إن تطور أي مجتمع ورقيه بات يقاس بدرجة التطور الثقافي والاجتماعي للمرأة ومدى مساهمتها الفعالة في البناء الحضاري والتنموي. فالمجتمع الذي لا ينجح في إيلاء المرأة المكانة التي تستحقها هو حتماً مجتمع مختل مسكون بأدواء اجتماعية وأخلاقية خطيرة ومزمنة. فالمرأة كيان حر مستقل له من الكفاءة والقدرات والإرادة ما يفرض على الآخر التعامل معها بوصفها كائناً بشرياً متكاملاً مسؤولاً وله كل الحقوق التي تضمن إنسانيته وتكرس فاعليته وقدرته على التأثير. فالمجتمع الناجح يجب أن يكون بالضرورة مجتمعاً قادراً على فرض توازنات اجتماعية بين الجنسين… توازنات أساسها الوعي التام والفهم الشامل لدور كل من الرجل والمرأة بوصفهما شريكين في الحياة والبناء. ولعل أهم مراحل هذا الوعي وهذا الفهم يجب أن تتمحور حول ضرورة التخلص من عقد الذكورية المسيطرة على أغلب مجتمعاتنا العربية ومن التقاليد والأعراف البالية التي سادت هذه المجتمعات والتي تسحق كرامة المرأة وتضعها في مكانة أقل من مكانتها الحقيقية.
واقع المرأة الكفيفة في المجتمع التونسي
إن أغلب المجتمعات المغاربية ومن بينها المجتمع التونسي، وإن بلغت أشواطا مهمة في معالجتها لوضعية المرأة ومدى فاعليتها في مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة والتنمية، إلا أنها ما زالت تعاني من بعض الظواهر البالية التي تجعل من المرأة كائناً دونياً ومستضعفاً مقارنة بالرجل. لا يمكننا بأية حال من الأحوال أن ننكر أن بعض النساء وبعض الشرائح ما زالت لا تحظى باي اهتمام من شأنه أن يساهم في رفع مستواها الثقافي والاجتماعي ولم توضع لها خطط مدروسة ومنظمة للنهوض بواقعها الثقافي أو الاجتماعي. ونحن إذ نقدم رؤيتنا لواقع المرأة الكفيفة في تونس.. لا نأمل أن يتسم طرحنا بالسوداوية ولا أن يكون مجرد سوق لأحكام إنطباعية وعاطفية.. فقد اتصلنا بالعديد من المنظمات والهياكل والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية لنتدارس معها واقع المرأة من ذوات الإعاقة البصرية ومن هذه الهياكل:
- وزارة شؤون المرأة والأسرة.
- مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة CREDIF.
- الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري ONFP.
كما حاولنا التعرف إلى منظومة حقوق المرأة التونسية وهي منظومة جاءت لغاية دعم حقوق المرأة والطفل من خلال تكنولوجيا المعلومات في تونس. هذا المشروع برعاية Project by
CAWTAR – Center for Arab Women Training and Research وهي منظومة تعمل على حماية الطفولة وعلاقات العمل وتكريس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالإضافة إلى الحقوق المدنية والسياسية. وهذه المنظومة تشمل الدفاع عن المرأة والطفل بصفة عامة دون تخصيص القول حول شريحة بعينها وهي في واقع الأمر تمثل مكسباً للمرأة التونسية على اختلاف وضعياتها… والمرأة الكفيفة بوصفها امرأة حاملة للهوية التونسية فإنها حتماً ستتمتع بكل هذه الحقوق وأكثر… كالحماية الجزائية من كل أشكال العنف المبني على أساس النوع الاجتماعي أو الوضعية الصحية أو النفسية والفيزيولوجية.
أهم المرتكزات للنهوض بواقع المرأة الكفيفة
إن عملية بناء أي مجتمع مزدهر ومتطور يرقى إلى مستوى الأمم المتقدمة لا بد له من وضع مرتكزات اساسية لوضع المرأة في المكانة اللائقة بها والتي تستحقها كي تكون شريكاً فاعلاً في البناء والتأسيس… ما بالك لو كانت هذه المرأة حاملة لإعاقة بصرية وتعاني من بعض الصعوبات… فالمرأة ذات الإعاقة ليست بأقل من المرأة غير ذات الإعاقة إن من حيث الكفاءة أو من حيث الإرادة ولكنها للأسف تعاني بدورها من عدة مشكلات في المجتمع التونسي من أهمها: عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي، وإساءة الظن بكفاءتها وقدراتها ونبذ الآخر لها ومعاملتها بانطباعية وبشكل عاطفي أساسه الشفقة والمجاملة، كما تعاني من صعوبة حصولها على فرص جادة للعمل والانخراط في مؤسسات المجتمع الكثيرة، وفي ضوء هذا كله سنحاول في هذه المقالة إيراد جملة من التوصيات والمقترحات لمواجهة المشكلات التي تتعرض لها المرأة الكفيفة في المجتمع التونسي خاصة والعربي بصفة عامة. وضبط جملة من المرتكزات من شأنها أن تنهض بوضعية المرأة الكفيفة. وذلك بعد تقديمنا لقراءة متأنية وجادة لهذه الوضعية وما خلفته من آثار سلبية في نفسها وعلى محيطها الخارجي.
ومن هذه المرتكزات:
- القضاء على الأمية وتقليص نسبها في صفوف النساء عامة والمرأة الحاملة للإعاقة بشكل خاص فالمرأة الكفيفة في مرحلة لاحقة… خاصة أن آليات تعليم المرأة الكفيفة في مجتمعاتنا العربية قد تبدو معقدة بعض الشيء. ولذلك وجب إرساء نظام تعليمي وتكويني يكفل لهن حقهن الطبيعي في التعلم والاطلاع على المنجزات الحضارية والثقافية وتسخير أنظمة بيداغوجية تراعي خصوصيتهن النفسية والفيزيائية والبيولوجية والتي تعتبر الخطوة الأولى لرفع المستوى الثقافي للمرأة ذات الإعاقة وزيادة وعيها لتكون فاعلة في بناء المجتمع وتطويره.
- المشاركة الفعالة للمرأة الكفيفة في الأنشطة الثقافية والفنية وهو ما من شأنه أن يعزز ثقتها بذاتها ويكرس انفتاحها على العالم الخارجي وذلك بتشجيعها على كتابة الشعر أو القصة والقصة القصيرة أو الخواطر أو المسرحيات وتسهيل نشر إنتاجها الأدبي وتطويره بالنقد والنقاش وإقامة حلقات تواصل مندمجة مع بعض الكتاب أو المثقفين من غير ذوي الإعاقة لتفعيل تواصل المرأة الكفيفة مع محيطها ولتطوير موهبتها. ناهيك عن ضرورة تشجيع المرأة الكفيفة على المشاركة الفاعلة في الندوات والمؤتمرات والأنشطة الفنية والمهرجانات وممارسة هواياتها ومواهبها كالموسيقى والمسرح والفنون الذهنية المختلفة إضافة إلى ممارسة بعض الأنشطة الرياضية والترفيهية.
- أهمية نشر الوعي بضرورة بعث الجمعيات والمنظمات والهياكل الاجتماعية والمدنية لرعاية حقوق المرأة ذات الإعاقة عموما والمرأة الكفيفة على وجه الخصوص لما تعانيه هذه المرأة من ضيم اجتماعي واقتصادي وثقافي ونفسي… فالنساء ذوات الإعاقة البصرية وكغيرهن من كثير من الفئات المهمشة في كثير من الأحيان لا يدركن أن لهن حقوقاً، وينقصهن الوعي والمعرفة الشاملة والمفصلة بهذه الحقوق وكيف يطلبنها. هذا يمنعهن من أن يشاركن بنشاط في عملية تنمية المجتمعات التي ينتمين إليها. كما يمنعهن من القدرة على تجاوز العقبات وتحسين وضعيتهن ووضعية أسرهن وذويهن وتحسين ظروف معيشتهن.
واعترافا بأهمية رفع وعي هذه الفئة المحدودة بحقوقها، ننوه هنا بأهمية الدور الذي تضطلع به منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحكومية وحتى المؤسسات الاجتماعية الخاصة، التي تتطلع لرسم منهج حقوقي توعوي له سلطة معنوية واعتبارية لتطوير دليل عن الحقوق والحريات يكون مطبوعاً بجميع اللغات وفي نسخ برايل تسهل نفاذ المرأة الكفيفة له والتعرف على أقسامه.
فالمرأة الكفيفة تحتاج للنهوض بوضعيتها وبمحيطها العائلي والمجتمعي بصفة عامة، إلى تقليص الفجوات ذات الصلة بالوعي بالحقوق وكيفية تكريسها وتطبيقها على أرض الواقع. وكذلك كيفية وضع خطط عمل للعمل على حل القضايا المتعلقة بالنساء الكفيفات. والأهم من ذلك، كيفية رفع هممهن وتعزيز ثقتهن بحقوقهن من أجل تمكينهن ليطالبن بهذه الحقوق.
وهذه المنظمات ستقوم حتما بتفعيل التشريعات الصادرة لحماية حرية المرأة الكفيفة وضمان حقوقها المدنية كاملة وإطلاق طاقاتها الإبداعية وترفع عنها كل أشكال العنف والاضطهاد والضيم المسلط عليها ودحض النظرة الدونية الموجهة لها والتي تحط من كرامتها.
- أن تأخذ منظمات المجتمع المدني وخاصة النسوية منها دورها الحقيقي في بناء خطة تواصلية ناجعة تصل المرأة الكفيفة بمحيطها الخارجي وتساهم في تنمية وعيها وذلك بإنشاء نوادٍ وجمعيات ومراكز ثقافية مندمجة تجمع بين كل مكونات المجتمع وتجمع النساء الكفيفات بأشقائهن المبصرات ذلك أن لهذه المنظمات دور فاعل في العمل على تثقيف المجتمع وتغيير عقلية أبنائه نحو احترام المرأة الكفيفة وإبراز مدى أهمية دورها في بناء المجتمع وتطويره. فالمرأة الكفيفة لا يمنعها فقدان بصرها أو ضعفه من تأسيس أسرة وإنجاب أبناء قد يتوفر لهم من الحنان والرعاية والحرص ما قد لا يتوفر لغيرهم من أبناء باقي الأسر والأمهات المبصرات.
- وضع مناهج تربوية للمدارس بجميع مراحلها وللجامعات تدعم احترام المرأة الكفيفة وذات الإعاقة بصفة عامة وتقوم على إدماج الفتاة الكفيفة في المدارس العمومية وفي كل المؤسسات التربوية والتنشيطية وتوفير ما يلزمها من وسائل إرشاد وتوجيه لتتعود على الاندماج في محيط عادي يتعامل مع الإعاقة بصفة أفقية وسلسة. إضافة إلى إدماج المرأة الكفيفة في المؤسسات التعليمية ومراكز الوظيفة العمومية بسلاسة أكبر… فالمرأة الكفيفة تستطيع أن تكون فاعلة في أي موقع في المجتمع والاعتراف بأهمية دورها كمربية وكَمَدرسة تعد أجيالاً واعية وواعدة تساهم في بناء وطن متوازن يحترم كل أبنائه مهما كانت حالتهم ومهما كانت وضعيتهم النفسية أو الصحية أو الاجتماعية… وطن لا سقف يعلو فيه على سقف الحريات.
- ضرورة مراجعة المناويل التنموية للدول والحكومات العربية. وهي مناويل قائمة على إقصاء بعض الفئات وتغييبها وتهميشها. ومن هذه الفئات المرأة الكفيفة التي تمثل جزءاً مهما من المجتمع عموماً ومن المجتمع التونسي خصوصاً. وفي هذا الصدد يمكنني أن أستحضر هنا تعريفاً جاداً وجديداً للتنمية لـ (جو ماري شانكر) في مقال له عام 1998 في نشرة (اكسبرس) التي يصدرها المركز الدولي لمعلومات التنمية بكندا.. إذ يقول: (إن مفهوم التنمية لم يعد قاصراً الآن على محاولة اللحاق اقتصادياً بالدول الأكثر تقدماً بقدر ما يهتم بالكشف عن قدرات الشعوب ودراستها دراسة عميقة.. لفهمها والاسترشاد بها، كما يعني أن التنمية ذاتها خرجت من نطاق الاقتصار على الاهتمام بمشكلات اقتصادية ضيقة محدودة ومحددة والانطلاق إلى مجالات أوسع وأرحب يصعب تناولها بكفاية من دون الإحاطة الشاملة والدقيقة بتلك الثقافات الوطنية.. كما أن الالتفات إلى هذه الثقافات.. لا يعني فقط معرفة مدى تقبل تلك الثقافات للمشروعات المقترحة من الهيئات والمنظمات ولا حتى مجرد الاسترشاد بالعادات والأعراف والقيم الثقافية التقليدية في وضع مشروعات التنمية.. وإنما يقتضي في الوقت ذاته التعرف على الهوية الثقافية للمجتمع. لأن هذه الهوية تختلف من دولة لأخرى.. وحتى داخل الدائرة الثقافية الواحدة التي تنتمي إليها هذه الدول). وهذه الهوية التي يتحدث عنها هي هوية حاضنة لكل الفئات والشرائح ولكل البصمات والخصوصيات… هوية لا تستثني أحداً ولا تهمل خصيصة حضارية أو ثقافية بعينها.
إن أهم مرتكز أساسي لبناء ثقافة المرأة ذات الإعاقة البصرية وتطوير وعيها بذاتها وبالأشياء من حولها وبقضاياها وقضايا أمتها ومجتمعها هو توفر الأمن والاستقرار النفسي والاجتماعي ومن دونها لا يمكن النهوض بواقع المرأة الثقافي وتطوير مكتسباتها ومواهبها وبالتالي لا يمكن بناء مجتمع متطور ومتوازن. فالتطور والبناء الحضاري لأي مجتمع مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور ثقافة قبول الآخر والتعايش معه مهما كانت درجة اختلافه وخصوصيته. والمرأة الكفيفة هي ذاك الآخر الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من مجتمعاتنا وحياتنا الموسومة بالتنوع والاختلاف… فهي كائن اجتماعي قادر على إثبات ذاته والمساهمة الفعالة في بناء مجتمع مدني قائم على المواطنة وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية والمبادئ الانسانية. ولا يمكن لأي مجتمع أن يبني حضارة دون أن تساهم فيها المرأة الكفيفة مساهمة فعالة كما لا يمكنه النهوض أو المضي قدماً في مسارات الحضارة وجزء من مكوناته مغيب ومعطل ومشلول.
سناء حميدات، أستاذة وباحثة بالجامعة التونسية، متخرجة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس قسم اللغة العربية وآدابها، اختصاص أدب حديث، عضو وحدة الدراسات السردية وتحليل الخطاب بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة.
- أعمل حالياً ملحقاً بوزارة الثقافة والمحافظة على التراث، وأكتب بعض المقالات في بعض الصحف والمجلات الأدبية والثقافية في تونس وفي العالم العربي.
- أنجزت عدة أبحاث بعضها نشر وبعضها قيد النشر، ومن أهمها: (نقد نظرية الاستخلاف.. علي عبد الرازق أنموذجاً)، مركزية الهامشي في رواية (موال البيات والنوم) للروائي المصري خيري شلبي، الذاتية والنصوص الموازية، قراءة في عتبات (شرفة العار) للأديب الفلسطيني ابراهيم نصر الله، القصصية وتعدد الأصوات، قراءة في رواية (رأس المحنة) للأديب الجزائري عز الدين جلاوجي، لعبة الحياة والموت في رواية (سيدة المقام) لواسيني الأعرج، قراءة سيميائية في نعي جمال الغيطاني،.. وغيرها من المقالات التي حاولت فيها تقديم قراءات لبعض النصوص السردية وخاصة منها الروايات التي لها وزن بارز في الساحة النقدية العربية عموماً والتونسية خصوصاً.
- أجريت جملة من الحوارات مع كبار الأدباء والمثقفين العرب وذلك في إطار سعيي لتقديم رؤية للعالم وللأدب انطلاقاً من عيون الأدباء وكبار الكتاب والمفكرين. ومن هذه الحوارات حوار مع الأديب المصري خيري شلبي وكان آخر حوار أجراه قبيل وفاته، حوار مع الأديب المصري الكبير جمال الغيطاني، حوار مع الأديب والروائي السوداني أمير تاج السر، حوار مع الروائي الكويتي سعود السنعوسي، حوار مع الدكتور مهدي مبروك وزير الثقافة السابق في تونس والرئيس الحالي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس، حوار مع الأديبة والباحثة الفلسطينية سحر خليفة. وتواصلت مع الأديب الكبير ابراهيم نصر الله وقد أبدى موافقته على إجراء حوار، إلى جانب الأديب الجزائري واسيني الأعرج والسعودي عبده خال والأديب الليبي محمد الأصفر والمغربي محمد برادة.
- أجري أيضاً مجموعة من الأبحاث آمل أن ترى النور قريباً، منها صورة الأعمى في الشعر الحديث ومكانة المرأة في أدب المهجر، إضافة إلى اهتمامي ببعض المسائل التربوية والثقافية مثل مسألة إدماج الأشخاص ذوي الإعاقة والفئات المهمشة والمستضعفة في المشهد الثقافي العربي.