لطالما احترمت الحذاء، و لكنني في ذلك اليوم احترمته أكثر، كنت في العيادة عندما سمعت طفلاً يبكي، و أمه تحاول إسكاته، دخلا العيادة، فحصته، كتبت الوصفة، لم يكن المرض يبكيه، كان هناك سبب آخر، سألت الأم، أجابتني: لا شيء يا دكتور، الأولاد هكذا، أنت تعرف.
شعرت أن كرامة نفسها منعتها من الإفصاح عن الحقيقة، مددت يدي إلى تفاحة كبيرة وناولته إياها، فاجأني بقوله: أريد حذاءً أبيض، خجلت الأم و حاولت نهره، ابتسمتُ، وقلت لها: يا أم ماجد أنا مثل أخوكم، وماجد مثل ابني، قالت: يا دكتور أنت تعرف العين بصيرة واليد قصيرة، قلت لها: لا تكملي يا أم ماجد، تعالي يا فاطمة ـ ناديت على ممرضتي ـ، وقلت لها: اليوم بعد نهاية الدوام ستأخذين ماجداً إلى بائع الأحذية وتشترين له الحذاء الذي يريد، سكت الطفل على وعدي، وحاولت أمه شكري، ولكنني سارعت لتغيير الحديث فسألتها عن أبي ماجد وعـن صحته، ودعتني وقلبها يزيِّن أركان عيادتي بدعاء مستجاب.
لقد كانت عائلة أم ماجد تعيش فقراً لم يستطع أن يقضم إباءها، كان ماجد يحلم بحذاء كان يراه على واجهة محل قريب، كان يتكلم خلال نومه قائلاً: «بوط» جديد يا ماما… اليوم عيد يا بابا، كانت أمه تتألم وتبكي عندما تسمع الحلم ينساب من بين الشفتين الرقيقتين، أما الأب فكان يقول: لا حول و لا قوة إلا بالله، كانت أمه تعِدُه بشراء الحذاء العيد القادم، وكانت صادقة النية، ولكن ما إن تجمع بعض النقود حتى يبدّدها جديد الأيام، ويبقى بعيداً عيد الصغير.
في المساء ذهبت الممرضة إلى بيت الطين والأسقف الخشبية واستأذنت سيدة دامعة العينين بأخذ ماجد، كانت ربة البيت تقول: «يا خجـلتنا منكم، أتعبناكم معنا، روح الله يوفقك يا دكتور، الله يستر عليك يا بنتي ويبعتلك ابن الحلال».
ذهبت فاطمة وماجد إلى المحل، وصُدم الصغير عندما لم يرَ الحذاء المقصود على الواجهة، دخلا المحل، ركض ماجد باتجاه حذاء مركون في الزاوية يبدو أن أحد الزبائن قد جرّبه، حمله بلهفة، ضمه إلى صدره، انتعله، وصار يمشي كمن يطير، نسي مرضه وآلامه، حاول أن يسابق الريح لولا أن الممرضة أمسكته من يده خوفاً عليه من سيارات الطريق.
لقد كنت أعلم أن الحذاء عزيز على قلوب الأطفال، وكنت أرى كيف أن أطفالي ينتعلون أحذيتي وأحذية أمهم ويمشون بها بسعادة لا توصف بكلام وبخيلاء طفولية يصمت أمامها البيان، كنت أعرف أن خزانة الأحذية الصغيرة قرب الباب كانت بيت الألعاب المحبب لابنتي الصغيرة، حتى أن جدار عيادتي كان يفتخر بصورة معلقة على صدره، لقد كانت صورةَ طفلةٍ تنتعل حذاء أمها و هي ترفع ثوبها قليلاً لترى الحذاء والسرور يرتسم على محياها، لكنني حقيقة لم أكن أعلم أن الحذاء قد يصبح حلماً يحتضن ما سواه.
وصل ماجد بيت أهله، وهناك جُنَّ جنونه، صار يرقص بالحذاء كما البلابل، ومن ثم يخلعه ليمسحه وينظفه، ثم يأخذه ويضعه بأناة في خزانة الملابس الخشبية اليتيمة، وبعد ذلك يفتح الباب الذي لا يقفل ليأخذ الأمير الأبيض ويجعله يعتلي الكرسي كي يحلو له تأمله، ثم يذهب إلى أمام باب الدار ليراه أطفال الحي، ولا يلبث أن يعود ليجلس على سرير تكسّرت نوابضه ويمد ساقين نحيلتين يبتسم الحذاء عليهما، وبقي على تلك الحالة حتى ساعة متأخرة من الليل، لقد كان يوم عيد عنده و عند أهــل آخر العنقود.
لم يحاول النوم إلا بعد أن تعب حقاً، ولكن ما إن وضع رأسه على وسادة بدون غطاء حتى نهض مسرعاً نحو الباب ذي الشقوق، بحث عن الحذاء في الظلمة حتى وجده، تفقّده، ووضعه في زاوية من البيت اختارها لغاية في نفسه البريئة، وعاد لينام، لكنه نهض ثانية ولمس الحبيب، ومن ثم غطّاه بجريدة كانت تلعب بأوراقها رياح مندسّة عبر النافذة المخلوعة، وعاد لينام، أعاد الكرّة، وأمسك بالحذاء وأدناه من السرير ونام قرب الحافة ورأسه يتحرك لخارجها من حين لآخر ليدع العينين تطمئنان.
لم تعد الأم تتمالك نفسها من الضحك، واختلط سعال الأب بضحكاته، وقال: الله يعطيك يا دكتور من عطاياه، حمل الصغير الحذاء وأودعه تحت الوسادة، وكان يجلس مراراً ليرى الحذاء ينعم بالدفء، ومن ثم وجد أنه من الأنسب أن يحتضن الحلم وينام، ولكنها لم تكن إلا لحظات حتى نهض وانتعل الحذاء الأبيض، وجمع جسده الهزيل، ومد يده لتلامس الحذاء وأخلد إلى النـوم.
من مواليد صماخ ـ حماة في سورية عام .1965
حائز على شهادة الطب البشري MBBCH، وعلى شهادة الماجستير MA في طب الأطفال من جامعة دمشق، وعلى شهادة البورد العربي (الدكتوراه Ph) في طب الأطفال من المجلس العربي للإختصاصات الطبية، وعلى الزمالة البريطانية في طب الأطفال AMRCPCH من لندن.
يتمتع بعضوية العديد من الهيئات والجمعيات العلمية والطبية والمهنية والإنسانية العالمية.
حاضر في العشرات من المؤتمرات والندوات والمحاضرات العلمية والطبية والأدبية في العديد من البلدان، وساهم بتقديم دورات تدريبية للأطباء.
له العشرات من الكتب والأبحاث والدراسات والمؤلفات والقصص.
حاز على براءة اختراع لتصميمه تقنية جديدة تمكن الشخص الأعمى من استخدام الحاسوب (الكمبيوتر) وما يتبعه من نظم.
نال العديد (15) من الجوائز وشهادات التقدير والشكر والثناء من جهات رسمية ومهنية وعلمية وطبية عديدة.
له أكثر من (1200) مقالة منشورة في أكثر من ستين من المجلات والصحف والدوريات في الدول العربية والدول الأوروبية، بالإضافة إلى مئات المقالات على العشرات من مواقع الإنترنت.
له سبق في مجال إدخال خدمات الطب عبر الإنترنت إلى المنطقة العربية.
عمل سابقاً كمدير لأحد مراكز الأبحاث.
يعمل حالياً كاستشاري في طب الأطفال وحديثي الولادة وأمراض الوراثة عند الأطفال في مجمع الأسد الطبي في مدينة حماة.