في وطننا العربي يميل البعض إلى التطرف في كثير من جوانب هذه الحياة؛ فإما أن يكون ذاك الجانب ملاكاً طاهراً أو شيطانا رجيماً، فإن أحببنا شخصية حملناها على الأعناق وإن كرهناها أنزلناها سابع أرض، كل ذلك لكون مشاعر البعض متطرفة وجياشة جدا.
تناولت عدة أعمال درامية وسينمائية صورة المكفوفين من عدة نواح، منها ما ذهبت للناحية الاجتماعية للكفيف، فعلى سبيل المثال يظهر الفنان المصري (أحمد آدم) متقمصاً شخصية الكفيف في فيلمه السينمائي (صباحو كدب)؛ فهو في الفيلم كفيف فقد بصره إثر حادث سير أيام الطفولة، وقد قدم (أحمد آدم) الشخصية في قالب كوميدي ساخر؛ حيث صورها الإنسان الكفيف صاحب الظل الخفيف، ولا تخلو من الطيبة والموهبة؛ فهي شخصية عاشقة للغناء والموسيقا، وقد امتازت بسعة الحيلة في التغلب على المشكلات والعقبات التي تواجهها.
ومن الأعمال البارزة أيضاً في هذا السياق الفيلم المصري (أمير الظلام) للفنان (عادل إمام)؛ إذ رسمت فيه شخصية الكفيف رسماً جديداً فريداً من نوعه؛ فظهرت مليئة بالصفات المميزة كالذكاء وسرعة البديهة والخبرة والشجاعة وقهر الصعاب والتغلب على قسوة الواقع، عايش (عادل إمام) أزمة هذه الشخصية ونقدها من خلال تجسيدها كوميدياً وفكرياً ودرامياً؛ فأظهرها فكاهية أحياناً وجادة أحياناً كثيرة وواثقة جداً بما لديها ومفاجئة لمن حولها بما تملكه من مفاجآت أظهر من خلالها سخطه ونقمته على بعض أفراد المجتمع وتقديره لأفراد آخرين منه.
في هذا المقال نناقش صورة الكفيف التي رسمت في المسلسل الدرامي السوري (باب الحارة). بداية، لا بد من الاعتراف أن مخرج العمل (بسام الملا) قد استوحى شخصية (صطيف) مما رآه وسمعه وقرأه عن الكفيف في الوطن العربي بشكل عام؛ فالمشاهد أو الصورة التي ظهر فيها (صطيف) في بداية هذا العمل كانت إلى حد كبير واقعية؛ حيث إن المجتمع بشقيه المتعلم وغير المتعلم يمتلك صورة نمطية للكفيف بأنه إنسان مبارك؛ فيصل الحد بالبعض للادعاء أنه وليّ من أولياء الله الصالحين؛ إذ استوطنت هذه الفكرة عقول الناس لتدفع بإحدى شخصيات المسلسل لعرض زوجته على هذا الكفيف بحجة علاجها من صداع تشتكيه، فلا يأبه بسترها أمامه كونه كفيفاً ومباركاً، ناهيك عن تصويرها رجلاً ليس فاقد البصر وحسب، بل إنه ساذج وبسيط للغاية، إضافة لكونها شخصية شرهة تجاه الطعام، تتوسل طبقا من أرز أو كسرة خبز من الناس لتظهر مع شراهتها جانب كسلها واتكاليتها على الآخر بسبب استسلامها للواقع الذي تعانيه.
ويقرر المخرج إظهار نقيض الصورة المتداولة عن هذا الكفيف فيلبسه ثوب العميل والجاسوس الذي لم ولن يتوقع أحد من سكان حارته أن يظهر بهذه الصورة؛ فكلما ارتكب جريمة استبعد أوتوماتيكياً من دائرة الشك؛ لأنه في نظر حارته هو ذاك الملاك المبارك حيثما حلّ.
تتتابع أحداث المسلسل حيث يكشف اللثام عن حقيقة ذاك العميل أو الجاسوس الكفيف في نهاية الجزء الثاني بعد ظهوره لما يقارب جزءاً ونصف الجزء؛ ليقتل لارتكابه الخيانة والتخابر مع المحتل الفرنسي.
في الجزء السادس أطل علينا الملا بصورة نمطية هي (الشيخ فهمي) الذي كان له من اسمه نصيب؛ فقد صُوِّرَ معلم تلاوة القرآن الكريم، وعلى الرغم أن الملا قدمه كوميدياً وخاصة عند تعامله مع تلامذته في الكتّاب؛ إلا أنه أظهر النصف الآخر من الكأس؛ فصوّره إنساناً سريع البديهة، حكيماً، فطناً، ذكياً ولا يتورّع عن تقديم النصح إلى من حوله.
لا شك أن الملا أبرز الكثير من الإيجابيات للكفيف (الشيخ فهمي) بعكس ما أبرزه في شخصية (صطيف)؛ حيث أظهر (الشيخ فهمي) أحد الذين ساهموا في كشف حقيقة شخصية (الواوي) العابث باستقرار وأمن حارة الضبع قبل أن يقتله الأخير بعد كشفه له. بينما صوّر (صطيف) عميلا وجاسوسا فظهرت به الصفات السلبية.
بالنظر إلى تقديم (الملا) الشخصيتين فقد بالغ في تجهيل شخصية صطيف في نظر أهل الحارة، إلى الحد الذي أوهمهم ليجزموا باستحالة ضلوعه في أي من مشاكلها على الإطلاق، ناهيك عن مبالغته في إظهاره بمظهر المتسول الشره. ويبدو أن (الملا) استدرك ما فاته في الجزء الأول؛ إذ رغب في إظهار الملاك الذي يدعى (الشيخ فهمي) إلا أنه لم ينجح في السيطرة على مشاعره؛ فأظهره ذلك الرجل الخارج عن المألوف والمتكبر حينما صوره أثناء لعبه بكرات الدحل مع أطفال الحارة واصطياده لها بدقة مدهشة، وقد ابتكر مشاهد أخرى تتعلق بهذه الشخصية كمشهد فحص جبين تلميذه ليعرف صدقه من كذبه، ومشاهد معرفة الأشخاص من خلال روائحهم.
في النهاية نخلص إلى أن الملا كغيره من الناس في الوطن العربي تطرف في تصويره الشخصيتين الآنف ذكرهما ولم يحايدهما؛ لينقل للمشاهد رسالة مفادها (الكفيف كالمبصر قد يكون وطنياً أو خائناً، ذكياً أو غبياً، عالماً أو جاهلاً، مقاتلاً أو جباناً، ًمؤثراً أو سطحياً، عصامياً أو اتكاليا).