الاستشراف لغة: أشرف الشيء: علا وارتفع، وجاء في لسان العرب تشرف الشيء واستشرافه: وضع يده على حاجبه كالذي يستظل من الشمس حتى يبصره ويستبينه، ويكون تارة من الشرف وهو الموضع العالي يشرف على ما حوله.
الاستشراف اصطلاحاً: هو مجموعة من الأنشطة التي تعمل على تحسين عملية صنع القرار، ويكمن الهدف الأساسي من الاستشراف في أن تغدو في موقف أقوى في المستقبل، وفي حالة من الاستعداد لطائفة من الاحتمالات. ففي مفهومنا، لا يوجد مستقبل واحد، وإنما مجموعة من الاحتمالات التي قد تحدث في المستقبل، ومهمتنا هي الاستعداد لكل تلك الاحتمالات المطروحة.. ولا يسعى الاستشراف فقط إلى تحديد المخاطر، ولكن يعمل أيضاً على إيجاد فرص المستقبل لاقتناصها.
استشراف المستقبل في الشرع: إن استشراف المستقبل يحتمل الخطأ والصواب إلا فيما أخبر عنه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أو ما روي عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن السنة النبوية قد حثت المستشرف للمستقبل على أن يستخير الله لأنه لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى.
وتسليماً بأن المستقبل من الأمور المغيبة عن البشر.. وعلمه عند الله وحده لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان / 34).
فالشريعة الإسلامية هي النور الذي أضاء لنا هذا العلم بتأصيله في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، فقد نبه القرآن الكريم لاستشراف المستقبل من خلال الآيات الداعية لإمعان النظر والإعداد للمستقبل، ومن ذلك قوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر / 18) إذ إن هذه الآية دعوة صريحة إلى استشراف الغد حتى يتزود الإنسان بالتقوى اللازمة، ويتجنب المفاجآت الداهمة، مع توكله وتسليمه لله ـ فالبشر جميعا مأمورون بالاجتهاد والتخطيط للمستقبل، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط لبناء الدولة الإسلامية ويعد العدة لها.
والمنهج النبوي يظهر فيه الاهتمام بالمستقبل من خلال الأحاديث التي تبشر بأن المستقبل في هذا الدين، تلك الأحاديث التي هي الغذاء الروحي للمسلم الذي يقوي العزيمة العمل المخلص الجاد والرؤية الصادقة والروح المتفائلة التي تسعى لزرع الإيجابية أينما حلت، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ، ولا وَبَرٍ، إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر) (رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي).
وليس في هذا الأمر فحسب، بل ظهر اهتمامه – صلى الله عليه وسلم – بالمستقبل في جميع مجالات الحياة كموقفه من الرجل الذي أراد أن يوصي بماله كله حيث أنكر عليه، واستشرف حال ذريته من بعده لو أن الرجل أوصى بماله كله فقال بأبي هو وأمي: (إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ…) (رواه البخاري ومسلم).
أما في مجال معالجة تحديات وقضايا الحياة فقد أرسى سيدنا يوسف عليه السلام لملك مصر موازنة تخطيطية توافرت فيها الأصول العلمية والعملية بهدف مواجهة المخاطر المحتملة من المجاعة المتوقعة وعالج الوضع الاقتصادي لمصر بوضع خطة تحميهم من الفقر الذي سيصيبهم باستشراف مستقبلي مدروس وهي الخطة التي حكاها القرآن بقوله:
(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (يوسف / 46 ـ 49).
النشأة الفعلية لعلم المستقبل فقد تمخضت في بداية القرن العشرين نتيجة استثمار الاستشرافات الفردية والعناية بالتخطيط لهذا العلم، والإفادة من التقدم في منهجية التفكير ودراسة الظواهر المختلفة بالوسائل العلمية المتطورة في ظل الثورة الصناعية.
أما عن مفهوم علم استشراف المستقبل: فهو علم حديث وجهد علمي منظم يدرس الماضي والحاضر ليتوقع المستقبل من خلال سنن الله في خلقه.. كما يعتمد على أحدث المعطيات الاقتصادية والعلوم المتطورة والتقنيات المتقدمة لتصور ما يكون عليه العالم بعد عقد وعقدين..
كما أن الدراسات الاستشرافية لا تهدف إلى التنبؤ بالمستقبل بل إلى التبصير بجملة البدائل المتوقعة التي تساعد على الاختيار الواعي لمستقبل أفضل.. ونؤكد ان الاستشراف ليس تنبؤاً وتكهناً بالمستقبل أو اطلاعاً على الغيب، ولا نقول هنا إننا باستخدام أدوات هذا العلم سنكون قادرين على معرفة المستقبل، وإنما توقع احتمالات قد تحدث بنسب متفاوتة والاستعداد لكل احتمال. وفق منهجية علمية ومحاولة تكوين صورة واضحة عما يمكن أن يحدث وذلك على أساس معلوماتنا عن الظروف الطبيعية والحيوية لعالمنا الذي نعيش فيه. وغاية الدراسات المستقبلية هو توفير إطار زمني طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات اليوم.
وبالطبع من خلال سردنا لمفهوم وتعريف الاستشراف بالمستقبل لغة وشرعاً وعلماً فإننا لا نعني ونقصد بالاستشراف علم الغيب، فهذا علمه عند الله وحده وهو المتصرف في الكون، وإنما نعني حب المعرفة والسعي لاستقراء المستقبل، وهي من الصفات التي جبل عليها البشر، واستشراف المستقبل هو ضد العشوائية والاستسلام لمقتضيات الواقع أو ما سيقع، ومن البديهي القول إن الدراسات المستقبلية تنتج للمجتمعات إضفاء بعد مستقبلي بعيد المدى على منهجية التفكير وطريقة اتخاذ القرارات الرشيدة نحو مستقبل أفضل، وذلك أن ما نتخذه من قرارات في الحاضر سوف يؤثر بصورة أو بأخرى على مستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة.
ومن أجل الحيادية في قراءة المستقبل علينا تجنب الأفكار المسبقة أو الاندفاع لرؤية بعض الأمور التي تناسب أفكارنا وتجاهل أو نبذ الأخرى التي تزعجنا، فإذا أردنا لهذا المستقبل أن يكون أقرب ما يكون فلا بد لنا أن نضع ذلك المستقبل على شاكلة نرضاها لمستقبلنا من خلال اتخاذ القرارات التطويرية الآخذة بعين الاعتبار النتائج والتداعيات المحتملة لهذه القرارات على مدى زمن بعيد نسبياً.
كما أن عملية استشراف المستقبل لا تهدف إلى إصلاح الماضي ولا إلى تقليص أخطاء الحاضر وھو ما يعتقد به الكثيرون وإنما يركز بشكل أساسي على الصورة المثلى للمستقبل بحيث تنفذ على أرضية الواقع من خلال عملية التخطيط، والتخطيط للمستقبل بالتأكيد يتبع الحاضر، فالحاضر أساس مهم لاستشراف المستقبل فهو غير مقدر سلفاً بل نحن نصنعه بإعمالنا.
إذن التخطيط لا يسعى إلى إصلاح الحاضر وإنما يستفاد من أخطائه وكذلك نجاحاته ومن خلالها يتم التركيز على نتائج المستقبل وإمكانية تحقيقها من أجل غد أفضل وھذا يعتمد على عاملين أساسيين هما:
- الأول: التوسع في مجال البحوث الاستشرافية والتي تجسد علاقتها في دراسة واستشراف التطورات المتوقعة ونتائجها المحتملة وتحدد كيف يمكن تحقيقها.
- الثاني: التطور يعتمد على قدرات الإنسان التي يمتلكها من الخبرة، البصيرة، الحدس، الخيال، الرؤيا، الذكاء، التفكير، الفهم وممارسة التدريبات العالية على الأساليب الكمية الإحصائية، المحاكاة، المقارنات، فهذه تمكن القيادات الإدارية من تطوير المعايير التي يمكن من خلالها التوصل إلى أفضل صور المستقبل.
إن الاستشراف وإن كان داخلاً في مجال التخطيط الاستراتيجي إلا أنه يختلف عنه وفق ما يلي:
الاستشراف.. يعنى بالتعرف على احتمالات ما سوف يكون في المستقبل، أي أن نتائجه متعددة الاحتمالات مع محاولة ترجيح إحداها دون أن تكون معنية بالوصول إلى نتيجة معينة..
التخطيط الاستراتيجي.. يعنى بتحديد هدف معين مسبقاً ومحاولة الوصول إليه، وبالتالي فإن الاستشراف يساعد بشكل كبير في توجيه التخطيط الاستراتيجي.
الفرق بين الاستشراف المستقبلي والتخطيط الاستراتيجي
نرى اليوم أن أغلب دول العالم المتحضر تتطلع إلى الأمام والمستقبل البعيد بل والتخطيط لمستقبلها من خلال التحضير له مسبقاً لا انتظار فرضه عليها من خلال العديد من الاحتمالات والظروف والأمر الواقع، كما أن القيادات الواعية والأمينة على مستقبل أبنائها تدرك مسؤوليتها تجاه الجيل القادم مع عدم إهمال دورها في تحقيق وتوفير التزاماتها تجاه شعوب اليوم، ويساعدها على اكتشاف المشاكل قبل استفحال أمرها والاستعداد لمواجهتها أو التقليص من مخاطرها لأدنى حد ممكن فكأنها من الإنذار المبكر للاستعداد المسبق للطوارئ والتدرب على مواجهتها.
فالتخطيط لصناعة المستقبل قد بات مهمة ملحة للجميع بل ضرورة للغاية لبناء الدول وتطورها وتنميتها المستقبلية في مختلف مجالات الحياة وفروعها.
وختاماً… استشراف المستقبل حقيقة راسخة في الجبلة الإنسانية، لازمت الإنسان منذ نشأته الأولى، فقد ذكر القرآن الكريم مدى رغبة آدم عليه السلام في الخلود، رغم التحذير الذي تلقاه بعدم الأكل من الشجرة.
إن استشراف المستقبل ضرورة لبناء الفرد والمجتمع معاً، وتطورهما في شتى القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية، فالمجتمع غير القادر على رسم خطوات المستقبل سيغوص في هموم حاضره، وسينحصر في ثقافة الماضي، ومن ثم يكون للتأخر رهينة، وهذا ما لا ترغبه الكثير من المجتمعات في واقعنا الحالي..
كم نقر بأن الولع بالمستقبل شيء إنساني، والمستقبل هو مجال الحرية ومجال العمل ومجال الفعل.. والماضي شيء ولى، والواقع قائم لا يتغير إلا في المستقبل المتاح، فإذا أردنا أن نغير واقعنا فليس أمامنا إلا هذا الغد لقوله عز وجل: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر / 18).
نعم مرادنا هو الغد الأخروي ولكن هذا الغد الأخروي لا يشتغل عليه ولا يعمل على تحسين العطاء فيه إلا بذلك الغد المتاح في الغد الدنيوي ومن خلال استشراف المستقبل.
- مسؤول التخطيط والمتابعة، والمشرف العام لبرنامج العلاج بالموسيقى ، والمشرف للفريق البحثي في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية ، ورئيس رابطة التوعية البيئية في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية حتى الآن
- حاصلة على بكالوريوس من جامعة بيروت العربية ، وعلى العديد من الدبلومات المهنية والتخصصية العربية الدولية في مجالات التخطيط والجودة والتميز والتقييم والتدريب
- اختصاصي في التخطيط الاستراتيجي والاستشراف في المستقبل – LMG – جنيف ، سويسرا
- مدرب دولي معتمد من الأكاديمية البريطانية للموارد البشرية والمركز العالمي الكندي للتدريب وجامعة مانشستر وبوستن
- خبير الحوكمة والتطوير المؤسسي المتعمد من كلية الإدارة الدولية المتقدمة IMNC بهولندا
- مقيم ومحكم دولي معتمد من المؤسسة الأوربية للجودة EFQM، عضوة مقيمة ومحكم في العديد من الجوائز المحلية والعربية والدولية خبيرة في إعداد تقارير الاستدامة وفق المبادرة العالمية للتقارير – GRI
- مدقق رئيسي في الجودة الإدارية أيزو 9100 IRCA السجل الدولي للمدققين المعتمدين من معهد الجودة المعتمد بلندن – CQI
- أعددت مجموعة من البحوث و الدراسات منها ما حاز على جوائز وقدم في مؤتمرات
- كاتبة و لديها العديد من المقالات المنشورة في الصحف و المجلات وبعض الإصدارات
- قدمت ونفذت العديد من البرامج والمشاريع والمبادرات الهادفة والتطوعية والمستدامة لحينه
- حاصلة على العديد من الجوائز على المستوى المحلي والعربي منها : جائزة الشارقة للعمل التطوعي ، جائزة خليفة التربوية ، الموظف المتميز ، جائزة أفضل مقال في معرض الشارقة الدولي للكتاب
- حاصلة على العديد من شهادات الشكر والتقدير على التميز في الأداء والكفاءة.
- شاركت في تقديم العديد من البرامج التدريبية في مختلف المجالات الإدارية والجودة والتميز
- عضوة في العديد من الهيئات و المنظمات التربوية والتدريبية والجودة والتميز والتطوعية داخل وخارج الدولة