الرواية الجيدة، والممتعة حقاً، تبدأ بجملة أو فقرة مشوقة، قد تكون مثيرة، أو مدهشة، أو مرحة، أو حزينة، ولكنها قادرة على أن تجذب إنتباه القارىء وتحفيزه على مواصلة القراءة. الدراسات النقدية العربية، التي عنيت بالإستهلال الروائي قليلة جداً، وإن وجدت فهي شكلية في معظمها، لا تعبر عن خصوصيات الإستهلال ودلالته ووظيفته كأهم عنصر من عناصر البناء الروائي.
بعض النقاد العراقيين، الذين عالجوا موضوع الإستهلال الروائي، أخذوا يبحثون عما قيل في الإستهلال في الكتب اللغوية والبلاغية العربية القديمة، ولكن تلك الكتب تتحدث عن أهمية الإستهلال في المؤلفات والمصنفات عموماً، وليس عن الإستهلال الروائي. فالرواية الحديثة بمفهومها الحقيقي فن سردي غربي خالص، ويقول النقاد الغربيون إن الرواية – كجنس أدبي مستقل – خرجت من رحم رواية سيرفانتس (دون كيشوت)، التي نشر جزءها الأول عام 1605. انتقل فن الرواية إلى الثقافة العربية مع ما انتقل إليها من فكر الغرب وفنونه وآدابه في بواكير عصر النهضة العربية.
الإستهلال في الرواية (فيكشن) شيء وفي غيرها من كتابات (نون فيكشن) شيء آخر تماماً، وإن كان التشويق مطلوباً في مفتتح أي رواية، أو كتاب أو دراسة أو مقال.
مفتتح الرواية أمر حيوي، وبالغ الأهمية، ويجب ألا يضجر القارىء بالعبارات المأثورة المبتذلة (الكليشيهات) وأن لا يقحم الكاتب فيه المقدمة التي يبرر بها عمله أو الوصف الممل أو الأستطراد غير الضروري، بل أن يتضمن معلومات مهمة عن بطل الرواية أو إحدى الشخصيات الرئيسية فيها وأن يكون مركزاً، وقصيراً وواضحاً، وضرورياً في سياق الرواية، ومن ثم تطويره في عدة جمل لاحقة على نحو يثير الإهتمام والفضول، لأن القراء لديهم الكثير من الكتب للإختيار من بينها. الإستهلال هو الذي يشكل عند المتلقي الإنطباع الفوري عن الرواية وهل تستحق أن تقرأ..
من الخطأ إستهلال الرواية بمفتتح درامي من أجل جذب انتباه القارىء، لأن القارىء لم يطلع بعد على القصة ولم يتعرف على شخصيات الرواية، لذا لا يتفاعل مع الحوادث الدرامية ولا يتجاوب معها إذا كان لا يعرف شيئاً عن المواقف والشخصيات.
ليس المهم في الرواية المعاصرة، أن يكون الإستهلال وصفاً أو مشهداً أو حواراً، أو فكرة جديدة أو حقيقة ما، بل أن يكون قوياً ومثيرأ. ومن العبث تصنيف الإستهلالات أو تبويبها في أنماط وقوالب محددة، فلكل رواية إستهلال خاص بها لا علاقة له بأي إستهلال في أي رواية أخرى.
الإستهلال أصعب وأهم فقرة في أي رواية، وقد عانى كبار الروائيين في العالم من معضلة العثور على الإستهلال المناسب عند شروعهم بكتابة رواية جديدة. يقول غابريل غارسيا ماركيز: (المشكلة الرئيسية تكمن في البداية. الجملة الأولى في الرواية أو القصة تحدد امتداد النص، ونطاقه، ونبرته، وإيقاعه، وأسلوبه. أصعب ما في الرواية ـ الفقرة الأولى. ما أن تتقن ذلك حتى تسير الأمور بإنسيابية وسهولة. في الفقرة الأولى أنت تحل معظم المشاكل التي تواجهك في كتابة الرواية ـ تحدد الموضوع والإيقاع. لقد بحثت عن الجملة الأولى المناسبة لرواية (خريف البطريق) طوال ثلاثة أشهر. ولكن عندما وجدتها، أدركت كيف تكون الرواية بأسرها).
وكتب ايفان بونين، يقول: (الرواية الجيدة تبدأ بجملة حقيقية. حقاً إن الجملة الأولى لها الدور الحسم، فهي التي تحدد في المقام الأول حجم العمل وصوته ككل. وإذا لم تنجح في العثور على الصوت الصحيح، فإنه لا مفر من تأجيل الكتابة أو التخلص مما كتبت ورميه في سلة المهملات.
أما ليف تولستوي، فقد بدأ روايته الشهيرة (آنّا كارينينا) بالجملة التالية الشهيرة، التي دخلت إلى المناهج الدراسية للفروع الأدبية في جامعات العالم: (كل الأسرالسعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها). ثم أضاف (كل شيء اختلط في بيت آل اوبلونسكي). وبعد كتابة هاتين الجملتين أسرع ليقول لأهل بيته: (لقد أنجزت الرواية). حقاً لقد اتضحت حبكة الرواية أمام عينيه كاملة فهو يعرف على وجه التحقيق، ما الذي سيحدث لاحقاً، وكيف سيكتب الرواية؟
الجملة الأولى المثالية، ليست مجرد إستهلال، أو بوابة للولوج إلى عالم الرواية، بل يرسم العمل إجمالاً، كأنها الرواية كلها مضغوطة في جملة واحدة. وكما قال وليم بليك: (أن نرى العالم في حبة رمل). السطر الأول في رواية فرانز كافكا (التحول) التي ترجمت إلى العربية تحت عنوان (المسخ) يحتوي على مجمل مضمونها: (ما أن استيقظ غريغور سامسا صباح أحد الأيام من أحلام مضطربة، حتى وجد نفسه في فراشه وقد تحول إلى حشرة عملاقة). يمكننا أن نرى في هذا الإستهلال رحلة سامسا الداخلية ومحنته المؤلمة وموته في نهاية المطاف.
لا حاجة لكتابة وصف ممل للطبيعة أو وصف الأشخاص الذين لن يلتقي بهم القارىء في سياق الرواية، على سبيل المثال، (رأيت جارتي من الطابق الثالث منحنية على رجل جريح تهمس له بشيء)، هذه هي الأشارة الوحيدة إلى الجارة، في رواية روسية حديثة ولا يرد ذكرها في الفقرات والفصول اللاحقة. في هذه الحالة تظل الجارة في ذهن القارىء، ويحس بخيبة أمل كبيرة عندما يكمل قراءة الرواية حتى النهاية دون أن يلتقي بها في النص، ولو مرة واحدة. وكما قال أنطون تشيخوف: (لا يمكنك تعليق بندقية محشوة بالرصاص على الحائط، إذا لم يكن في نيتك أن تطلق النار لاحقاً).
لا ينبغي ان تبدأ الرواية بالمواعظ الأخلاقية أو التأملات الفلسفية لعدة أسباب منها أن القارىء لا يحب المواعظ وأن الجرعة الفلسفية لا تعطى بشكل مركز بل ينبغي توزيعها بالتساوي على امتداد الرواية. ولا مجال في المفتتح للتفكير في معنى الحياة أو أن تسأل: ما العمل اذن!.
أحيانا يكون الإستهلال صورة حية يسهل تحويله إلى لقطة سينمائية. صورة تركز على التفاصيل الصغيرة التي تدعونا للتعرف على حياة شخصية مهمة في الرواية، لذا فإن الإستهلال يبدو وكأنه بداية لفيلم سينمائي تقودنا إلى المشاهد الأخرى. صورة تستخدم فيها الإضاءة والنبرة، لنقل المزاج السائد في الرواية إلى القارىء.
لكل إستهلال صوته المنفرد. نحن نحب أن نسمع القصص من رواة أو ساردين يتميزون بالصوت الحسن، والإستهلال ينبغي أن يكون بصوت شخصية مهمة في القصة، وهذا الصوت خاص برواية معينة ولا يتكرر أبداً في رواية أخرى.
المفتتح الجيد يثير أسئلة. القارىء يسأل من هم هؤلاء الناس ولماذا تصرفوا على هذا النحو. إذا بدأت مباشرة بالصراع لن يكون بوسعك أن تحقق هدفك، لأن المشهد لن يجذب من دون سياق؟
لتقرأ هذا الإستهلال الحاذق والمؤثر الذي يفتتح به ماركيز رائعته (مائة عام من العزلة) التي تتصدّر أفضل روايات القرن العشرين: (بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا، عصر ذلك اليوم البعيد، الذي اصطحبه فيه أبوه، لكي يتعرف على الجليد).
الإستهلال هنا ليس صاخباً ولكنه يجذب من حيث الحبكة والشخصية وخط الإنفتاح. لماذا يواجه الكولونيل حكما بالإعدام رمياً بالرصاص؟ وأين كان يعيش، ومتى أخذ أبنه ليكتشف الجليد؟
ماركيز يمسك بتلابيب القارىء من الجملة الأولى. لنقرأ معاً هذا الإستهلال الذي بدأ به قصته الرائعة: (رحلة موفقة، سيدي الرئيس): (جلس على مصطبة خشبية تحت الأوراق الصفراء في المتنزه المهجور، متأملاً الوز ذي اللون المغبر، وكلتا يديه على المقبض الفضي لعصاه، وراح يفكر بالموت).
القارىء يسأل: من هو هذا الرجل، ولماذا يفكر بالموت؟ الأوراق الصفراء المتساقطة في أواخر الخريف تلميح ذكي إلى ما ينتظر الرجل في أيامه التي أوشكت على النهاية.
قد يكون الإستهلال محاكاةً ساخرة، كما في رواية (كبرياء وهوى) لجين أوستن: (حقيقة معترف بها عالمياً أن الرجل الأعزب صاحب الثروة الجيدة بحاجة إلى زوجة).
أما سكوت فيتزجيرالد فقد افتتح رواية (غاتسبي العظيم) بالفقرة التالية الموحية بما سيأتي: (في سنوات صغري وطيشي، أخبرني والدي بنصيحة ظلّت تدور في رأسي منذ ذلك الحين: عندما تشعر بالرغبة في انتقاد أحد، تذكر فقط أن ما أتيح لك في هذا العالم من مزايا لم يتح لغيرك من الناس)..
قد يكون الإستهلال شاعرياً ينطبع في ذهن القارىء بنبرته وايقاعه. كما في رواية (لوليتا) لنابوكوف، التي تبدأ بالجملة التالية: (لوليتا ضوء حياتي، والنار المتوقدة في عروقي. لوليتا خطيئتي، وروحي. لو- لي – تا، رأس اللسان حين يمضي في رحلة من ثلاث خطوات عبر الحلق، ليدق ثلاثاً فوق اللسان، لو ـ لي ـ تا). هذا المفتتح العاطفي يكشف عن الفاجعة التي ستأتي.
أما الروائي العراقي أحمد سعداوي، فقد افتتح روايته (البلد الجميل) بالجملة التالية: (نود أغنيتي التي رحلت. نصف تفاحتي، سمكة أيامي اللائبة في بحيرة صمتي، كلمتي التي أكررها مرارا). وليس من الصعب للقارىء ان يلاحظ التطابق في الإيقاع بين (لوليتا) و(البلد الجميل) رغم اختلاف الكلمات.
وقد شبه الكاتب الروسي يوري بولياكوف الإستهلال الشاعري بالقبلة الأولى في الحب فهي تعد بما لا يمكن التنبؤء به.
استهل الكاتب المصري المبدع بهاء طاهر رواية (الحب في المنفى) بمقطع شاعري جميل ومركز، وكأنه دعوة للقارىء للدخول إلى عالم الرواية، التي تعد من أروع الروايات العربية في القرن العشرين وقد وصفها أحد كبار النقاد المصريين بأنها كاملة الأوصاف، الكاتب يستهل الرواية بهذا المفتتح المثير: (اشتهيتها اشتهاءً عاجزاً، كخوف الدنس بالمحارم. كانت صغيرة وجميلة، وكنت عجوزاً وأباً ومطلقاً. لم يطرأ على بالي الحب، ولم أفعل شيئاً لأعبر عن إشتهائي. لكنها قالت لي فيما بعد: كان يطل من عينيك). وكما نرى فإن الخيال الممتع يسري خفيفاً لطيفاً في ثنايا الرواية منذ البداية، بطريقة تثير حب الإستطلاع إثارة متصلة، والعبارات قصيرة ومحددة وواضحة يستريح لها القارىء وتغريه بمواصلة القراءة.
يتبين لنا من كل هذه الأمثلة أن الإستهلال يتنوع ويتخذ أشكالاً مختلفة، وليس ثمة أي قواعد لكتابته. والواقع أن لكل رواية جيدة إستهلال خاص بها، ينطبع في الذاكرة إذا كان قوياً ومؤثراً، وعلى الروائي ان يتحلى بالصبر لأن البحث المضني عن الإستهلال الأفضل لروايته قد يستغرق وقتاً أطول مما يتصور.
الروائي العراقي عموماً لا يتعب نفسه ولا يصرف الوقت الكافي ولا الجهد اللازم للعثور على الإستهلال البارع، بإستثناء البعض منهم وفي مقدمتهم الروائي المبدع أحمد سعداوي، حيث لم أجد في معظم تلك الروايات أي إستهلال قوي ومؤثر يثير الرغبة في مواصلة القراءة، فالرواية العراقية الحديثة، غالباً ما تبدأ بموعظة أخلاقية أو حكمة، أو حقيقة معروفة، أو وصف عادي، أو حوار ممل، فيفقد القارىء كل شهية لقراءة الرواية فيطويها في ضيق ويلقيها جانباً وربما كان هذا أحد أسباب عزوف المتلقي العراقي عن إقتناء الروايات العراقية وقراءتها، في حين أن الرواية العربية غير العراقية لها سوق رائجة نسبياً في العراق.
جودت هوشيار، مهندس وباحث وكاتب عراقي معروف، أصدر العديد من الكتب الفكرية والأدبية القيمة، منها (ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ) وبموازاة نشاطه الهندسي، كتب مئات الدراسات الفكرية في الصحف والمجلات الرصينة في العراق والعالم العربي. متفرغ حالياً للدراسات الفكرية. نتاجاته تنشر في الصحف والمجلات العربية والعراقية والكردية ومنها (الإتحاد) و(التآخي) و(كل العراق) و(صوت الآخر) وغيرها.. يتقن اللغات العربية والكردية والتركية والروسية والإنجليزية.