جهاد النفس هو الجهاد الأكبر وإذا انتصرت الأمة في ميادين النفس انتصرت في كل الميادين وإذا انتصر الإنسان في ميدان نفسه فألزمها جهاد الحق بكل ميولها كان النصر حليفه في كل ميادين الحياة
علينا أن نستقبل رمضان شهر العود.. شهر التزكية.. شهر الصفاء والترفع عن دنايا الحياة بالنفوس المؤمنة الواثقة بالله.. نستقبله بالتوبة الصادقة من كل مظاهر الزيغ والإنحراف..
ها نحن اليوم ازاء دورة جديدة من دورات الفلك، تتجدد فيه أيام العام.. ويمر بنا شهر عظيم بدورته المعهودة.. شهر اختاره الله لنزول القرآن الكريم، القرآن الذي صنع به محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس.. شهر أنزل الله فيه نظام الحق، ومنهج العدل، وفرقان النور، وحل به عقد الحياة، ورفع عن الإنسانية ضيم الخسف والعبودية، فأنار الله به أرجاء الكون للسابلة نحو الهداية، وفتح العقول والأبصار نحو مراد الله من هذا الكون، ويجدر بنا أن نعرف قدرنا في قول الله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) (البقرة 185)، كما يجب علينا أن نعي التوجيه النبوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وقف خطيباً في مثل أيامنا هذه ليقول: »أيها الناس.. قد أظلكم شهر عظيم مبارك، فيه ليلة خير من ألف شهر.. شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار «(رواه ابن خزيمة في صحيحه) (192/3).
في هذا الوافد الحبيب كان إنقلاب في الكون ليس كمثله في تاريخ البشرية جمعاء دبّره رب العزة وبقيادة محمد عليه الصلاة والسلام فقلب فيه المفاهيم الخاطئة، وحرر فيه عقال المستضعفين في الأرض، ودك معاقل الشرك في الجزيرة وحرر فيه الإنسان من عبودية الإنسان..، ورد البشرية إلى الطبيعة الإنسانية بقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات 13).. وهكذا سادت عدالة الله في الأرض وأكمل الله الدين وأتم النعمة، وختم الله ابواب الوحي فلا نبي بعد محمد ولا دين غير الإسلام (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة 3).
أمام كل الوقائع التي نعيشها، ونحن في شهر التزكية ومجاهدة النفس ماذا علينا وماذا لنا؟
أنا كإنسانة أؤمن بكل كلمة وحرف في كتاب الله وسنة رسوله، أثق أننا لن نفلح في ميدان الحياة أو ننتصر في لقاء عدو، إلا إذا انتصرنا في ميادين أنفسنا، عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحدى غزواته قال كلمته الخالدة: »عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا وما الجهاد الأكبر، قال جهاد النفس..«.
نعم جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، إذا انتصرت الأمة في ميادين النفس انتصرت في كل ميدان. إذا انتصر الإنسان في ميدان نفسه، فألزمها جهاد الحق بكل ميولها ورغباتها، كان النصر حليفه في كل ميادين الحياة.
يا أمة الصيام والقدر.. ها هو قد أطل علينا أعظم الشهور مجدداً، شهر الخير والبركات، فماذا أعددنا له، وبماذا نستقبله يا ترى، وكيف نمضي نهاره وأين نقضي ليله؟ هذه الأسئلة تكرر في كل عام دون أن نصل إلى الإجابة الصريحة المقنعة مع ذواتنا، البعض اعتاد أن يقضي نهار رمضان نوماً ويسهر ليله، لكن دون ثمرة تضاف إلى رصيد فوائده الدنيوية أو حسناته التي ينتظرها يوم القيامة، والبعض يحرص على اغتنام هذا الشهر واستثمار وقته في خير الدنيا والآخرة.
يأتي علينا هذا الضيف الكريم نترقبه بفرح ثم يرتحل، ونحن ما زلنا نحوم حول المفطرات، ونسأل عن المفسدات، ونتساءل عن الإعجاز العلمي في الصيام، وعن فوائد الصيام… هذه الأمور جيدة، ومهم أن يعرف المسلم ما هي الأمور المفسدة لصيامه، فهذا من التفقه في الدين، ولكن حتى متى سنبقى في هذه الدائرة؛ دائرة الماديات والحسيات؟ ومتى سنتعمق أكثر لنصل إلى إدراك الغاية من الصيام، وهي إعداد القلوب للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله؟ متى سنصل إلى مرحلة أن نخرج من رمضان على غير ما دخلناه؟ كيف نحافظ على ما حققناه في شهر الصيام؟ وكيف تستمر معنا روح رمضان ليكون شعار كل منا دائماً وطوال العام: لا يسبقني إلى الله أحد؟
فماذا علينا إزاء شهر الحق والفرقان، شهر الصيام والغفران، وكيف نستقبله؟
فإذا كان هذا الشهر كما أسلفنا شهر تصحيح الأخطاء وتربية النفوس، وتحرير البشر، شهر الجهد والجهاد، والعدل والإخاء.. فماذا علينا ونحن نعاني جاهلية السلوك، وجاهلية في التفكير، وجاهلية في الأخلاق وجاهلية في كل شيء؟
إنني لا أكون ظالمة إذا قلت ذلك، فما الذي تختلف فيه جاهلية اليوم عن جاهلية الأمس قبل الإسلام؟
جاهلية الأمس كان الإنسان فيها يقتل بيد الأقوياء على غير وجه حق، فهل الإنسان اليوم محقون الدم ومذابح البشر في كل مكان والجزارون فيها هم الطواغيت بالأمس.
وإذا كانت جاهلية الأمس قبل الإسلام الأقوياء هم الشرفاء، والأغنياء هم ملكة مخانق الحياة، فما هي الصورة اليوم؟ أليس يمر بنا رمضان بنفس دورته المعهودة.. لم تتجدد فيه إلا الأحداث.. وإذا كان العالم في تطور دائم، وفي تقدم مستمر، فنحن في النقطة نفسها التي تركنا فيها رمضان العام الماضي والذي قبله وقبله وقبله… أليست القوة هي منطق الحياة، فالباطل مع القوي حق، والحق بجانب الضعيف باطل، وليس الأمر خافياً على أحد، وها نحن نعاني مرارة الهزيمة، ولم يتغير من واقعنا شيء، اللهم إلا احتلال جديد، من نفس النقطة والأسلوب، نعيش دوار الأحداث على امتداد الزمن نعاني صلف الأقوياء الذين سلبونا الديار وسامونا الخسف وشردوا بنا من وراءنا، ويطمعون منا بالكثير الكثير.
لا أريد أن ينظر لمقالي هذا بنظرة التشاؤم.. ولكنني أريد تحريك الجرح الميت الذي أنطوى على قيح وصديد، وظاهره الشفاء وباطنه العلة القاتلة.
أريد أن يحس كل واحد منا بالمسؤولية السائبة، والتي يلقي كل واحد منا زمامها على الآخر.. فكلنا ينتقد، وكلنا يتكلم ويكتب ويخطب، ولكن من هو المسؤول؟!
رب قائل يقول: المسؤول هو المسؤول، وهي لعمري إجابة ظالمة تخالف الصواب. وهي كالعادة نفض اليد من التبعة والمسؤولية.
ونحن نحيل الجواب إلى نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول لنا من هو المسؤول؟ يجيب عليه السلام فيقول: »كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته« (رواه البخاري 893، ومسلم 1829)… المسؤولية لاتقع على فرد واحد في الأمة، سواء أكان حاكماً أو محكوماً، وإنما جميع أفراد الأمة كل واحد منهم مسؤول، وهكذا تتسلسل المسؤولية في نظر الإسلام، حتى لا يعفى منها أحد. ولو بأضعف الإيمان وسرد الواقع يطول بنا جداً، ولا أحسب أحداً لا يدرك هذا الواقع إلا من كان في غيبوبة عنه، وذلك رفع عنه القلم.
من هنا.. علينا أن نستقبل رمضان شهر العود شهر التزكية شهر الصفاء والترفع عن دنايا الحياة بالنفوس المؤمنة الواثقة بالله.. نستقبله بالتوبة الصادقة من كل مظاهر الزيغ والإنحراف.. وما أجدرنا أن نستغل كل دقيقة فيه وما أحرانا أن نتبتل إلى الله تبتيلاً في ساعات الليل والسحر وقد قال الحق سبحانه في حق التائبين والمستغفرين الذين يقولون (ربنا إننا آمنا فأغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) (آل عمران ـ 16).
لذا اختص الله تعالى هذه العبادة وحدها لتكون خالصة له وهو المتكفل بالإثابة عليها، وذلك مصداق قوله تعالى في الحديث القدسي على لسان رسوله الكريم ؟: »كل عمل أبن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به« (رواه الإمام البخاري في صحيحه).
إنني أهيب بنفسي أولاً وكل فرد في هذه الأمة أن نحدث توبة وأن نبدل من حالنا وسلوكنا وأن نرفع أكف الضراعة إلى الله نقول: (ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (الأعراف 32).
إن الحقائق التي يجب أن ندركها ان ما حل بنا ويحل إنما هو يأس من الله لا تغيره خطة من خارج النفس ولا قوة خالية من قوة الله… إن الفرج لا يكون إلا بالتغير تغير النفس البشرية لأن الله وضع بين أيدينا حقيقة وهي قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد 11).. وتغير النفس بالتوبة الصادقة النصوح التوبة الصادقة توبة الصائمين والتوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب.
لقد طال علينا الأمد وأخشى أن تقسو منا القلوب فيجب أن نسارع لكسب حب الله فإن الله ينتظر منا الدعاء وهو يجيب المضطر إذا دعاه.
فيا من عصى ربه لا تقنط من رحمة الله فهي قريبة من المحسنين… ويا من فرط في جنب الله إن الله ينتظر منك الدعاء وهو يجيب المضطر إذا دعاه.
بالتوبة نرثي ما رث ونصلح ما فسد.. بالتوبة النصوح يشرق صباح يوم طال انتظاره.. بالتوبة وحدها نستحق مدد الله وننال نصره، وأقرأ وعد الله في القرآن ووعد الله لايخلف: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) (التحريم 8)، (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) (النور 13).
ومن الإعجاز القرآني الذي يؤثر في أعماق النفس في سياق الحديث عن الصيام، قوله تعالى: (وإذا سَألَكَ عباديِ عنّىِ فإِنيِّ قريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ فلْيَسْتَجيبوا لىِ ولْيُؤْمِنوا بيِ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدون) (البقرة 156). فالصائم قريب من الله بضعفه وانكساره، ودعوته مستجابة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر «(صحيح الألباني، صحيح الجامع 3030) فلنسارع إلى الرحمة في شهر الرحمة وإلى التوبة في شهر المغفرة وقد خاب من ظلم نفسه وأصر على الخطيئة (وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما) (طه 111).
إن الخير كل الخير في طاعة الله مانح الخير كله.. والإخلاص كل الإخلاص في قلب سكن جلال الحق فيه.. والقوة كل القوة لمن انتصر على هوى نفسه.. فأمسك لله صائماً.. فرمضان سوق الله يضعه لعباده يتنافسون فيه بالخير فطوبى للرابحين وتعساً للخاسرين ومن تولى فإن الله غني عن العالمين.
إن الملائكة تقول في هذا الشهر: (يا باغي الخير أقبل وابشر ويا باغي الشر أقصر وأبصر).
أسأل الله ألا نكون عبدة رمضان، وأن نكون عبدته سبحانه وتعالى… التواب الرحيم.
اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، واجعلنا ممن قبلت صيامه، وأسعدته بطاعتك فاستعد لما أمامه، وغفرت زللـه وإجرامه، برحمتك يا أرحم الراحمين… اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين.
- مسؤول التخطيط والمتابعة، والمشرف العام لبرنامج العلاج بالموسيقى ، والمشرف للفريق البحثي في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية ، ورئيس رابطة التوعية البيئية في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية حتى الآن
- حاصلة على بكالوريوس من جامعة بيروت العربية ، وعلى العديد من الدبلومات المهنية والتخصصية العربية الدولية في مجالات التخطيط والجودة والتميز والتقييم والتدريب
- اختصاصي في التخطيط الاستراتيجي والاستشراف في المستقبل – LMG – جنيف ، سويسرا
- مدرب دولي معتمد من الأكاديمية البريطانية للموارد البشرية والمركز العالمي الكندي للتدريب وجامعة مانشستر وبوستن
- خبير الحوكمة والتطوير المؤسسي المتعمد من كلية الإدارة الدولية المتقدمة IMNC بهولندا
- مقيم ومحكم دولي معتمد من المؤسسة الأوربية للجودة EFQM، عضوة مقيمة ومحكم في العديد من الجوائز المحلية والعربية والدولية خبيرة في إعداد تقارير الاستدامة وفق المبادرة العالمية للتقارير – GRI
- مدقق رئيسي في الجودة الإدارية أيزو 9100 IRCA السجل الدولي للمدققين المعتمدين من معهد الجودة المعتمد بلندن – CQI
- أعددت مجموعة من البحوث و الدراسات منها ما حاز على جوائز وقدم في مؤتمرات
- كاتبة و لديها العديد من المقالات المنشورة في الصحف و المجلات وبعض الإصدارات
- قدمت ونفذت العديد من البرامج والمشاريع والمبادرات الهادفة والتطوعية والمستدامة لحينه
- حاصلة على العديد من الجوائز على المستوى المحلي والعربي منها : جائزة الشارقة للعمل التطوعي ، جائزة خليفة التربوية ، الموظف المتميز ، جائزة أفضل مقال في معرض الشارقة الدولي للكتاب
- حاصلة على العديد من شهادات الشكر والتقدير على التميز في الأداء والكفاءة.
- شاركت في تقديم العديد من البرامج التدريبية في مختلف المجالات الإدارية والجودة والتميز
- عضوة في العديد من الهيئات و المنظمات التربوية والتدريبية والجودة والتميز والتطوعية داخل وخارج الدولة