من اتجاهات الشعر الحديث
أولاً ـ الاتجاه الانساني:
ظهرت في الشعر العربي الحديث نزعة إنسانية واضحة تدعو إلى الاخوة والمحبة والوحدة بين الناس، وترفض الظلم والكراهية والتفرقة، وربما تأصلت هذه النزعة لدى العديد من شعراء المهجر منذ أن رحلوا عن أوطانهم، وحلوا بأرضهم الجديدة التي جابهوا فيها المصاعب وشعروا بالمهانة، ووقعوا أسرى الحرمان، لذلك لهجوا بحب الناس، ودعوا إلى الأثرة ونادوا بالتسامح، وعشقوا الحب، وتحاملوا على الكراهية والحقد، فهذا هو الشاعر ندرة الحداد ينادي بكل هذه المثل الإنسانية فيقول :
يا أخي الساعي لنيل المجد خفف عنك جمحك
أنت لا ترضى سوى نفسك إن أحرزت فتحك
وسأنسى جرح قلبي كلما شاهدت جرحك
وأرى ليلك ليلي وأرى صبحي صبحك
ويسخر أبو ماضي من انقسام المجتمع الإنساني إلى فقراء وأغنياء ويدعو إلى عطف الإنسان على الإنسان وكذلك يدعو الشاعر القروي إلى الإحسان ويذم البخل ويمدح الجود والعطاء فيقول:
من حبة القمح اتخذ مثل الندى يا من قبضت عن الندى يمناكا
هي حبة أعطتك عشر سنابل لتجود أنت بحبة لسواكا
حلمت بأن ستعيش في خير القرى فتراقصت للموت نحو رحاكا
والواقع أن شعراء المهجر عموماً قد دعوا في شعرهم إلى نشر المبادئ السامية، والمثل العليا بين الناس ومحاربة النظم التي تباعد بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعمل على خلق مجتمع انساني يسوده العدل والرحمة والمحبة، وعلى تخفيف الشقاء الانساني وتصوير الحياة بصورة محبة إلى النفوس، وهو المحبة الصحيحة لكل ما في الوجود بغير تفضيل أو تفريق، ومن المعاني الإنسانية التي دعوا إليها، تحمل الأذى والبغي من أجل أن يسود مجتمع إنساني، تسوده المحبة وتبنى أسسه على العطاء والخير، والتي تبدو في قول الشاعر جبران:
يا من يعادينا وما إن لنا ذنب إليه غير أحلامنا
لوموا وسبوا والعنوا واسحروا وساوروا أيامنا بالخصام
وابغوا وجوروا وارحموا واصلبوا فالروح فينا جوهر لا يضام
ومن الشعراء اللذين عرفوا بذلك جميل الزهاوي الذي شغف بالحرية حتى جعلها فتاة شعره وغاية مناه، وقد دفعه هذا الشغف إلى مهاجمة الحجاب وعبث الحكام وجمود الرجعيين وغير ذلك مما كان يراه حائلاً دون التقدم، وهو يهاجم غير متردد مفاخراً بصبره وثباته في ساحة الجهاد، يقول:
يريدون أن يخفي الجريح أنينه ويسكت أهل الحق عن طلب الحق
ولكني أبقى بحقي مطالباً إلى أن يسد الموت في ساعة خلقي
ومن هذا الشعر الإنساني قصيدة أبي القاسم الشابي التونسي التي تعكس هذه الروح التي تدافع عن الحق وتتغنى بالحرية وتحمل على الاستبداد المادي والروحي فتصيح بلسانه:
ألا أيها الظلم المصعر خده رويدك إن الدهر يبني ويهدم
هو الحق يبقى ساكناً فإذا طغى بأعماقه السخط العصوف يدمدم
وينحط كالصخر الأصم إذا هوى على هام أصنام العتو فيحطم
2 ـ الاتجاه القومي والوطني:
تتمثل أصالة الشاعر العربي في احتفاظه بحبه لوطنه وتمجيد مآثر أمته، وذلك أمر جر إليه حنين الشاعر إلى موطن الولادة، ومرابع النشأة وعلى الرغم من بعد المسافة المكانية والزمانية التي كانت تفصل بين وطنهم وبين البلدان التي هاجروا إليها إلا أنهم ظلوا محتفظين بعواطفهم وحبهم تجاه أهليهم وأبناء جلدتهم الذين ظلوا يعانون من التخلف وما كان يسود حياتهم من هوان وضعف، وقد احتفظ شعر المهاجرين بشعر ضخم يحتفل بالدفاع عن البلاد واستنهاض الوطن ومقاومة التعصب الطائفي والرضوخ للمحتل والاستكانة للحاكم المستبد، والرضى بالفقر والذل، ولذلك صبوا جام غضبهم على الزعامات الفاسدة والسياسات المستبدة والكيانات الهزيلة، على أن أشد الظواهر الشعرية صلة بنزعتهم القومية، ظاهرة الحنين التي تجسدت فيها عواطف الوطنية وأحاسيسهم الإنسانية ومواقفهم النبيلة تجاه أهلهم وذويهم، وحرصهم على وحدة أبناء أمتهم، وإقالتهم من عثراتهم، وإنقاذهم من العبودية التي قيدت حريتهم ونالت من كرامتهم، وهكذا راح شعراؤهم يعبرون عن الحسرة على فراق أوطانهم ومدى الشغف بها والشوق إلى لقائها، على الرغم من أن حضارة البيئة الجديدة قد صهرت معظمهم في معدنها الجديد، إلا أنهم رغم هذا الانصهار ظلوا يتميزون بأصالة معدنهم القديم، ولم تغرهم صورة الحياة الجديدة ومن هنا راح نعمة الحاج ورشيد ايوب والياس فرحات ونسيب عريضة وايليا ابوماضي وميخائيل نعمة يتفننون بحب الوطن وينعمون بظلال أفيائه، يتذكرون سفوح جبال لبنان، ويحنون إلى ملاعب الصبا ومراتع الهوى، فهذا هو نعمة الحاج يعبر عن حسرته على فراق الوطن والأحباب ويتوق إلى لقائهم ويقول:
تذكرت أهلي في النوى وبلاديا وقد طال شوقي للحمى وبعاديا
تذكرت هاتيك الربوع وأهلها ويا حبذا تلك الربوع الزواهيا
تطير لها نفسي من الوجد والجوى ويمسي لها دمعي على الخد جاريا
ويلاحظ أن الحنين إلى الوطن قد سيق بأسلوب دقيق يتغلق بضلالة رمزية خفيفة، تدعو إلى حياة الغاب والعودة إلى الطبيعة، بعيداً عن صخب الحياة المادية والحضارة التي انحرفت بالإنسان عن إنسانيته، وحولته بعد براءته المعهودة إلى ذئب ضار تمتد مخالبه إلى إنسانية الإنسان لتسلبه أعز مضامينها.
3 ـ الاتجاه الوجودي (نظرية الفن للفن):
إن هذا الاتجاه الوجودي الذي ينبعث من ذاتية خالصة وغنائية صافية، يجسد الفردية ويتحدث عن همومها وأفراحها بعيداً كل البعد عما يدور حوله من مشاكل اجتماعية وسياسية وشاعر هذا المذهب، لا يهمه الظرف المحيط به، ولا سأل لمن أكتب؟ يغني ويطرب كما يغني الطائر في الفضاء، إن الفن عند أصحاب هذا المذهب ليس له وظيفة أو هدف أو غاية محددة وينادون بأن الفن للفن وأن اسم هذا الفن يوحي بذلك ويقول أحد روادها: الشريعة لأمور الدين، والخلق للخلق، والفن للفن، ولا يمكن أن يكون الفن طريقاً للنافع، ولا للخير، ولا للأمور القدسية لأن الفن لا يقود إلا إلى ذات نفسه.
إن هذا القول يجعلنا نستنتج:
- أن الفن مستقل.
- ليس الفن وسيلة، بل غاية في حد ذاته.
- أن الفن هو الجمال الخالص.
- عدم الفصل بين الشكل والمضمون.
- أن الجمال عالم مستقل.
وفي نظر الشاعر الوجودي، إن الموت هو الحقيقة الوحيدة، ولذا نراه في مذهبه متعلقاً به معتقداً أن اللذة الدائمة هي من الموت، ويكون بهذه الرؤيا طرد شبح الخوف من الموت والخوف الذي أرهب البشرية منذ القدم حتى اليوم، وإذا أتهم هذا المذهب بالابتعاد عن الواقع، فإنه كان يبحث فيما وراء الواقع عن حلول تخفف من ألم البشرية وعذابها وتعاستها.
بإشراف الأستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي