(كان عليّ أن أتحدى الأعراف والتقاليد، وأن أحتمل الرفض، وأقهر العقبات)
في عالمي الذي أعيش فيه، لا يعتبر المعاق صاحب الهمة فرداً على قدم المساواة مع بقية أفراد المجتمع.
أنا شابة عراقية بريطانية، مرشحة لنيل درجة الدكتوراه، ومؤسِّسة لمجلة تعنى بأسلوب حياة الإعاقة، وتستهدف العرب من ذوي الإعاقة. ولم يكن تحقيق أي من هذا ممكناً أو حتى واقعياً وقت كنت في مرحلة النمو، وذلك تحديداً لأنني معاقة.
أن تولد معاقاً، فإن هذا يعني أنك تجربة (فاشلة) في نظر المجتمع. أما إن كنتِ امرأة معاقة، فلا يعني هذا سوى أن تكوني عبئاً ثقيلاً على الجميع. والملامة هنا هي الأم؛ فهي في نظرهم فشلت في إتمام واجبها المتمثل في (أن تحمل طفلاً سليماً).
لقد ولدت في مدينة الموصل، حيث عشت طفولة سعيدة في الأعوام العشرة الأولى من حياتي. كنت أعرف أنني مختلفة عن بقية الأطفال الآخرين، لكن ذلك لم يهمني. وعلى الرغم من أن الإعاقة تسببت لي بالكثير من المصاعب والمتاعب وفرضت عليّ مواجهة العديد من مواقف الرفض، إلا أن هذا الأمر لم أكن أدركه بالكامل، إلى أن انتقلت أنا وعائلتي إلى المملكة المتحدة.
ربما كانت سنوات طفولتي أكثر صعوبة بالنسبة لوالديّ مما كانت عليه بالنسبة لي أنا، على الرغم من أنهما كانا يعرفان طبيعة حالتي منذ كنت في الخامسة من عمري. فقد كان من الواضح أنني لن أمشي، ولكن كان هناك شعور عام بين عائلتي وأصدقائي بأنني سوف أشفى وسوف أتمكن من المشي في نهاية المطاف. ولست متأكدة مما إذا كان ذلك في صالحهما أم صالحي.
أعتقد أن والدتي هي أكثر من تأثرت بطبيعة حالتي في البداية، وليس أنا، حيث كانت تهرع بي من طبيب إلى آخر، سواءً في المنزل أو خارجه، حتى أنها وجدت صعوبة في العثور على مدرسة تقبلني، وهو أمر لم تعترف لي به إلا مؤخراً. كانت تشعر بالذنب في كل مرة يتمتم الناس بتلميحات مشفقة تجاهي، ولكنها كانت طوال الوقت تحميني منهم. كما لم يكن بإمكانها الهرب من تلك المواقف، فقد ألحقتني بالمدرسة التي تشتغل فيها معلمة، وبالتالي طاردتنا التعليقات هناك. ودللني والدي بطريقة مبالغ فيها، دفعتني إلى الاقتناع بأني سأحصل على أي شيء أريده طالما كنت عازمة على ذلك.
في ذلك الوقت، لم أستخدم كرسياً متحركاً أبداً، فقد كنت دوماً على دراجتي ذات الثلاثة إطارات، أروح بها إلى حيث أريد. وكنت أتعثر وأسقط مرات عديدة خلال اليوم، لكنني كنت أعاود ركوبها دائماً برغم إدراكي أن ذلك سيضرني. ويبدو أن رأسي تحتفظ بذكرى تلك العثرات والحوادث الصغيرة حتى يومنا هذا.
كانت دراجتي حياتي، وتخيلت أن الجميع كان مقتنعاً بحكاياتي عنها، وكيف أنها سحرية ويمكن أن تطير، ولكن ذلك لا يحدث إلا حينما أقودها. ولكن الحقيقة ظهرت عندما بدأ أطفال مدرستي ينزلونني عنها عنوةً ليركبوها. سقطت أرضاً ولكنني عجزت عن النهوض، وهكذا تبين لكل الأطفال أنني لا أستطيع المشي. ولأنها لم تكن لتسمح لي بالهروب من مشاكلي، وضعتني أمي على الدراجة وجعلتني أواجه الأطفال، بدموعي وخجلي.
تقول ريا..
(لم أستخدم في طفولتي كرسياً متحركاً، فقد كنت دوماً على دراجتي ذات الثلاثة إطارات)
كان أشقائي إلى جواري دوماً، لمساعدتي في تجربة الأشياء التي تمنعني عنها إعاقتي الجسدية. كانوا حريصين على رعايتي، وعلى ألا أشعر بأني أقل منهم أو عاجزة أمامهم.
ومع ذلك، فإنني أشعر حتى الآن بقلق كبير أمام كلمة (معاق) العربية. ولذلك يسعدني دائماً استخدام المصطلح الدقيق باللغة الإنجليزية، ومن هنا بدأت أتساءل عن السبب. وقمت بالاشتغال على المصطلح. وعند إطلاق النسخة العربية من مجلة آفاق الاحتياجات الخاصة، التقيت وأجريت مقابلات وتفاعلت مع المعنيين والخبراء. وفي حديثي معهم، تذكرت طفولتي، وقت أن كان تجاهل إعاقتي والهروب منها الوسيلة التي تعلمت أن أعيش بها، لأن كونك معاقاً، ومصارحتك الناس بحالتك، تعني أنهم سوف يتعاملون معك كشخص بلا قيمة.
في معظم البلدان، لا يعتبر الشخص المعاق على قدم المساواة مع بقية أفراد المجتمع، ويتم تشجيعهم على تحدي إعاقتهم بدلاً من احتضانها والتعايش معها. فليست الإعاقة هي العدو الذي يجب أن نقهره، بل موقف المجتمع والبنية التحتية التي نعيش فيها؛ حيث يجب علينا مقاومتهما، ففيهما يكمن العجز كله.
كان عليّ طوال حياتي أن أتحدى الأعراف والتقاليد، وأن أحتمل الرفض، وأقهر العقبات.