قبل سنوات وفي مؤتمر انعَقدَ في سوريا حول العلاقة بين الإعلام والإعاقة والفن، التقيتُ بشابة كردية على كرسي متحرك، اسمها (جافيا) كانت متوهجة الفاعلية في المداولات وورش العمل، استغربت من اسمها للوهلة الأولى، لكنها سارعت فأزالت غموضه شارحةً أنه يعني بالعربية (نبع الأمل)، وأضافت مازحة: (لعله كان من استشراف والديّ المستقبل حين سمّياني، أنني سأكون من ذوي الإعاقة في كِبري، وحينها لن يكون لي إلا الأمل أستجير به من وطأة الإعاقة وعاديات الناس على ذويها؛ جهلا أو إهمالا أو استخفافا أو استغلالاً).
ثم مرت الأيام وانقطع التواصل مع (نبع الأمل)، لكنها كانت تقفز إلى ذاكرتي كلما أطلَتْ علي نافذة إعلامية تهتم بشأن الأشخاص ذي الإعاقة؛ ذلك أني انتبهت إلى أسماء معظم البرامج المسموعة والمرئية والمكتوبة في هذا المجال، فوجدتها تخطب ود الأمل؛ فهي: (Frown Emoticon مشاعل الأمل) و(حاجاتٌ وآمال) و(بوارق) و(شراع الأمل)… قد يبدو أمر العناوين شكلياً، لكنني وبحكم انطفاء عينيّ وإعلاميتي التي تسكنني واقتناعي الوثيق بنظرية نقد الأنساق الثقافية؛ وجدتني أمارس حساسية عالية في المقاربات الإعلامية للشأن الإعاقي؛ فرأيت في مثل هذه العناوين السابقة تواطؤاً على الأمل؛ غير عفوي ولا بريء، بل هو عاكف على حفْر ضرره البالغ بعيدِ الأثر.
فالعناوين الإعلامية ليست مجرد واجهات؛ إذ هي ترتبط بحبل سري بالمضامين؛ دالةً عليها ومسوّقةً لها. فالذي يرفع على باب منبره الإعلامي؛ إذاعياً كان أو تلفزيونياً أو مكتوباً، لافتةً مرصعة بالأمل الوهاج، ينحرف ـ شعر أو لم يشعر ـ عن مسار المقاربة الجادة للشأن الإعاقي، من ناحية، ويحبس معالجته الإعلامية في ماضٍ طوته إنجازاتٌ حققتها الإنسانية في مجال الإعاقة وخدمتها. فواقع الأشخاص ذوي الإعاقة مؤرَّق بتحديات شرسة؛ في التعليم والعمل والزواج واليوميات وتحقيق المواطنة الكاملة والمساواة المستحقة، وثمة ممارسات فردية وجماعية تسيء للأشخاص ذوي الإعاقة تتطلب وقفة تصحيحٍ بالرفق أو بالملاحقة القانونية، إن اقتضى الأمر. والإعلام مطالب برصد هذا الخضم وتأدية رسالةٍ ثلاثية الأبعاد:
البعد الأول توعوي يُعين الناس على الوقوف في وجه امتداد الإعاقة؛ ما وسعهم الجهد والعلم، ويُسرعُ بهم إلى التدخل المبكر لإدراك مَن ألمّت بهم الإعاقة، ويصحح لهم ما انتشر بينهم من مفاهيم خاطئة عن هذه المسألة، ويمنحهم دليل إرشاد مستنير للتعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة في البيت والمدرسة وعموم المجتمع.
وبُعدٌ خدمي يوفر سبل التواصل بالمراكز المختصة بالإعاقة ويعرف بها ويرسم خارطة وجودها، ليكون كلُّ مَن يحتاج إليها على بصيرة بها، محمياًّ من ضياع الوقت أو سلك طرق خاطئة على حساب المعالجة الصحيحة، والزمن الذي تعني كل ثانية منه الكثير.
والبعد الثالث معلوماتي يزود الأشخاص ذوي الإعاقة وأهليهم بما يقربهم منها؛ معرفةً وحُسنَ ألفة وقدرةً على إعادة تشكيل الوعي المجتمعي والمبادرة في تولي شأن الإعاقة بعد أن تولى أمرها غير ذويها زمناً.
هذه الرسالة الإعلامية بأبعادها الثلاثة تحتاج أن ترتدي عناوين تقود إليها مباشرة في غير لبس ولا تهويمات رومانسية، لأن الكتاب ينبغي أن يُقرأ من عنوانه، كما يقول أهلنا في حكمتهم القديمة المتجددة.
والأمل في صدارة المنبر الإعاقي الإعلامي، ـ باعتقادي ـ مضلل؛ لأنه يشكل حاجزاً يحول بين الأشخاص ذوي الإعاقة والمجتمع وبين المواجهة الجادة والواقعية لقضايا تؤرق الواقع كما أسلفنا وتُعقّدُ من ثمّ سيناريوهات مستقبل هذه الفئة، ثم هي عناوين ربما كانت مناسبة للحقبة الرعائية التي لم يحظ فيها الأشخاص ذوو الإعاقة من المجتمع إلا بمد يد الإحسان ورداء الشفقة، الذي يضللهم من هجير الإعاقة؛ لكننا اليوم بإزاء وعي جديد عالمي مترسخ يفهم الإعاقة على أنها شأن حقوقي، لا محل فيه للتفضّل أو المنة؛ بل هو حركة كفاح تكللت بتقرير أنْ تكون الكلمة العليا في المجتمع للقانون الملزم بمنح كل مواطن ذي إعاقةٍ أو غيره نصيبَه كاملاً غير منقوص في حياة كريمة؛ كرامةً وعملاً وتعليماً وأسرة وصحة وترفيها.
ثمّة ما لا ينفصل عن واجهة برامج الإعاقة الإذاعية والتلفزيونية على وجه الخصوص، وهو المقطوعات الموسيقية المصاحبة لشارات البداية والنهاية والمنسابة بين الفقرات. هذه المقطوعات في أغلبها ـ كما لاحظت ـ حزينة فَجائعيّة. وأنا أذكر في هذا الصدد إحدى الحلقات التلفزيونية التي كنت ضيفها، ولما تابعتُهاعند بثها، فزعت من الموسيقى التي صاحبتني، حيث كانت أشبه بالنعي أو العويل في المأتم، بل أكثر من ذلك أذكر أن أحد البرامج بث فقرات متنوعة، حتى إذا بلغ إحداها؛ والتي يستضيف فيها كفيفاً مذيعاً؛ تحولت الموسيقى فجأة واكتست ثوب السواد. ولا يقولن لي أحد أن اختيار هذا النمط الباكي من الموسيقى ليس وراءه اقتناع بأن الشأن الإعاقي يقع في منطقة الإحسان والشفقة، التي تناسبها واجهات الأمل وموسيقى الدموع.
إن عنايتي بالعناوين والموسيقى وما يمكن أن يضيفه ذوو العيون من ملاحظات عن زوايا التصوير وفنياته ليست صَرْفاً للجهد فيما هو هامشي أوانصرافاً عن القضايا الحقيقية؛ لأن الإعلام ليس مجرد قنطرة تنتقل عبرها معلومات من طرف إلى آخر؛ إنه مشكّلٌ للوعي؛ بل وصانع له؛ ترشيداً أو تزييفاً، بما أوتي من جماهيرية عارمة في المتابعة والتأثر بكل ما فيه. فالذي يأسره برنامج تلفزيوني ـ مثلاً ـ إلى حدّ الإدمان والتقمّص، يصعب عليه، بل ربما يستحيل تحديد مواطن إعجابه. هل هي الفكرة أو ديكور الأستوديو، أو نوعية المواضيع، أو حرفية التصوير، أو لكنة المذيعة، أو زيها، أو شارات البداية…
هذه الحقيقة تبرز لنا خطورة نظرية الأنساق الثقافية وصوابيتها في مقاربة المسألة؛ حيث يرى الدكتور عبد الله الغذامي ـ صاحب الريادة في تطبيق النظرية على الأدب العربي ـ أن الخطاب الجمالي والجماهيري لا يخلو عادة من ظاهرٍ يبدو برّاقاً وحَرِيًّاً بالاحتفاء والتبني، وآخر باطن مضمر، يفعل فعله التشويهي من غير أن يُنتبهَ له؛ كمثل الشحم الذي يبدو لذيذاً وجذاباً، إلا أنه ضار وفتاك بالصحة. فنحن عموماً يسحرنا ـ كما يحلل الدكتور الغذامي ـ شعر المتنبي ونزار بسطحهما اللغوي الأنيق والمحكم، في حين يمر النسق المضمر في الأعماق، حيث تمجيد الفرد الطاغية من غير أن نشعر به وبخطورته. وأجرؤ ـ مع الفارق ـ على سحب النظرية على خطاب الشأن الإعاقي الإعلامي؛ فهو جماهيري واسع الاستهلاك، يرسم صورة رومانسية يتلألأ فيها الأمل، تشغلنا عما تُخفيه من مخبوءٍ، ينبغي التصدّي له ولرسالته الضارة المنصرفة عن قضايانا الحقيقية.
أظن أن المسألة اتضحت؛ فنحن الأشخاص ذوو الإعاقة لا نعادي الأمل، ولا ينبغي لنا، ولا نستطيعه؛ لأن حياتنا منزوعة منه تغدو مستحيلة. كيف لا وهي المحاصرة أبدا بابتلائنا الذي هو ألم وصعوبات لا تنكر، وإيذاءٌ ممّن يجهلنا أو يتجاهلنا، أو يقصدنا بالسوء، لكننا إعلامياً وللإضرار التي تطال قضيتنا الإعاقية وحتى إشعار آخر ينبغي أن نكره الأمل.
الاسم: ناصر محمد نوراني
المهنة: محرر صحفي (مكفوف)
الجنسية: السودان
مكان الميلاد: جمهورية مصر العربية
تاريخ الميلاد: 25 ديسمبر 1970م
المؤهلات العلمية:
- بكالوريوس آداب (لغة عربية) جامعة الإمارات: تقدير امتياز.
- درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة الشارقة عن رسالته صورة ذي الإعاقة في الرواية السودانية (يناير 2012)
الخبرات العملية:
محرر صحفي في إدارة الإعلام الأمني التابعة للقيادة العامة لشرطة دبي في الفترة من أغسطس 1996حتى الآن، قام خلالها بالمهام الصحفية المختلفة من إجراء التحقيقات والمقابلات والتغطيات وإعداد التقارير والملفات الصحفية لصالح مجلة الأمن، من بداية التحاقه بالعمل إلى نهاية عام 2002م حيث انتقل إلى مجلة خالد المتخصصة للأطفال مشاركاً في الإعداد والتحرير بشكل كامل، منشئاً فيها سلسلة قصصية عن الإعاقة (صابر ووليد).
جوائز وتكريمات:
- نال جائزة الشارقة للعمل التطوعي (فئة الإعلام والإعاقة) ديسمبر 2009م.
- نال جائزة دبي للأداء الحكومي المتميز (فئة الجنود المجهولين) إبريل 2010م.
- كرم ضمن فريق مجلة خالد في شرطة دبي سبتمبر 2010م.
- كرم وحاز شارة تكريم لتميزه في ملتقى التميز المؤسسي على مستوى شرطة دبي نوفمبر 2010م.