وصلت حنين وهي تلهث بمشاعر فياضة، حالمة والدنيا لا تسعها ولا تجد موضعا لقدمها من فرحتها وغبطتها.
انحدرت حنين من أصول عراقية عريقة، لها جذور مغروزة بالِقدم كعمر الزمن، وتأريخ أسرتها يحكى عنه للأجيال كالأمثال ترفع من شأن القدرة والقدوة وتشحذ الهمم؛ كونهم لا يطلبون إلا السلام والأمان، ويؤمنون بالرب الواحد الغفار، صاحب الجلال.
الابتسامة لم تكن تفارق وجهها الملائكي الجميل، متسامحة في حياتها إلى درجة الإفراط، وقلبها أبيض من الحليب، عيناها تؤكدان كلامها، تنبذ الفوضى وتركن للهدوء في إلهام ولا تعرف أن تعيش إلا في أجواء من السلام، كالسمك في الماء.
نبيهة، فطنه، ذكية وتتلقف الأشياء بهمسة أو نظرة كساحر يريد إدهاش جمهوره. كانت الأنثى الوحيدة من بين سبعة ذكور؛ رحل أبوها وهي في السابعة من العمر، فترك لزوجته حملا لا يقدر جمل على حمله، لكنها صمدت، تحملت وأظهرت تفوقها بين أبنائها في نشر الحب والسلام دون تفرقة، فتخرج منهم من تخرج، ليعملوا في مراكز هامة وكبيرة في الدولة، ومنهم من تأخر في دراسته، لكنه لقي ضالته في مهنه ورثوها عن أجدادهم وأبيهم- صياغة الحلي من الذهب والفضة – تلك التي لا تدرس في بلاد العرب؛ فنجحوا فيها أيما نجاح، وجمعوا المال وأصبحوا من أصحاب الجاه والثراء… وأمهم تنظر إليهم فرحة، متفائلة، فخوره بهم وبما صنعت أيديها من صنيع…
بعد أن تزوجت حنين وهاجرت مع زوجها إلى بلاد الغربة، تلك التي لم تجد ضالتها، طموحها أو حتى أملها في الحياة كما كانت قبل الزواج…
فعاشت الظمأ، عرفت الفراغ، جربت الهروب والانزواء، ونامت مع الحرمان وهي تحتضن ذكرياتها وتحن إلى ماضيها البعيد القريب لعلها تجد شعاعاً يضيء طريقها أو عن حزنها وعزاءها يسليها، ولم تجد غير الكآبة والفرقة والركض وراء ماديات الدنيا التي تنبذها.
فانزوت في ركن مظلم، بارد وحيد من أركان الغربة وهي تشعر بأن حياتها ستنتهي على هذا الحال، ففاتحت زوجها تطلب منه السماح بزيارتهم… وها هي الساعة تصل، والفرحة والسعادة تملئها حتى نخاع عظامها.
دخلت وداخلها يتفجر نشوة في الروح والجسد…
تفاجأت…
انبهرت مذعورة مما رأت وهي تشعر بأنها مرتبكة وعاجزة عن التصرف أو التصديق…
رجعت إلى الوراء بقلق رهيب حتى أصدمت بإحدى الأبواب شبه المخلوعة، ثم تجرأت فتقدمت نحو الغرف التي تعرف طريقها جيداً بخطى مجنونة، فوجدتها خاوية متروكة!! فزعت فجأة عندما قفزت قطة كبيرة كقطة قصاب، من فوق رأسها… رفعت صورة وجدتها على الأرض مكسورة، فعرفتها، لأنها هنا من أجلها، ألتفتت إلى الجدران المتآكلة مصعوقة، فرأتها متشققة وطلاؤها الذي كان براقاً في الأمس القريب تحول إلى لون أكثر سوادا من الفحم! حاولت الهروب أو الخروج، سقطت متعثرة ببقايا من أشياء كانت متناثرة، صرخت، بكت ولم يسمع أحد نحيبها…
ظلت تبحث بخوف ممزوج بالاشمئزاز وتفتش لعلها تجد ما أتت من أجله، وتكلفت لرؤيته…
لكنها وسط محنتها بانفعال كلمت لنفسها وهي تحملها مقداراً كبيراً من الحزم:
يا ليتني لم آتِ!!
ما هذا الحطام؟
ما هذه الأكوام؟
أين أجد ما أبحث عنه؟
بشجون وخشوع، وبصوت موجوع دعت:
يا إلهي… ساعدني كي أعثر على جوهرتي التي تركتها هنا قبل رحيلي ومن أجلها أتيت، والمشقة تحملت وعانيت…
آه… لو تعرفون كيف كان حال حنين وهي في لجة الهم والسخط والحرمان، وهي تبحث تحت الأنقاض، كطفلة تبحث عن دميتها حين استفاقت فجأة في منتصف الليل ولم تجدها كما وضعتها قبل نومها في حضنها، ففزعت مرعوبة والعرق يغسلها كمياه شلال.
غلبتها الحيرة، صرعتها المشاهد وأبكتها الصور التي كانت تنفخ فيها بكل قوتها، تقلبها، تقبلها وتسألها، تغني لها، تمسحها… علّ عنها غبارها تخفيه…
لكن محاولاتها كلها بالفشل باءت
كمن يطلب من ميتاً أن ينبض
ومن الكسيح أن يركض
ومن الغريق أن يعوم
استراحت لحظة، اتكأت على حافة سلم البيت الذي لم يبق منه سوى بعض السلالم المتهالكة التي لا تقوى على الصمود إذا أرتقاه أحدهم؛ مكسورة الخاطر، مبللة العينين، بعبوس وحسرة ناحت مدمدمة:
كل شيء مدمر، محطم كأرض لم تفلح جيداً، فبقيت مبعثرة، خربة وكأن شهاباً أصابها فقلب عاليها سافلها أو لعنة حلت بها فحولتها إلى شيء يشبه الجحيم بعد أن انطفأت ناره، ثم أردفت برنة مخنوقة:
جبر الله بخاطركم يا أهلي!!
أين البخور وعطر الزهور؟!
بل، أين جنة حديقتنا، بسمة وتغريد طيورنا؟!
ثم تغير صوتها، فظهر كصوت قطه محاصرة وهي تضيف بهمس مخيف:
أين تلك جلسات السمر الدائرية قرب الموقد المتقد؟ أين حكايات الليل السرمدية التي كنا ننام على وقعها؟ وأصوات أكواب الشاي التي تصب وتدور، وعطر الهيل الذي منها يفوح، وترنيمات أخوتي السبعة، وحضن أمي الدافئ!! وهي تئن، رطبت خدها دمعة كبيرة، بحجم حبة مطر في منطقة ساحلية، ونادت:
آه يا ربِ… أين هذا كله؟ أين العواطف المتأججة، المتوجه والمشحونة بالعطف والحب والخوف على الآخر؟ ماذا جنينا كي نعاقب بصاعين؟!
عندما غادرنا وتغربنا، فجدبت أرضنا ونضب عطف سمائنا جيناً، وحيناً عندما نرى أهلنا وقد تقطعت بهم سبل المحبة ليبدوا وكأنهم أعداء، ليس لهم من هم سوى الاعتداء!!
هل هذا هو بيتنا؟
أين الحب الذي إليه حنيت؟
ومشقة السفر والطريق عانيت!!
أين التسامح والرأفة والأخوة التي كانت في الأمس القريب غطائي وسقفي ويدي به يوماً حنيت؟
ما هذا الذي أراه؟!
فجأة، اختفت ابتسامتها التي كانت عنوان وجهها منذ يوم قريب؛ تبدلت ملامحها، فظهرت قاسية كالصخر، كالحة كأحجار الجرف…
تنظر إليهم وهي تبحث عنهم وكأنها لا تراهم، بعينين مندهشتين، مذعورتين، وهي ما انقطعت عن الترديد بلهجة أقرب إلى الهذيان:
أين هي الألفة، تلك التي تعودتها وتنفست هواءها قبل رحيلي؟ فتمثل لها المنظر فجأة القبر الذي ستدفن فيه!! ثم تأتأت بحشرجة كلام خرج متقطعاً، غير مفهوما:
كل ما ينزل من السماء، تتلقفه الأرض!
فلم تسمع إلا صدى كلماتها المهزوزة، المخنوقة ولهاث أنفاسها، وكأنها إلى الله تتضرع…
لم تلمس الحنين…
ذلك الذي تحجر في قلوبهم وتحول إلى شيء كالهوس، كالجشع المخلوط بعجين الطين!!
لم تجد الحب الذي كان يغرد في بيتها، بل لم تجد فيه أصلاً أمها…
لأنها كانت في إحدى بيوت المسنين تنتظر بجزع رحيلها!!