«مركز الفن للجميع».. منصّة لاكتشاف مواهبهم
«ذوو الإعاقة أبناؤنا الذين نؤكد على حقوقهم بتجاوز ثقافة العطف والرعاية، كونهم من أفراد هذا المجتمع، الذين نكمل بهم صناعة المستقبل وصياغة أهدافه، وإنني أدعو فئات المجتمع كافة من مؤسسات وأفراد، إلى الالتزام بواجباتهم نحو هؤلاء الأحبة المنبثقة عن ديننا».. وحدها كلمات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، التي وجهها بمناسبة اليوبيل الفضي لمخيم الأمل بالشارقة (ديسمبر 2014) أبدأ بها سطوراً تحمل كثيراً من الأمل والتفاؤل والسعادة لأبناء هذا الوطن.
فلسفة سموه الحكيمة ورسالته التي يحملها أبناؤه كانت وراء «فلج»، والاسم هنا لا يعني القناة المائية أو الجدول المائي الصغير، الذي يحمل معه الحياة إلينا فحسب؛ بل يعني في الإمارة الباسمة اختصاراً لعبارة «فن للجميع».
إلى منطقة التراث بقلب الشارقة ذهبنا لنرى ونتجول ونرصد وننقل عبر سطور مقبلة قصة حياة، استطاع بجدارة أن يكتبها «مركز الفن للجميع».
ما إن تطأ قدماك أرض المركز، وما إن تقع عيناك على موقعه وسط منطقة تنطق بالتراث، حتى تدخل رئتيك رائحة التاريخ والقدم والأصالة، قشعريرة تدبّ في جسدك حين تعرف أن هذا المركز يقدم تجربة رائدة في مناصرة واحتواء وتمكين الأشخاص المبدعين من ذوي الإعاقة في مجالات الفنون والثقافة المختلفة في الدولة وبلدان الوطن العربي، وأن من خلاله سيتم تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين الفنانين ذوي الإعاقة وأقرانهم من غير المعاقين في ممارسة الأنشطة الفنية والثقافية، ولا محالة ستعرف أن للسعادة معنى حين تدرك أنه سيمكن ويدمج المبدعين من ذوي الإعاقة في الحراك الفني والثقافي للدولة، إلى جانب التعاون مع المؤسسات الفنية والثقافية في تقديم البرامج التدريبية والمشاريع الفنية لهم، فضلاً عن توسيع فرص الدمج لتشمل الإقليمي والدولي مستقبلاً.
أهداف ورسائل ورؤى متفرّدة ومتميزة مهمومة ومهتمة بالإنسان وكيفية تنميته واكتشافه والتوغّل داخل أعماقه، يحملها «فلج» على عاتقه، ذلك المركز الذي افتتحه مؤخراً صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والتابع لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
أول ما يلفت نظرك ما إن تبدأ جولتك في مركز «الفن للجميع»، ذلك اللوح التذكاري للمبنى الذي تميز بجمعه بين الفن التشكيلي والخط العربي، وهو الذي وقّع عليه صاحب السمو حاكم الشارقة إيذاناً بافتتاحه. الهدوء والأمان والسكينة، أحاسيس تشعر بها ما إن تتأمل بعض اللوحات التي تدرّجت ألوانها، وباتت رسائلها واضحة للجميع، معظم اللوحات تحمل معنى الحياة كما يراها ذوو الإعاقة. قطع حالة صمتي وتأملي لأجواء المركز التي تبوح بأسرار أصحابه صوت محمد بكر طه مدير مركز «فلج» الذي استقبلنا بحفاوة، ولم يفارقنا طوال جولتنا داخل المركز.
قبل أن نبدأ الجولة بدأ محمد بكر يتحدث عن فكرة وهدف «فلج»، قائلاً: «ليست فكرة طارئة منقطعة عما قبلها، وليست عملاً محدوداً معزولاً عن محيطه، فالفن للجميع ممارسة حقيقية وواقعية، والفن لغة عالمية ليست حكراً على أحد، بل يسمعها الأصمّ بعينيه وبنبضات قلبه، ويقرأها الكفيف برهافة إحساسه ولمس أصابعه».
ويضيف: «الحقيقة أن الشيخة جميلة القاسمي المدير العام لمركز فلج، حينما يُذكر اسمها تقفز إلى الأذهان صورة الريادة الإنسانية بكل تجلياتها، حيث تعمل مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية منذ تأسيسها في 1979 على تحقيق رؤيتها المتوافقة مع مضامين الاتفاقيات الدولية لحقوق ذوي الإعاقة، وهي بالفعل امرأة ذات تاريخ إنساني عميق في تمكينهم في الإمارات والوطن العربي، وإصرارها على الريادة في هذا المجال الإنساني جعل أحلامنا ليس لها سقفاً، فنحن نحاول معها أن نبني كوادر من الفنانين الذين ندعمهم ليكونوا من المشاهير في جميع المجالات الفنية والثقافية، ونقدّم لهم البيئة المناسبة لتنطلق إبداعاتهم التي نقوم بالتسويق لها من خلال عملنا على الاستدامة والاستمرارية، وحلمنا الأكبر أن يأتي اليوم الذي نشهد فيه دمج ذوي الإعاقة في الأعمال المسرحية والموسيقية».
وعن أبرز المشاريع والبرامج الفنية لمركز«فلج» استطرد بكر حديثه قائلاً: لدينا العديد من المشاريع التي يأتي في مقدمتها، «شارقة مايم» وهي أول فرقة مسرحية مختصة في تقديم عروض البانتومايم، وتضم في عضويتها جميع الممثلين الموهوبين من ذوي الإعاقة السمعية على مستوى الإمارات، وتقدم العروض داخل الدولة وفي محيطها الإقليمي والدولي، أمّا «مرسم فلج التدريبي» هو المشروع الثاني والمهم أيضاً، ويهدف إلى تعريف المنتسبين على المهارات والاتجاهات الحديثة والمعاصرة لمدارس الفن التشكيلي، وتطوير قدراتهم لصياغة عمل فني متكامل من خلال التدريب على تمييز الألوان والخامات، وكيفية استخدامها ودلالتها وطرق الرسم الحديثة، وإيجاد رؤية فنية مستقلة.
قطعت حديثه لأسأله عما تردد على مسامعي بوجود صالون «فلج» الثقافي، ليجيب بكر بلا تردد: «هو نقطة التقاء بين المبدعين من ذوي الإعاقة ورموز فنية إماراتية لامعة، ليشيّدوا معاً جسور التواصل والحوار وليستكشفوا سبل التعاون المستقبلي بينهم. وهذه الرموز الفنية ستساهم في تذليل العقبات أمام دمج الفنانين المنتسبين للمركز، ومن المقرر أن يكون موعد انعقاده شهرياً».
ومن الصالون الثقافي إلى المرسم الحرّ يصحبني مدير المركز في جولة عبر أرجاء المرسم الحرّ الذي يتيح فرصة للفنانين المستقلين من ذوي الإعاقة في ممارسة الفنون التشكيلية من خلال توفير مساحة إبداعية لهم على مدار العام. ويضيف بكر: «نوفر الخامات والأدوات اللازمة لممارسة إبداعاتهم بصورة مستقلة على أن يكون هناك تعاقد بينهم وبين المركز الذي يحصل على نسبة من مبيعات لوحاتهم وفقاً لعقد مبرم بينهم وبيننا».
وبعيداً عن الفرشاة والألوان أدخل إلى عالم الموسيقى والغناء من خلال الغرفة الضخمة التي خصصها المركز لمشروع «الصولويست» الذي تحدّث عنه بكر، قائلاً: «يهدف إلى تنمية المواهب الموسيقية والغنائية الفردية، ولدينا علياء عبدالقادر المتألقة في العزف على البيانو، والفنان إبراهيم الحمادي المتألق في العزف على العود والغناء، ونحن في المركز نطور قدراتهم الفنية وإعدادهم للمشاركات الداخلية والخارجية».
ويختتم بكر الجولة بالحديث عن الورش الكثيرة التي أعدت منذ افتتاح المركز قائلاً: ورشة «عالم من ورق» قدمت أساسيات في فن الكولاج، وورشة «فن الخط» التي قدم فيها المدربون محاكاة الخط العربي مع الرسم، وورشة «الرسم بالخيوط»، ودورة في فن التزيين بالفسيفساء، كل هذه الورش تهدف إلى تدريب الأشخاص ذوي الإعاقة والعمل على حلمنا بدمجهم في جميع مجالات العمل الفنية والتثقيفية في المستقبل القريب.
جميلة القاسمي: انطلاقة جديدة لرؤية واضحة
الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي، مدير عام مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، والمدير العام لمركز الفن للجميع، الذي ترى أنه امتداد للبدايات وتطوير لها، واقتراب والتصاق أقوى بالمبدعين مهما تنوعت تخصصاتهم وتفردت مجالاتهم.
وتشير إلى أن البداية كانت حالمة وواعدة ضمن تظاهرة بينالي الشارقة الأول من نوعه الذي أقيم في أبريل / نيسان 1993، ومعرض الفن الخاص جداً الذي أقيم ضمن بينالي الشارقة الثاني، بمشاركة فنانين مبدعين من ذوي الإعاقة من الإمارات وعدة بلدان خليجية وعربية، تلتها مكرمة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، في أكتوبر/ تشرين الثاني 1995 بتدشين مقر جماعة الإمارات للفن الخاص بالشارقة.
وتقول الشيخة جميلة القاسمي: «لأن مناصرة واحتواء وتمكين الأشخاص من ذوي الإعاقة في مختلف المجالات، يدخل في صلب رؤيتنا ورسالتنا في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، أنشئت في ديسمبر/كانون الأول 2010 جماعة الإبداع الفني، لتساهم في دعم عمل جماعة الإمارات للفن الخاص، وتتوسع معها دائرة الاهتمام بتنمية القدرات الإبداعية لذوي الإعاقة في مجالات فنية أكثر تنوعاً، شملت الفنون المسرحية، والموسيقى، إلى جانب الفنون التشكيلية؛ إلا أن عمل الجماعة اقتصر على اكتشاف الموهوبين من ذوي الإعاقة من داخل المدينة، لصقل مواهبهم، وإكسابهم الثقة بأنفسهم، ومساعدتهم على الاندماج في المجتمع».
وتكمل الشيخة جميلة القاسمي حديثها عن انطلاقة مركز الفن للجميع (فلج) قائلة: «هذه الانطلاقة لم تكتف بالاعتماد على تجارب وخبرات مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، التي كانت أول من وظف الفن خدمة لقضايا الأشخاص ذوي الإعاقة في الإمارات؛ بل توسعت في ذلك إلى الاستفادة من الخبرات والتجارب العالمية المتقدمة في المجال، فحازت بجدارة عضوية الجماعة الدولية للفن الخاص جداً، وحافظت عليها سنة بعد أخرى، وجددت اليوم مع مركز جون كينيدي للفنون الأدائية، والمنظمة الدولية للفنون والإعاقة (VSA) ومقرهما في العاصمة الأمريكية واشنطن».
وختمت الشيخة جميلة القاسمي حديثها بالقول: «العمل على فكرة الفن للجميع ليس فقط كتوجه ثابت في مشاريع المركز وبرامجه؛ بل أيضاً كبيئة مادية ومكانية ميسرة، يوفرها المركز الذي منحه لنا صاحب السمو حاكم الشارقة، وُشيد بالتعاون مع مؤسسة الشارقة للفنون بأعلى مواصفات ومعايير التصميم الشامل، الذي يحقق إنسانية المكان، ويتجاوب مع احتياجات جميع رواده والمستفيدين منه».
الثمار الأولى: 3 مبدعين
بعيون ترنو إلى مستقبل مشرق، تنيره الإرادة والإبداع، بأحاسيس تمتزج بالفرح والتحدي والصبر، بروح مليئة بالحماس، وأنامل تتحدث وحدها بلغة الريشة والألوان، استقبلتني ملامح وجوه 3 من الذين يحتضنهم ويتبناهم مركز «فلج». حين تتأمل ابتسامتهم تشعر بأن حياتك خاوية من الهموم، بل وربما تنظر إلى ضغوطك بكثير من السخرية، وحتماً وبالتأكيد ستشعر بضآلة معاناتك أمام إرادتهم.
موزة عبد الله منحها سبحانه وتعالى، قدمين من ذهب، بعد أن قُدر لها أن تكون صاحبة لقب من ذوي الإعاقة الجسدية. يداها غير قادرة على ممارسة وظائفهما، والكرسي المتحرك وسيلتها الوحيدة للحركة، خادمتها تصحبها 3 أيام أسبوعياً إلى «فلج» لتعبر عما يدور بخلدها وقلبها وترسم شجونها ومشاعرها على الورق.
نجحت عبدالله في أن تتغلب على إعاقتها وتحولها إلى مصدر إبداعها، حين قررت أن تستخدم قدميها في التعبير، تُمسك بريشتها التي اعتبرتها الملاذ الوحيد الذي وجدت من خلاله ضالتها المنشودة في اكتشاف ذاتها، تمسك بها برقة مرهفة بين أصابع قدميها لترسم وتلون وتبدع وتكتشف وتتحدث وتزهو وتفخر وتبكي.
سألتها: «ماذا تريدين القول عبر تلك الدوائر الملونة التي ترسمينها على اللوحة؟»، فأجابت: «الحياة»، قبل أن تملأ ضحكتها الأجواء. وحين سألتها عن لوحتها التي وضعها المركز على جدرانه قالت لي: «حياتي».
بهدوء شديد جاءني صوت محمد بكر قائلاً «تلك اللوحة كان اللون الأسود مسيطراً عليها، وقبل أن تنتهي موزة منها فوجئنا بها تعيدها مرة أخرى لتدخل جميع الألوان وليصبح الأسود ملمحاً هامشياً في حياتها».
حفيظة محمد التي قُدر لها أن تعيش بيد واحدة، لم تيأس واعتبرت أن يداً واحدة للإنسان لا تعني نهاية حياته، فبهذه اليد ستعمل المستحيل، وتتخطى الصعاب. تحلم بأن تكون رسامة عالمية شهيرة، وتقول «فلج» بالنسبة لنا لا يعني سوى الحياة، فرصة نادرة الوجود، لن تتكرر، وليس من المستغرب لها أن تخرج من إمارة الشارقة التي دائماً ما تهتم بنا حاملة رسالة إنسانية.
وتضيف: «وجدت ضالتي على أرض هذا المركز، جئت وأنا أعرف أنني سأصل إلى حلمي بالعالمية، ونجحت بفضل توفير المركز لكل الإمكانيات بشكل مجاني، وتدريبنا من خلال الورش والمدربين الذين لا يبخلون علينا. لوحاتي تلخص المشاعر، وأرصد من خلال وجوهي التي أرسمها الحزن والفقر والسعادة والصبر والإيمان. لقد وجدت روحي بين أرجاء المركز».
مصعب عبد الرحيم من ذوي الإعاقة السمعية، تلك التي فرضت علينا أن نتحدث بالإشارة، أمسك لوحته التي احتضنها بين حنايا قلبه وبدأ يشرح لي كيف أنه استطاع أن يجمع بين الخط والرسم في لوحة إبداعية تتوسطها عينان تبثان الأمل والتفاؤل، وحولهما عبارات كتبت بخط عربي غاية في الجمال. كان أكرم العوضي مدرب ومنسق المركز للفن التشكيلي يترجم لي ما يقوله مصعب الذي بات يرسم لوحة جديدة تحمل كل ألوان الطيف ليكتب عليها «سبحان الله». هكذا ينظر مصعب للحياة، وهكذا يشكر ربه على ما منحه.
قبل أن أغادر بمشاعر من الشجن والحزن والفرح والتفاؤل، اختتم أكرم العوضي منسق المركز جولتي قائلاً: «الفلج» اسم يلخص أهداف ورؤى المركز، وأعتقد أن الشيخة جميلة القاسمي، المدير العام للمركز، اختارته دلالة على أنه ينقل الحياة مثل الماء المنساب، من دون عناء لينشر الخير الدائم.