أثناء سنوات الدراسة في المدرسة ربما تكون قد أمضيت ساعات وأنت (تتعلم) شيئاً ما لتدرك فيما بعد أنك كنت تحفظ حقائق عن ظهر قلب وأنك لم تكن تفكر في الواقع فيما يخص المادة التي كنت تدرسها. لكنك حين تعطي لنفسك بعض الوقت وتفكر ملياً بما تتعلمه: هل تتفق في الرأي في العادة مع المعلومات التي تقرأها؟ وهل أن الوقت الذي تمضيه لفهم موضوع ما قد أدى إلى تغيير وجهة نظرك بأي شكل من الأشكال؟
إن التفكير النقدي critical thinking، أو تقييم المعلومات بشكل منتظم قبل قبولها أو رفضها، يمكّن الناس من تجاوز حفظ الحقائق عن ظهر قلب إلى التعلم واسع النطاق. والمعلوم أن أساس الدراسة العلمية يكمن في التفكير النقدي. ورغم أن حقولاً معرفية مثل علم الأحياء تستخدم في الغالب مرادفة لتعبير العلم فإن مصطلح العلم science يدل في الواقع على دراسة أي شيء من خلال التفكير الموضوعي والنقدي من خلال ملاحظات العالم.
ويهدف العلم بقوة إلى طرح إجابات موضوعية قابلة للاختبار للأسئلة الناشئة بشكل طبيعي عن الملاحظة. وعليه فإنه يتماشى مع الأسئلة والأجوبة الذاتية التي يمكن التعاطي معها من جانب كل من الدين والمجتمع. ورغم أن النظريات العلمية تؤدي في الغالب إلى إثارة الجدل في المجتمعات الإنسانية فإن الفرضية العلمية hypothesis توضع لتقديم تفسير قابل للتطبيق والدحض للظواهر الطبيعية التي نلاحظها، لذا فإن دراستك لعلم الأحياء تحتم عليك أن تقوم بدراسة دقيقة لكل فرضية أو نظرية تعتمد على الملاحظات والمعلومات المتوفرة الأخرى قبل التوصل إلى الاستنتاجات.
لقد درجنا على تدريس المنهج العلمي بصفته يمثل تدرجاً طولياً linear من الملاحظة إلى الفرضية ثم إلى التجريب ثم إلى الخاتمة. والعملية العلمية في الواقع تسير وفق إطار عام تشكل فيه الملاحظة دوراً حاسماً. كما أن التركيز على تدرج الفكر النقدي الذي نستخدمه في العلم والحياة اليومية أمر تفوق أهميته اتباع الخطوات في (منهج علمي ما).
ورغم الأهمية القصوى لكل من الملاحظة والاستقصاء فإن العلم يتقدم من خلال الابتكار والإبداع فحسب، فإذا ما عمد كل عالم إلى طرح الأفكار القائمة في الوقت الحاضر حصراً فكيف يتسنى لنا أن نحسّن فهمنا للعالم؟ إن الفرضية أو التفسير المنطقي لمجموعة من الملاحظات تقدم إطاراً للتقصي الدائم لموقف ما.
وتتطلب العمليات العلمية اشتقاق فرضية من خلال التحليل الموضوعي للمعلومات المتوفرة، لكن الانتقال من الحقائق إلى التفسير المنطقي للحقائق غالباً ما يتطلب الإبداع. ولابد أن تكون الفرضية قابلة للدحض ويمكن البرهنة على عدم صحتها من خلال التجريب أو الملاحظة الدائمة. ثم أن طبيعة العملية العلمية تقتضي بان لا تتم البرهنة على صحة الفرضية العلمية مطلقاً لاستحالة معرفة كل جزء من المعلومات ذات الصلة. والمعرفة العلمية تنمو بشكل مضطرد، وأن الملاحظات والتجارب المستقبلية يمكن أن تغيّر فهمنا القائم لأي موضوع. إن التفسير الموضوعي للحقائق القائمة يمكن البرهنة على خطئه في أي وقت من خلال اكتشاف حقائق جديدة تتعارض مع الفرضية.
وتشمل الطريقة الكلاسيكية التدريجية العلمية التفكير الاستقرائي inductive reasoning الذي يهدف إلى تطوير فرضية تنشأ منطقياً إلى حد كبير من المعلومات المتيسرة. وربما يجري تعميم الفرضيات لكنها محددة في العادة لما يمكن ملاحظته وتحليله في إطار زمني معقول، والتفكير الاستنتاجي deductive reasoning يولّد مجموعة محددة من التنبؤات القابلة للاختبار. وأخيراً فإن اختبار تنبؤات محددة ربما يفنّد الفرضية أو يدعمها أو يعدلها بهدف اختبار إضافي.
وتركز بعض المناهج العلمية على عملية اكتشاف معينة باستخدام الملاحظات وتحليل المعلومات الموسع بهدف تطوير أفكار جديدة أو عالمية. والفرضيات التي يتم استنباطها من هذا النمط من النهج العلمي تتسم غالباً بكونها تجديدية تستخدم التفكير الاستقرائي للتوصل إلى استنتاجات تؤدي إلى تغيير الطريقة التي ينظر بموجبها العلماء إلى موضوع ما. ويهدف العلم الذي يعتمد الاكتشاف إلى التركيز على الملاحظات والمعلومات لوحدها متحاشياً التحيز المحتمل الرامي إلى البحث عن المعلومات لمضاهاة فرضية قائمة.
وفي البحث العلمي ربما تضم الفرضيات المعقدة متعددة الأوجه العديد من الفرضيات المدعومة والمحددة أو أنه قد يتم اشتقاقها من تركيب حجم كبير من المعلومات الموجودة. وبسبب الطبيعة المعقدة لمثل هذه العملية فإن هناك حاجة محتملة لسنوات من الاختبارات لجمع معلومات جديدة لدعم فرضية من هذا النوع أو دحضها. ومع توفر القرائن الداعمة والكافية فإن هذه الفرضية متعددة الأوجه تشير بدلالاتها إلى نظرية ما.
الطرق العلمية
رغم وجود (طريقة علمية) واحدة فإن التقصي العلمي يتبع بنية أساسية لتوجيه التفكير النقدي حول ملاحظة ما أو مجموعة من الملاحظات. والعلماء يتبعون سلسلة خطوات تؤدي إلى الفرضيات الموضوعية المسنودة بالمعلومات وذلك اعتماداً على طبيعة الملاحظة أو السؤال، والمناهج العلمية قابلة للتطبيق ليس لعلم الأحياء فحسب إنما تمتد أهميتها إلى كل جانب من جوانب الحياة.
اختبار الفرضية
إن دحض أية فرضية يتطلب التجريب والدراسة التي تعتمد الملاحظة وتحليل المعلومات الموجودة. والتجارب عبارة عن دراسات علمية تقيّم فرضية ما من خلال اختبار تنبؤاتها. وفي أية تجربة يتعامل العلماء مع عامل واحد هو المتغير المستقل independent variable بهدف تبيّن تأثيره على عامل آخر هو المتغير التابع dependent variable. وبالإمكان الوصول إلى استنتاجات حول السبب والتأثير حين يتم التحكم بالمتغيرات الأخرى كافة. ولغرض المقارنة يتم اختبار مجموعة ضابطة control group بالترادف مع المجموعة التجريبية experimental group ويتم الاحتفاظ بالعوامل ذاتها كافة باستثناء المتغير المستقل في كل من المجموعتين الضابطة والتجريبية بهدف تحديد الاختلافات في المتغير التابع إلى التغييرات في المتغير المستقل.
وحين يتعذر تحليل مشكلة ما من خلال التعامل مع المتغيرات ذات الصلة فإنه ربما تستخدم الدراسات المقارنة والتحليل المسهب للمعلومات الموجودة والملاحظة المنتظمة للمواقف أو البيئات الجديدة بهدف تقييم فرضية معينة رغم أنه لا يمكن اختبار الكثير من الفرضيات بشكل مباشر لأنها تتطلب استخداماً واسعاً للدراسة التي تعتمد الملاحظة وكذلك تحليل المعلومات. تجدر الإشارة إلى أن جمع المعلومات المنظمة وتحليلها يدحض الفرضيات أو يقدم الدعم لها لكن بذل الجهود الكبيرة أمر مطلوب لتجنب التحيز أو الاستنتاجات غير المناسبة. وفي بعض الأحيان تتصف العلاقة المتبادلة بالخطأ للسببية في الدراسات غير التجريبية. وحين يقع حدثان معاً في الغالب (العلاقة المتبادلة) فإن التوصل إلى الاستنتاجات حول العلاقة التي تربط بينهما (السببية) ربما يكون أمراً قد حصل قبل أوانه أو أنه غير صحيح.
وربما تصف فرضية ما، في بعض الأحيان، علاقة سببية بين المتغيرات لا يمكن مواصلة تقصيها من خلال جمع المعلومات المتعلقة بالعلاقة المتبادلة وخاصة في الدراسات الإنسانية. وربما يعمد العلماء في بعض الأحيان إلى استخدام نظام نموذجي model system لفسح المجال أمام التحليل التجريبي للفرضية. والنظام النموذجي بمثابة كائن حي يشبه الإنسان في الجانب البيولوجي فيما يتصل في الأقل بالمتغيرات قيد التقصي. وعلى خلاف البشر فإن الأنظمة النموذجية يمكن التعامل معها للتحكم بالمتغيرات الخارجية في تجربة ما، مما يعني إفساح المجال أمام علاقات السبب / النتيجة من أجل اخضاعها للدراسة. وتقدم التجارب في الأنظمة النموذجية دعماً مضافاً للعلاقات السببية بين متغيرين فهناك على سبيل المثال علاقة متبادلة بين التدخين وسرطان الرئة في البشر. في هذا السياق ليس بمقدور العلماء أن يكلفوا مجموعة ضابطة ومجموعة تجريبية من البشر ويطلبوا منها التدخين أو عدم التدخين طيلة سنوات في مختبر مسيطر عليه. والبديل عن ذلك أن الدراسات تجري باستخدام الفئران بصفة نظام نموذجي بهدف تقييم التأثيرات السببية المحتملة للتدخين على سرطان الرئة.
ويتم تحليل المعلومات الجديدة بأسلوب موضوعي لتحاشي التحيز فالفرضية التي تفتقر إلى الدعم تتعرض إما إلى الرفض أو التعديل استجابة للمعلومات بمجملها. والفرضية المسنودة تخضع للاختبار الإضافي لحين توسع الأدلة الساندة إلى حد كبير لدرجة أن العلماء لن يتمكنوا عندئذ من اختبارها. ولن يكون بمقدور العلم أن يثبت فرضية ما رغم أن الكثير من الفرضيات المدعومة إلى حد كبير قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من المادة التي تضمها الكتب المنهجية. ولدى الاطلاع على أي كتاب منهجي حاول أن تميز بين الملاحظات والمعلومات والتفسيرات المسندة بقوة والمشتقة منها. وفكر ملياً ما إذا كنت تتفق مع المنطق وكذلك الدعم لكل تفسير بشكل منفصل. وإذا شعرت بضرورة الحاجة لأدلة أخرى أعمل المزيد من البحوث الإضافية ثم قرر إما القبول أو الرفض بعد أن تكون قد جمعت المعلومات الإضافية.
والفرضية الواسعة جداً التي تؤثر على الكثير من الملاحظات والظواهر العلمية تصبح (نظرية) حيث تتسم الأدلة الداعمة بالقوة بحيث أن مواصلة اختبار المقدمة الرئيسية ينظر إليه باعتباره إضاعة للموارد. وتبدأ الكثير من النظريات المهمة بملاحظة واحدة أو مجموعة محددة من الملاحظات المثيرة بحيث تتطلب مثل تلك الملاحظات مصوّراً شاملاً. ويقدم قانون الجاذبية مثالاً كلاسيكياً حول مثل هذا الأمر ففي العلوم يشير التعبير (قانون = law) إلى ملاحظة تم اختبارها بشكل دقيق (أو مجموعة من الملاحظات ذات الصلة) وهي تتسم بالأهمية العالية بحيث تؤثر على نطاق واسع من الاستقصاءات العلمية.
وتقتصر القوانين العلمية على وصف ظاهرة ما لكنها لا تسعى إلى بيان الكيفية التي يحصل بموجبها التأثير. وفي هذا المثال يدل قانون الجاذبية على المعادلة التي تصف رد فعل الأشياء التي ينجذب بعضها إلى بعض لكنها لا تبين أسباب مثل هذا الانجذاب. ومع تزايد معرفة العاملين في مجال الفيزياء أصبح بمقدورهم اختبار التفسيرات إلى أن يتم دعم الفرضيات التي توضح قانون الجاذبية بالأدلة الكافية حتى تصبح نظرية للجاذبية. ورغم توفر الأدلة الكثيرة التي تدعم نظرية الجاذبية فإن العلم يؤمن تماماً أنه في حال سلوك شيء ما بشكل يغاير فهمنا الحالي للجاذبية فإن العلماء سوف يستبعدون نظرية الجاذبية ويعمدون إلى إيجاد فرضية جديدة قابلة للاختبار بهدف إيضاح المعلومات الجديدة بأكملها.
المصدر:
https://dlc.dcccd.edu/biology1-1/scientific-thinking
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.