الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وعلى آله وصحبه، فلولا فضل الله تعالى ما أنجزنا ما أنجزناه ولولا التحلي بالصبر والرضا بقضاء الله ما تحملنا، ولولا الأمل لخاب العمل.
ليس من السهل أن يكتب المرء عن تجربة عاشها سنين طويلة بحلوها ومرها ويتحدث في دقائق معدودة، وأجد أنه يجدر بي وأنا أتحدث عن تجربتي مع ابني أشرف أنا وأسرتي ومعايشتنا لحالته أن أدعو من قدر لهن أن ينجبن أطفالاً مصابين أو أصيبوا فيما بعد بإعاقة ما ـ ألا يصبن باليأس والإحباط، وأن يسعين بالصبر والرضا والعمل الجاد لتحسين أوضاع أطفالهن والتأكيد على حق الطفل المعاق بأن يحصل على حقه الكامل في الرعاية الأسرية وعلى فرصته في التعلم والعيش بكرامة في أسرته ومجتمعه.
إن تقبل الأسرة للطفل المعاق يساعد كثيراً في خلق جو يساعد على تقديم المساعدة الممكنة لهذا الطفل ويزيد من فرص تقدمه، ويشعره بأهميته كإنسان يستحق كل المحبة والاحترام. ويجب على ذوي ذلك الطفل التكيف والتعايش مع وضعه وتدريبه وتهيئته لمواجهة المجتمع بثقة وشجاعة. كما يجب إعطاء الطفل المعاق كل المجال لإثبات ذاته وإظهار مواهبه والتعبير عن قدراته المتاحة وتشجيعه على القيام بأمور حياته داخل الأسرة وخارجها واعتماده على نفسه قدر الإمكان بالتعلم واستخدام الأمور المساندة والمتوفرة.
كان أشرف هو الطفل البكر لي والفرحة الأولى للأسرة، وبعد ملاحظات بأنه لا يبدو كباقي أقرانه، قمت ووالده بعرضه على أطباء الأطفال الذين شخص بعضهم حالة أشرف بالإعاقة العقلية. ولم أكن لأقتنع أبداً بذلك التشخيص لما لمسته في أشرف من ذكاء حيث قمت بعرضه على أطباء آخرين شخصوا حالته بالشلل الدماغي. وقد انتابني حينها ألم شديد فلم أكن قد سمعت قبل ذلك اليوم بشيء اسمه الشلل الدماغي، إلا أن الطبيب وضح لي الأمر وأننا أمامنا أمرين اثنين؛ إما أن نتقبل الأمر بشجاعة ونعمل بصبر، أو أن نصاب باليأس والإحباط ونستكين ونترك الطفل على حاله.
لقد أجمعت ووالده أمرنا على الخيار الأول والأصعب، ولذا فقد بدأ العمل مع أشرف أولاً بالتعاون مع مركز تأهيل وعلاج طبيعي لم يتقبله أشرف كثيراً، ولذا كنت أتعلم كيفية تدريبه وأطبق التعليمات التي أتلقاها في البيت، وقد اضطررت حينها إلى ترك وظيفتي كمدرسة للعلوم في المرحلة الثانوية.
كانت مسألة مسك القلم بالنسبة لأشرف ولي مهمة شاقة، ولكن بتكرار المحاولة واستمرار التدريب والتشجيع مرات ومرات ولأيام وأسابيع استطاع أشرف أخيراً أن يكتب أولى الحروف والأرقام. كانت الدنيا لا تسعنا من الفرح فتلك كانت الخطوة الأولى للنجاح.
لقد صادف أشرف العديد من المشاكل في المدرسة وكانت المديرة قد ترددت في البداية بقبول أشرف في مدرستها، إلا أننا عندما شرحنا لها حالة أشرف وأنه طفل ذكي وودود ويتقدم باستمرار وقادر على التعلم، وافقت بتخوف بعد إجراء اختبار ذكاء له وأخذ تعهد خطي من والده بعدم تحميل المدرسة أي مسؤولية في حال وقوع أي أذى لأشرف خلال تواجده في المدرسة.
تعرض أشرف إلى مشاكل كثيرة في المدرسة منها ضعف قدرته على مجاراة الطلبة بالكتابة داخل الصف وعدم وضوح النطق أحياناً وكثرة وقوعه على الأرض أثناء اللعب. كنت أتألم لما يعانيه طفلي في المدرسة ولكن لم تكن تلك المعاناة لتثنيني عن العمل لمساعدته وزرع الثقة في نفسه والاعتداد بها فكلما كان يرجع من المدرسة يشتكي من تساؤلات زملائه الطلبة عن وضعه وعن مرضه، كنت أشجعه على أن يواجه الطلبة ويجيب عن أسئلتهم عن وضعه، وكنت أزرع الثقة في نفسه كلما لمست ووالده لديه تقدماً ولو ضئيلاً.
كانت لحظات سعيدة تلك التي عاد فيها أشرف من المدرسة في أول يوم له بها وكان والده ينتظره على باب المنزل حيث أوصله (باص) المدرسة، وكان فرحاً بحمل حقيبته الصغيرة بجهد وقد جلب لأختيه لمى وريم هدية عبارة عن كيس صغير من الحلويات والبسكويت الذي اشتراه من المدرسة واقتسم معهم قطعة من الشوكولاته كانت قد أعطته إياها معلمة المدرسة.
تحسن الوضع أكثر عندما أصبح له أخوات أربع يحبونه ويتفاعلن معه، أخته لمى التي تصغره بأربع سنوات كانت تحمل حقيبته أولاً من باص المدرسة إلى البيت وترجع لتحمل حقيبتها، وكانت تساعده في نسخ دفاتر زملائه الذين لم يستطع مجاراتهم في الكتابة أثناء الفصول المدرسية.
كانت امتحانات الثانوية العامة مشكلة كبيرة لأشرف وخاصة حاجته لكاتب يكتب له في الامتحانات المقررة حيث تم حل هذه المشكلة بعد محاولات عديدة منا وتردد على مسؤولي وزارة التربية والتعليم لتأمين أستاذ متخصص للمواد العلمية حتى تمكن أشرف من اجتياز امتحانات الثانوية بنجاح والحمد لله. كانت فرحتنا عظيمة بهذا النجاح وقد نسيت ساعتها السهر والتعب حيث كنت أسهر أنا وأخته لمى لساعات متأخرة لننقل له من دفاتر أستاذه كي يتمكن من متابعة دروسه.
أنهى طهبوب دراسته الثانوية بمعدل 77% أهّله لأن يدخل الجامعة الأردنية ويدرس في كلية العلوم تخصص علوم حاسوب (دراسة تناسب قدراتي الجسمية والعقلية = يقول أشرف)، فإعاقته العقلية تجعل النطق عنده صعب الفهم مع بطء في الكتابة، فوجد ضالته في العمل مع جهاز الحاسوب.
لقد كان سروري عظيماً عندما عدت إلى الجامعة مع ابني أشرف لأسجله في كليه العلوم حيث امتزجت دموعي بابتسامتي وأنا أتجول فيها بعد فراق طويل. كان التحاق أشرف بالجامعة الأردنية مع عدد من الطلبة ذوي الإعاقة نتيجة للاهتمام الكبير الذي يبديه الأمير رعد بن زيد تجاه تلك الفئة حيث أن أشرف هو أول أردني مصاب بالشلل الدماغي يجتاز المرحلة الثانوية بنجاح.
لم تكن دراسة أشرف بالجامعة سهلة فقد لاقى صعوبات كثيرة وإحباطات أكثر، وكان هناك بالمقابل من يساعده ويشد على يده وهذا ما يجب أن يكون عليه الحال في كافة مناحي الحياة.
كان أشرف يقدم الامتحانات بالجامعة بمساعدة أشخاص متعاونين معه ولهم كل الشكر والتقدير، ولم يكن من السهل على أشرف أن يستجمع أفكاره ومعلوماته ويمليها على الكاتب ثم مراجعة الإجابات وتصويبها ضمن الوقت المحدد للامتحان، مما يجعل فرصته غير متكافئة مع فرص الطلبة الآخرين. كنا نهون عليه كل ذلك ونشجعه بأن الوصول للهدف بات قريباً.
بعد التخرج، قام بالبحث طويلاً عن عمل يضمن له العيش باستقلالية، حتى تم له ذلك حيث عمل في شركة خاصة للبرمجيات لينتقل بعد فترة ليعمل في مركز الحسين للسرطان كمبرمج ومحلل نظم.
يتمتع أشرف الحمد لله بحياة اجتماعية ناجحة ويحظى باحترام الجميع من أهل وأقارب وزملاء عمل ويمارس أنواعاً من الرياضة (السباحة) وتعلم الكاراتيه وهو صغير، وهو يكد ويعمل بإخلاص في موقع عمله ويعمل دائماً على تطوير علمه ونفسه ويتابع كل جديد بعلم الحاسوب، يقرأ كثيراً ويحفظ جيداً ويطمح لاستكمال دراساته العليا إن توفر له الدعم المادي المناسب لذلك، وهو يقوم حالياً بمراسلة جامعات عديدة في بريطانيا.
لقد حصل أشرف على رخصة قيادة سيارة عادية ويتفاعل مع زملائه في العمل وأصحابه من أيام الدراسة، يساعد أسرته بما يستطيع (أمه وأبيه وأخواته الأربع وأخيه الصغير محمود الذي يحظى بكل الدلال والهدايا والحلوى).
قام أشرف وهو طالب وبعد تخرجه بتمثيل الأردن بعدد من الندوات والمؤتمرات التي عقدت في لبنان (1996) والأردن (1999) واليونان (2002) والأردن (2005) ويتطلع لأن يكوّن أسرة سعيدة.
هذا هو أشرف الذي يتطلع لإنجاز أمور عديدة ومفيدة إن شاء الله أن تتاح له الفرص وأن يقدم له ولأمثاله الدعم اللازم. كانت أحلى هدية قدمها لي أشرف عندما أخذني لأداء العمرة وزيارة البيت الحرام بعد أن وفر تكاليف الرحلة من رواتب عمله.
هذه تجربتي مع ولدي مهما قدمت لأشرف ولأسرتي أشعر أنني يجب عليَّ أن أقدم أكثر ما دام بإمكاني ذلك، وأسال الله التوفيق فلولا توفيقه ورضاه ما وصلنا لهذا فهناك من كافح مثلي وأكثر بكثير، وبتوفيق الله تعالى والصبر والعمل لا بد للمرء أن يصل.
رحم الله الشافعي حين قال:أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
فعلاً ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.