اليوم الفاصل بين حياتين
ريموند كارفر (1938 ـ 1988) ـ قاص وشاعر أميركي، يعد واحداً من أساتذة القص الأميركي الحديث، وأكثرهم شعبية. وقد ترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة أجنبية، وتم تحويل العديد من قصصه إلى أفلام سينمائية ناجحة. وقبيل وفاته، كان يحب أن يردد: (أنا إنسان سعيد. فقد أتيح لي أن أحيا حياتين). وحدد كارفر بدقة التأريخ الفاصل بينهما، أي نهاية الحياة الأولى وبداية الثانية، وهو الثاني من حزيران 1977. كان هذا اليوم بالنسبة إليه يوماً مشهوداً ومخيفاً في آن واحد ـ وكان في ذلك الحين كاتبا وشاعرا معروفا إلى حد ما ـ ففي هذا اليوم وقع في حالة غيبوبة دماغية نتيجة إفراطه في شرب الكحول. وفيما بعد قال وهو يتذكر هذا اليوم: (كأنني وقعت في قاع بئر عميقة جداً). وقد تمكن الأطباء من إعادة كارفر إلى الحياة. ومنذ ذلك اليوم ترك شرب الكحول نهائياً.
حياة كارفر الثانية لم تدم سوى 11 سنة، فقد توفي في الثاني من أغسطس 1988 بمرض سرطان الرئة. كان يصارع المرض الرهيب ويعلم أن الوقت المتاح له قليل جداً، لأن نهايته قريبة، ومع ذلك كان يردد دوماً أمام أسرته واصدقائه: (إنني في كل يوم أشعر بنعمة ربي. وفي كل يوم أشعر بدهشة بهيجة لحياتي المستقرة).
حقاً إن حياة كارفر الثانية كانت أكثر انتظاماً واستقراراً من حياته الأولى، والأهم من ذلك أن طاقته الإبداعية لم تتضاءل، بل على النقيض من ذلك، أصبحت أقوى وتجسدت ببراعة في العديد من المجاميع الشعرية والقصصية الجديدة. وحصل على المجد الأدبي والشهرة العريضة عن جدارة، وعلى الرفاه المادي، وعرف الحب الحقيقي حيث تزوج من الشاعرة تيس غلاغر، بعد أن انفصل عن زوجته الأولى.
وعندما كان يتحدث عن السعادة التي غمرته في نهاية رحلة العمر، لم ينس حياته الأولى الشاقة ولم يشطب عليها، لأنها كانت في الوقت ذاته مدرسة كبيرة تعلم فيها الكثير.
مدرسة الحياة
ولد كارفر في 25 ايار 1938 في بلدة كلاتسكيني الصغيرة في ولاية اوريغون، في شمال غرب الولايات المتحدة. وأمضى طفولته في ياكيما (ولاية واشنطن)، حيث تتركز فيها الصناعات الخشبية، كما هو الحال في العديد من المدن الأخرى في تلك المنطقة.
في ياكيما استطاع الاب ان يجد لنفسه عملاً في منجرة بصفة عامل شحذ المناشير. كان دخل الأسرة قليلاً، ولهذا لم يتمكن ريموند من مواصلة التعليم الجامعي بعد تخرجه في المدرسة الثانوية في العام 1956. وقد تزوّج وهو في سن الثامنة عشرة من زميلته في المدرسة الثانوية ماريان، التي كانت تصغره بعامين وحاملاً، وكان عليه أن يعمل طوال الوقت. وتنقل بين العديد من المهن، من أجل تأمين لقمة العيش. فقد عمل ساعياً للبريد، وحارسا ليليا، وعاملاً في محطة لتعبئة الوقود، ومضمدا في المستشفى. وقد ازدادت الأوضاع تعقيدا عندما أنجب الشابان طفلين، ومع ذلك فقد واصل الكتابة وقرأ كثيراً، وكان شغوفا بالعمل الادبي، وحريصاً على ان يذهب إلى الورشة الإبداعية التابعة لكلية جيكو لتعلم تقنيات الكتابة. وقد لعب لقائه بالروائي الأميركي جون غاردنر (1933 ـ 1982) الأستاذ في تلك الورشة، دوراً مهما في حياته الأدبية.
غاردنر هو الذي عرّف كارفر على أسماء وأعمال العديد من أساتذة فن القصة. وقال كارفر لاحقاً وهو يتذكر أستاذه: (كان غاردنر يشير في محاضراته دائما إلى الكتاب الذين كنت أجهل اسماءهم: كونراد، بورتر، اسحاق بابل، تشيخوف). كان غاردنر يتمعن باهتمام بالغ فيما يكتبه تلامذته من اعمال ادبية، ويولي كارفر اهتماما خاصاً. لم يكن يفرض رأيه عليه بل يقدم له المشورة اللازمة، ويغرس الثقة في نفسه والأيمان يقدراته الإبداعية.
وفي العام 1961 سافر كارفر مع زوجته ماريان وطفليهما إلى كاليفورنيا، وسكنت العائلة بالقرب من سان فرانسيسكو في مدينة أركاتا، أولا. وبعد ذلك في كوبرتينو، ولكن العلاقة الزوجية أخذت تتوتر بينهما على نحو متزايد: ربما لأنهما تزوجا في وقت مبكر جدا، أو بسبب اختلاف شخصيتيهما، ولكن على الأرجح بسبب الظروف المادية الصعبة ،التي لم تسمح لكارفر بالتركيز على الابداع، وحاول الهروب من الهموم اليومية بالإفراط في شرب الكحول. لم يكن كارفر وحده يعمل لتأمين معيشة الأسرة، بل ماريان أيضاً، التي عملت نادلة مطعم وعاملة لتعليب الفواكه، إضافة إلى عملها كربة بيت. ويبدو انها كانت ذات دخل أكبر من زوجها، وهي التي أدخرت شيئا من المال لشراء أول آلة طابعة له.
بعد حوالي عشر سنوات تمكن كارفر من نشر عدة مجموعات شعرية لاقت نجاحاً ملحوظاً، وتميزت ببساطة لغتها وجمال صورها الفنية على خلفية قصائد الشعراء الآخرين المعقدة، التي ينفر القارئ العادي من لغتها الملتوية ورموزها الغامضة.
ولكن موهبة كارفر الحقيقية تجلت في النثر الفني وفي القصة القصيرة تحديداً. مجموعته القصصية الأولى (ضع نفسك مكاني) (1974) لم تحظ باهتمام يذكر. أما مجموعته الثانية (هلا هدأت من فضلك) (1976) فقد لاقت نجاحاً ملحوظاً وأرغمت النقاد على الحديث عن موهبة قصصية جديدة في الأدب الأميركي. وقد اتسمت المجموعة بدقة التعبير والاختزال اللغوي والعمق السيكولوجي، وقدرة الكاتب على إثارة قلق القارئ بثيماتها المتصلة بالحياة الأميركية المعاصرة: ادمان الكحول، والفقر، والإغتراب الأنساني، وتصوير الناس العاديين ـ وأغلبهم كادحون أو موظفون صغار يعانون من خيبات الحياة ـ في مواقف بائسة.
وتتابع صدور مجموعاته القصصية الجديدة: (عمّا نتحدث حين نتحدث عن الحب) (1981)، و(الكاتدرائية) (1983)، و(من أين أتصل) (1987)، التي رسخت مكانته الأدبية وأدت إلى ذيوع صيته في العالم، واعتبرها النقاد احياءً وتنشيطاً للقصة القصيرة في الآداب المدونة بالإنجليزية، حتى إنهم وصفوه بأنه أهم كاتب للقصة القصيرة منذ أيام هيمنجواي.
تلميذ تشيخوف وهيمنجواي
تشيخوف هو الأستاذ الحقيقي لكارفر، وكلاهما يجسد عبقرية الإيجاز في فن القصة القصيرة، لذا ليس من الغريب ان يقارن النقاد دائما بين الكاتبين. قصص كارفر، تصور الحياة اليومية للناس العاديين، اقتداءً بأثر تشيخوف، وقد استحق من أجلها لقب (تشيخوف الأميركي) عن جدارة. كارفر نفسه أبدى أكثر من مرة انبهاره بمهارة تشيخوف الفنية، وقال إنه يشعر بالقرابة الروحية معه، عند قراءة قصصه أو ما كتب عنه. ويتجلى هذا الإنبهار في قصة (رسالة شفوية) التي نشرت ضمن مجموعته القصصية الأخيرة (1987) حيث وصفه فيها بطريقة لا لبس فيها بأنه أعظم كاتب قصة قصيرة على مدى التأريخ. وهذا اعتراف صريح بمدى تأثره بفن تشيخوف. ومع ذلك نجح كارفر في تجنب الوقوع في فخ التقليد، وقد أثبت من خلال قصصه البديعة أنه كاتب متفرد الموهبة.
نثر كارفر الفني يسحر القارئ منذ البداية ببساطته وخلوه من أي نوع من أنواع التعقيد أو الوصف المفصل الممل، والزخرفة اللغوية: الحوارات القصيرة المتبادلة بين الشخصيات تتالف من من الكلمات والعبارات الأكثر شعبية في اللغة العامية الأميركية. وهي مصدر ممتاز لتعلم هذه اللغة.
قصص كارفر تتحدث عن أمور عادية في الحياة اليومية، مثل الأفراح العائلية أو على العكس من ذلك، عن الخلافات بين الزوجين، أو فقدان الوظيفة، أو الانتقال من مدينة إلى أخرى، أو حوادث الطرق أو بيع الحاجيات المنزلية القديمة، وهي ليست مثيرة لاهتمام القارئ الباحث عن القراءة المسلية. بل يجذب القارئ المتمعن، الذي يقرأ ما بين السطور، ويبحث عن المضمر الخفي في القصة.
كارفر بين الاختزالية والواقعية (القذرة)
وصف العديد من النقاد داخل أميركا وخارجها أسلوب كارفر بأنه اختزالي ينتمي إلى تيار الـ (مينيماليزم)، الذي انتشر في الموسيقى والفنون التشكيلية والأدب منذ نهاية السبعينات. وأهم ما يميز أعمال الاختزاليين هو الوضوح، والإيجاز، والاقتصاد في استخدام الوسائل التعبيرية، والتخلي عن كل أنواع البهرجة اللفظية، والميل إلى أسلوب يشابه أسلوب هيمنجواي البرقي. وهذا الأخير هو أحد الكتاب المفضلين لدى كارفر.
ويرى آخرون، أن التركيز على بعض الجوانب السلبية للحياة اليومية، مثل الإدمان على الكحول والإفلاس والبطالة، يجعل أدب كارفر قريباً من تيار الواقعية الجديدة أو (الواقعية القذرة) وهو تيار ظهر جلياً في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. ولكن من الخطأ الفادح تفسير إبداع فنان كبير مثل كارفر من خلال هذا المصطلح أو ذاك. فأدب كارفر بحاجة إلى تعمق أكثر لاستجلاء خصائصه المتفردة، التي لم تكتشف بما فيه الكفاية لحد الآن.
قصص كارفر، التي يتناول فيها الجزئيات والتفاصيل المتصلة بالعلاقات الأسرية والحياة اليومية، والتي تبدو بسيطة للوهلة الأولى، تسحرنا بعمقها، ـ كما قصص هيمنجواي القصيرة ـ التي تشبه الجبل الجليدي ولا تظهر إلا قمته فقط في العمل الأدبي.
إن المعنى الأعمق لقصص تشيخوف وهيمنجواي وكارفر لا يكون واضحاً على السطح، بل يتألق ضمنياً من خلالها، فهناك تحت البساطة الظاهرية عالم مخفي بمهارة يتخيله كل منا على نحو مختلف عن الآخرين، ومن هنا فإن القارئ يكمل عمل المؤلف.
ويقول كارفر: (في القصص التي أكتبها، أحب ان يكون هناك خطر ما غير ملموس، لكن يمكن ان نستشعره وهو يطوف حولنا ليحدث ما يمكن ان يصيبنا بشر ما. لا بد أن يكون هناك توتر في الهواء).
لنأخذ على سبيل المثال قصة كارفر المعنونة (الحمّام). إنها قصة عن هشاشة الحياة الإنسانية. وخاصة حياة الأطفال، التي يهددها حتى الاصطدام البسيط نسبيا بسيارة متحركة. وهذا ما حدث لطفل في الثامنة من العمر، وسبب له رجة دماغية أفقدته الوعي وأثّر في حياة وسلوك الوالدين اللذين لا يملكان من وسيلة لمجابهة ما حل بهما من مصيبة، إلا الاستحمام بالماء الساخن، لعله يخفف من وقعها عليهما، ويمكن تفسير القصة أيضاً، بأن الحياة تستمر رغم ما يصيب الإنسان من نكبات.
تطرح هذه القصة عن الحادث الذي وقع للصبي وهو في طريقه إلى المدرسة في يوم ولادته، وكيف واجه والداه هذه المصيبة، الكثير من الأسئلة، وكل قارئ يجيب عنها حسب رؤيته، لأن لكل واحد منا خبرته ورد فعله ازاء ما يحدث في الحياة.
كارفر يتمعن في حياة الناس العاديين، فقد خبر مثل هذه الحياة وهو قادر على تصوير الجو الذي تجري فيه القصة، والمزاج السائد فيها، والقلق الذي ينتاب الشخصيات، بسبب ما يسميه بـ (تآكل) العلاقات الإنسانية: انفراط عرى العلاقة العائلية، والاغتراب المتزايد، والكآبة، والوحدة، والعلاقات الشكلية، حتى بين أقرب الناس بعضهم من بعض.
جودت هوشيار، مهندس وباحث وكاتب عراقي معروف، أصدر العديد من الكتب الفكرية والأدبية القيمة، منها (ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ) وبموازاة نشاطه الهندسي، كتب مئات الدراسات الفكرية في الصحف والمجلات الرصينة في العراق والعالم العربي. متفرغ حالياً للدراسات الفكرية. نتاجاته تنشر في الصحف والمجلات العربية والعراقية والكردية ومنها (الإتحاد) و(التآخي) و(كل العراق) و(صوت الآخر) وغيرها.. يتقن اللغات العربية والكردية والتركية والروسية والإنجليزية.