يكثر الحديث عن قضايا ومعضلات تعليم الطلاب والطالبات الصم وضعاف السمع في مجتمعنا العربي. فتجد الكثير من التربويين والباحثين وأولياء الأمور والأسر يتساءلون عن الطرق الصحيحة بل الأكثر صحة لتعليم الطلاب الصم وخاصة في مهارتي القراءة والكتابة. بل تجد العديد من الطرق والمشاريع المُبتكرة التي تتجدد كل يوم مع التقدم العلمي والتقني السريع. فالمتابع عن كثب لميدان التربية الخاصة بشكل عام وتربية وتعليم الصم بشكل خاص يجد هناك العديد من التربويين يطرحون قضايا تعليم الصم من منظور أحادي بل تجد من ينادي بفلسفة معينة لتطبق على الجميع وذلك إيماناً منه بنجاحها. فالكثير من الفلسفات والنظرية لم تبن على أساس بحث علمي مجرد إنما بُنيت على تجارب شخصية بنطاق ضيق وبالتالي يصعب تعميمها على المجتمع الكبير. فهل مجتمع الصم مجتمع واحد يتناسب معه تطبيق فلسفة معينة؟
تعتبر تنمية مهارات القراءة والكتابة للطلاب الصم أحد أبرز وأهم الصعوبات التي تواجه تعليم الصم في جميع الدول وذلك لعدة اعتبارات منها عدم إعتماد لغة الإشارة كلغة رسمية لمجتمع الصم وكذلك عدم المعرفة التامة بفلسفة ثنائي الثقافة ثنائي اللغة وإن كثر التنظير عنها في المؤتمرات والملتقيات التي تسلط الضوء على هذا التحدي الكبير. وقد يكون الجدال الأزلي بين الطريقة الشفهية والتركيز على السمع والنطق وبين الطريقة الإشارية والتركيز على النظر والحركة أحد أسباب تأخر دول المنطقة في تعليم الصم.
مثلما كان قديماً في الولايات المتحدة الامريكية فإن معظم الدول العربية تحتاج إلى العديد من الأبحاث والدراسات العلمية المُحكمة من منظور الأشخاص الصم ومن داخل مجتمعهم لتقدم نظرة علمية من منظور أن مجتمع الصم مجتمع أقلية لغوية بثقافة خاصة (Minority Linguistic Group) وكذلك من منظور مجتمع مختلف لا من منظور مجتمع عاجز Wolsey et al., 2017)).
ومجتمع الصم هو مجتمع متنوع متعدد الأفراد. والعديد من الأشخاص غير المتخصصين ما زال هذا المفهوم يشكل معضلة بالنسبة إليه تحتاج إلى ايضاح. ففي مجتمع الصم يوجد من يفضل التواصل بلغة الإشارة ومن يفضل اللغة المنطوقة. كما يوجد من أكتسب اللغة المنطوقة قبل أن يكون أحد أفراد المجتمع ومن لم يكتسبها. يوجد من هم من زارعي القوقعة (Cochlear Implants) ويوجد من يعتمد على المعين السمعي فقط ((Hearing Aids. كما يوجد من نشأ وكبر في عائلة من الصم (Deaf of the Deaf)ومن نشأ وكبر في عائلة من السامعين. كما يوجد من يتقن القراءة والكتابة باللغة العربية أو الانجليزية أو كليهما ومن يتقن لغة الإشارة فقط. كما يوجد الصم المكفوفون والصم والصم مع احتياجات آخرى. هذا التنوع الواضح بين أفراد مجتمع الصم يشير إلى ما يسمى بتنوع الهوية الثقافية (Cultural Identities) وكذلك يشير إلى تعدد مستويات الوعي الثقافية بالهوية المجتمعية التي يمر بها الشخص الأصم للوصول إلى مرحلة الهوية الثقافية المناسبة في المجتمع وإدراك المجتمع ودوره كعضو فيه.
بوضوح ليست هناك هوية ثقافية واحدة لجميع الأشخاص الصم بل توجد سبعة أنواع يندرج جميع أفراد مجتمع الصم تحتها (Holcomb, 2013):
1 ـ الهوية المتوازنة ثقافياً:
في هذه الهوية يكون الشخص ثنائي الثقافة بشكل متوازن ويندمج في مجتمعين بشكل متوازن؛ مجتمع الصم ومجتمع السامعين الكبير. الأفراد الذين يتمتعون بهذه الهوية تكون لديهم صداقات قوية مع أفراد المجتمعين بدون تفضيل. قد يكون هؤلاء الأشخاص ذوو الهوية المتوازنة يفضلون التواصل باللغة المنطوقة ويفضلون ارتداء المعين السمعي بشكل كبير. ولكن القدرة على النطق ليست عاملاً حاسماً في هذه الهوية بل يوجد أفراد من الصم ممن لا يعتمدون على النطق ويتمتعون بهوية متوازنة بين المجتمعين ولديهم مشاركات وتجارب ناجحة في المجتمعين كليهما.
2 ـ الهوية الثنائية ثقافياً مع تفضيل ثقافة الصم:
يتمتع أصحاب هذه الهوية بمشاركة مجتمع السامعين ومجتمع الصم في الأنشطة والفعاليات ولكن عند التفضيل يفضلون الانخراط في أنشطة مجتمع الصم أو ممن يجيد لغة الإشارة. يمتاز هؤلاء الأشخاص بصرف جهد ووقت للتواصل بشكل فعال مع الأفراد السامعين. كتعليم زميل عمل أو قريب لغة الإشارة أو إحضار مترجم لغة إشارة لتسهيل عملية التواصل. كما يشاركون الأفراد السامعين اجتماعاتهم وملتقياتهم ويبقون على تواصل معهم عن طريق الرسائل ووسائل التواصل الاجتماعي. ولكن في حال أعطوا الفرصة للاختيار بين المشاركة والتفاعل في الاجتماعات والفعاليات يفضلون المشاركة في فعاليات مجتمع الصم بشكل أكبر.
3 ـ الهوية الثنائية ثقافياً مع تفضيل ثقافة السامعين:
يتمتع أصحاب هذه الهوية بمشاركة مجتمع السامعين ومجتمع الصم بالانشطة والفعاليات ولكن لسبب أو آخر يكون تواصلهم مع الأشخاص الصم محدود جداً. قد يكون هؤلاء الأشخاص يعيشون في منطقة بعيدة عن أقرب مجتمع للصم. قد يكون هؤلاء الأشخاص يفضلون العيش بعيداً عن المدينة مما يجعل فرص الانخراط والتواصل مع الأشخاص الصم محدودة ومتباعدة. وهذا لا يعني عدم رغبتهم في المشاركة بل صعوبة وندرة الالتقاء. كما قد يكون التفضيل مبنياً على هواية أو رياضة لا تتوفر في مجتمع الصم مما يجعل التواصل والمشاركة في مجتمع السامعين أكبر كحب رياضة كرة السلة أو ألعاب الفيديو مما يعتبر الاهتمام بها لا يوازي الاهتمام بها في المجتمع الكبير.
4 ـ هوية الصم الثقافية:
يتمتع هؤلاء الأشخاص برغبة كبيرة في تقليل التواصل مع الأشخاص السامعين بعد سنوات من الفشل في الاندماج المجتمعي وذلك لعامل التواصل. هؤلاء الأشخاص ينخرطون في مجتمع الصم بشكل أكبر مع عدم الرغبة في التواصل مع مجتمع السامعين وذلك من خلال مشاركة الصم فعالياتهم وأنشطتهم فقط. فتجد العديد منهم يقضي يومه في نادٍ أو جمعية للصم ويفضل الخروج مع الأشخاص الصم في الأماكن العامة وكذلك السفر وقضاء الأوقات. كما يفضل هؤلاء الأشخاص العمل مع الأشخاص الصم فإن لم يجد يجعل مشاركة زملائه السامعين في العمل محدودة. كما تكون مشاركة اللقاءات العائلية والزيارات محدودة جداً. في المقابل الزيارات والمشاركات للأشخاص الصم تتم بشكل يومي.
5 ـ الهوية المهمشة ثقافياً:
يجد هؤلاء الأشخاص أنفسهم خارج مجتمع الصم وكذلك مجتمع السامعين. فيغلب على أصحاب الهوية المهمشة عدم قدرتهم على نطق بعض الكلمات والحروف وكذلك عدم إتقانهم للغة الإشارة بشكل مُرضٍ. فتجد الأفراد السامعين وكذلك الصم يجعلون التواصل معهم في أضيق الظروف وذلك لصعوبة التواصل. كذلك تكون المهارات الاجتماعية لدى هؤلاء الأشخاص محدودة مما يجعلهم في وضع التهميش المجتمعي.
6 ـ الهوية المنعزلة ثقافياً:
يختار هؤلاء الأشخاص عدم الانخراط في مجتمع الصم وعدم الاعتراف بلغة الإشارة وثقافة مجتمع الصم. هؤلاء الأشخاص يمرون بتجربة فاشلة في حياتهم من خلال فشلهم في اكتساب اللغة المنطوقة مما يجعلهم منعزلين عن مجتمع السامعين لكثرة الاحباطات. كما ينعزلون عن مجتمع الصم لعدم معرفتهم بلغة الإشارة وثقافة مجتمع الصم وعدم الإيمان بها. كما يعتقد آباء هؤلاء الأشخاص بأهمية المشاركة والانخراط مع مجتمع السامعين وذلك لاكتساب اللغة المنطوقة وعدم مشاركة مجتمع الصم وذلك لعدم توفر اللغة المنطوقة في مجتمع الصم (Leigh, 2009).
7 ـ الهوية المأسورة ثقافياً:
يتخيل أصحاب هذه الهوية أنه لا يوجد مجتمع للصم أصلاً كما لا يوجد ما يسمى بلغة الإشارة إنما مجرد إيماءات وإشارات وصفية مخترعة بلا قواعد ونظم. كما لا يبحث هؤلاء الأشخاص عن منظمات وجمعيات الصم بل يكون هذا الإيمان من منطلق إسري أو من خلال بعض النظم التعليمية البدائية التي تنظر إلى الأشخاص الصم على أنهم أشخاص عاجزون. كما لم يحصلوا على فرصة الالتقاء بأشخاص آخرين من الصم وإكتشاف لغة أكثر وصولاً لهم. ومن المصادفات العجيبة أن التقيت بشخص أصم يبلغ من العمر ثلاثين عاماً لا يجيد لغة الاشارة ولا القراءة والكتابة بل لم ينخرط في التعليم الحكومي وذلك لعدم معرفة عائلته بوجود معهد أو مدرسة للصم منذ زمن بعيد. فيعتبر هذا النموذج صورة واقعية للهوية المأسورة ثقافياُ.
يوضح لنا هذا التنوع في الهوية الثقافية مدى تنوع وتشكل مجتمع الصم. وقد يمرعليك أخي القارى بعض أصحاب هذه الثقافة المتنوعة لعل تصورها وفهمها يوضح صعوبة اتخاذ قرار واحد في كيفية إكسابهم مهارتي القراءة والكتابة. بل يجعل فلسفات ونظريات التعليم متاحة للجميع كلاً حسب قدراته ومهاراته. لقد مر مجتمع الصم الدولي في الدول المتقدمة على مدى عقود من الزمن بالعديد من الفلسفات والتوجهات بدءاً من فلسفة الطريقة اليدوية ثم فلسفة الطريقة الشفهية ومروراً بفلسفة التواصل الكلي ثم فلسفة ثنائي اللغة. مما يجعلنا نتأمل في أين نقف اليوم في تعليم وتربية الصم في بلادنا العربية؟