الإستدلال عليها من خلال عمل الباحثين في مجال أصول الأعراق والثقافات. وإذا أردنا أن نجعل البحث الثقافي قابلاً للقياس فلا بد من إجراء مقارنات تغطي مختلف الثقافات إنسجاماً مع ما تدعو إليه وجهة النظر المادية. غير أن ذلك لا يعني أن سائر الأعمال النوعية أو وجهات نظر المذهب النسبي في إطار العلوم الإجتماعية لا جدوى منها لأنه إذا ما أستخدمت تلك الأعمال جنباً إلى جنب مع وجهة النظر المادية القابلة للقياس فإنها سوف تؤدي إلى معلومات هامة للغاية حول ثقافتنا فضلاً عن الدراسات الثقافية الأخرى عبر الثقافات.
كما يتعين النظر إلى المذهب النسبي الثقافي بإعتباره يمثل توجهاً منهجياً يبيّن خصائص الثقافات الأخرى من ممارسات وأفكار في ضوء ما يصدر عنها من دراسات تتناول أصل الكون ونشأته وتطوره Cosmologies على أساس تعارض ذلك مع الطريقة الوحيدة لدراسة الثقافة وإدراكها.
إن البحث الثقافي إذا ما تم إجراؤه وفق وجهتي نظر المذهبين النسبي والمادي سوف يوفر البيئة التي يمكن من خلالها فهم التنوع بين الثقافات وعبرها.
بقلم: جيسيكا رينولدز Jessica Reynolds
المصدر: www.universitydiary.wordpress.com
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.