أحمد هشام شاب في مقتبل العمر ضعيف سمع، يرتدي سماعتين للأذن تعيناه على التواصل مع من حوله.. يتميز بشعره الأسود اللامع المنسدل على جبينه.. وحاجبين شديدي الكثافة مع بياض بشرته ونظرات الثقة بالنفس تبدو على عينيه.. كان ممن ارتدوا ثوب التخرج الأسود وقبعة التخرج المتميزة ضمن احتفالية خريجي الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري بالإسكندرية..
أسرعت إليه لأبدأ حواري معه.. دفعني إلى ذلك ثباته وقوة شخصيته وثقته بنفسه وسط الأشخاص السامعين.. بدأت متسائلاً: كيف اخترقت عالم التعليم الجامعي وكيف أوجدت مكانك في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا ذاك الصرح الأكاديمي المتميز؟
بدأ حديثه منتقياً كلماته ومعبراً بصوته الواضح.. لقد بدأت حياتي بضعف سمع وهبني الله إياه في أذنيّ كلتيهما.. لقد كان دعم والديّ كبيراً.. وفرا لي سماعتين للأذن وجلسات اكتساب مهارات النطق والكلام لأبدأ طريقي في حضانة ثم مدرسة ابتدائية وإعدادية لضعاف السمع.. وكان الاهتمام بدراستي وتحصيلي عال..
خلال مرحلة الاعدادية التحقت بجمعية متخصصة في دعم ضعاف السمع والارتقاء بهم في الإسكندرية لأجد بها تدريباً متميزاً في مجال تصميم وبرمجة الروبوت الليجو.
شاركت في مسابقات محلية وعربية ودولية لأجد في هذا المجال قدراتي.. تميزنا وسط فرق السامعين بالحصول على المركز الأول في مصر.. بل وتميزنا أيضاً وسط السامعين في المحافل الدولية في مسابقات الروبوت الليجو..
إن هذه المرحلة هي التي رفعت من درجة الدافعية لديّ لأسير نحو التميز.. لأحلم بتعليم متميز وسط السامعين.. فقد التحقت بمدرسة مصرية ألمانية في مجال الالكترونيات بالمرحلة الثانوية ثم تقدمت بما حصدته من شهادات في مجال الروبوت ومؤهل الثانوية لأجد باب الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا مفتوحاً ولأجد لي مكاناً وبمنحة دراسية كاملة في الأكاديمية بمجال الالكترونيات..
وسألته.. كيف حققت دمجك وسط الطلاب السامعين بدون أن يكون هناك تهيئة كاملة لتحقيق الدمج بين مدرجات وصفوف الأكاديمية ذاتها؟
تبسم بشفتيه ونظرات الاعتزاز بذاته تملأ ملامح وجهه موضحاً: لقد بدأت دمجي بذاتي في المرحلة الثانوية بالمدرسة المصرية الألمانية المشتركة في مجال الالكترونيات وكنت مستعداً بالفعل لأخطو خطوات جديدة نحو الدمج.. فأنا أجيد قراءة حركة الشفاه.. كما أجيد استخدام حاسة البصر للربط بين الكلمات والصور التوضيحية على السبورة.. ولكنني أبذل جهداً مضاعفاً عن أقراني من السامعين.. فأعود إلى المنزل لأضع لذاتي منهجاً ومحتوى دراسياً أعده بنفسي ما بين المحاضرات والمراجع والصور التوضيحية لتستقر المعلومة بذهني ولكي ألحق ما تم دراسته بالأكاديمية يوماً بعد يوم واختباراً بعد اختبار.. وما كان ذلك بيسير.. لقد اجتهدت ولكن أبداً لم أمِلْ أو أكِل.. إن النجاح والوجود وتحقيق الذات أمر يستحق أن نبذل له الجهد بإرادة قوية لأصل إلى التميز الذي أنشده لنفسي.. لقد تغيرت نظرات المجتمع تجاهي من نظرة الشفقة والعطف حيناً لتكون نظرة الانبهار والتقدير بحق..
لقد حققت ذاتك بالفعل وأشعر بالفخر في حديثي ولقائي معك.. ولكن ماذا عن مجتمع الصم وضعاف السمع عامة الذي تنتمي إليه.. ماذا ترى فيهم؟
… (في هذه اللحظة فوجئت بنظرة عينيه جادة حادة وتعبيرات وجهه تعبر عن قيمته الإنسانية واحساسه بالرقي ليرد بقوله): تتحدث معي عن الأشخاص الصم وضعاف السمع وأجد في تعبيرات وجهك تأثراً وكأنك تتحدث عن فئة ليس لها مكانة أو قيمة في مجتمعنا.. وها أنا ذا أحدثك عن مجتمع الأشخاص الصم وضعاف السمع وأنا منهم لأؤكد لك أن تميز الشخص منا هو تميز لمجتمع الصم وضعاف السمع عامة.. فكلما حققت ذاتي وسط هذه الصراعات داخلي في مواجهة المجتمع وبعد إكتساب مهارات وخبرات تصميم وبرمجة الروبوت، قمت بتدريب فرق من الصم وضعاف السمع الأصغر سناً لتشارك في مسابقات الروبوت الليجو وبمسابقات الأولمبياد الدولي للروبوت ومسابقات تحدي الروبوت وغيرها الكثير حتى أصبح لدينا العديد والعديد من الصم وضعاف السمع المشاركين في مثل هذه المسابقات.. لقد غيرت بيدي وبيد إخوتي من الصم وضعاف السمع نظراتكم إلينا.. إننا في هذه المرحلة من حياتنا نؤكد لكم بأننا فخورون بأننا من الأشخاص الصم وضعاف السمع.. بل كثيراً ما نجد نظرات السامعين من فرق الروبوت تجاهنا وكأنهم يقولون في قرارة أنفسهم وخاصة عندما نحقق المراكز الأولى كعهدهم بنا دوماً.. يقولونها في أعينهم وأذهانهم: يا ليتنا كنا صماً!!!
أيها المبدع أحمد هشام.. حقاً استشعرت الفخر بأن يكون لي لقاء صحفي معك.. ودعني أتساءل.. كيف ترى مستقبل الأشخاص الصم وضعاف السمع في مصر؟ وكيف يمكن لهم أن يصلوا إلى ما وصلت إليه من رقي أكاديمي؟
عادت الإبتسامة إلي وجهه تملؤها تعبيرات الثقة بالنفس قائلاً: ليس الطريق ممهداً لنا بالورود وليست النجاحات سهلة إنها رحلة من التحدي والأمل وإثبات الذات نقضيها يوماً بعد يوم ولكنها بالفعل تضفي علينا إرادة وشخصية مبدعة.. فنحن من حققنا دمجنا بأنفسنا في مجتمع لا يمهد حتى الطريق لذلك.. ونحن من أكدنا على أن لنا قدرات اجتزنا بها إعاقاتنا لمجتمع ينظر إلينا بنظرات الشفقة والعطف.. إن لي دوراً في الارتقاء بمجتمع الأشخاص الصم وضعاف السمع وليس دوراً منفرداً.. نحن مجموعة من ضعاف السمع المتميزين أوجدنا طريقنا في المجتمع.. ونمثل قدوة للعديد من ضعاف السمع ونفتح المجال في الأكاديميات المتميزة للصغار من الصم وضعاف السمع ليجدوا طريقهم خلفنا.. ندعمهم من خلال العمل الأهلي والتطوعي.. ولكن نحتاج حقاً لدعم مؤسسات الدولة أين معهد تكنولوجيا المعلومات من توفير مكان لنا بين صفوفه ومعامل الكمبيوتر بداخله لنحصل على منح دراسية متميزة في مجال تكنولوجيا المعلومات أسوة بالسامعين.. أين المؤسسات التدريبية في مجال الالكترونيات والروبوت وغيرها لنجد مكاننا الحقيقي بالمجتمع.. إن ما حققته أنا وزملائي من الصم وضعاف السمع في عالم الروبوت لم يبهر المصريين فقط.. لقد أبهرنا العالم في أمريكا واليابان واستراليا وأندونيسيا والهند وغيرها الكثير. لقد رفعنا نحن أبناء مصر من الأشخاص الصم وضعاف السمع علم مصر عالياً في تلك المحافل الدولية.. ألا نستحق أن تنظر إلينا الدولة نظرة المواطنة.. ألا نستحق مكاننا في هذا المجتمع.
نريد تطبيقاً فعلياً وعاجل لقانون الأشخاص ذوي الإعاقة الصادر مع بداية عام 2018 بل أن هذا العام خصصته القيادة السياسية لنا نحن ذوي الإعاقة.. هل ستعطينا الدولة مكاننا.. أم سنظل نصارع ونبذل الجهد من طرفنا ومن جانب واحد فقط لنجد مكاننا.. ألسنا أبناء لهذا الوطن..
حقاً.. إنهم صامتون.. بل ويعملون في صمت.. وحققوا مكانة راقية لهم في المجتمع وأثبتوا ذاتهم.. وأنا أضم صوتي الإعلامي لصوت أحمد هشام موجهاً حديثي للدولة.. إن أحمد هشام وأقرانه حقاً هم أفضل استثماراً للدولة يمكن أن نحققه في صمت.. فمتى سيجدوا مكانهم في وطننا الغالي مصر..