إن التواصل البشريّ معقَّد جداً، إلا أن اللغة التي تعتبر أساسيّة في التواصل عادة ما تتسبب في سوء الفهم. من ناحيةٍ أخرى، فإن الرسائل المرسلة دون كلمة هي صورة واضحة وصادقة من التواصل ولا تحدث ارتباكاً، فهي تلقائية وعلامة الطفل فيها واضحة، وهي الوسيلة الأهم في تواصل الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد (رسائل دون كلمات).
والحصان ليس بالمخلوق الاقتحاميّ، حيث أنه لا يتحدَّث إليكَ ولا يحكم عليك ولا يطالبك بشيء. وبسبب هذا أو بالرغم من هذا، يساعد الحصان في تأسيس ارتباطات لم يسبق تكوينها أبداً لدى الأطفال من ذوي اضطراب طيف التوحد، كما أنه يسمح بتقدّم (عمليّة إعادة البناء).
إن الحصان هو كقوة من قوى الطبيعة فهو صريح وأمين ومتماسك، بينما الإنسان معقَّد ومتورط في المعايير التي يحاول أن يتواكب معها، ودائماً يخاف من فقدان السيطرة ودائماً يحاول أن يفهم، ويسعى للطمأنينة، وأبعد ما يكون عن أن يتفهم مشاكل التوحد.
يعزل الطفل من ذوي اضطراب طيف التوحد نفسه عن كل المُسْتَقْبَلات الحسيّة، إلا أن الخيل تمثّل وسيطاً يمكن للطفل من خلاله اكتشاف أو إعادة اكتشاف الهدهدة، والاتصال البدنيّ، والإيقاع، والروائح، ثم بعد ذلك بوقت قصير المناظر والأصوات.
حينما يولد الطفل فإنه لا يعرف شيئاً عن العالم المحيط به، إلا أنه لاحقاً يبدأ في التقاط الإشارات التي تبني فهمه؛ بينما يحتاج الطفل من ذوي اضطراب طيف التوحد إلى مساعدة دائمة ومستمرة من أجل فعل ذلك.
الحركات النمطية المتكررة والايذاء الذاتي يتوقفان لدى الطفل لمجرد ركوبه الحصان
حتى فترة قبل التعامل مع الخيول، لجأ الكثير من الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد إلى الأنماط السلوكيّة المتكررة، والتي قد تتضمن أحياناً الايذاء الذاتي الذي يحلّ محل الانفعالات، حتى لتكأد تستبدل الانفعالات والمشاعر الطبيعية، ويسدّ الحصان هذه الفجوة. حينها يحدث للطفل اتصال بشيء ما لا يشكل تهديداً، شيء يتحرك بطريقة تذكِر الطفل بوقت كانت أمه تحمله بذراعيها أو داخلها. وعلى ظهر الحصان تتوقف الأنماط السلوكيّة المتكررة ويتوقف الإيذاء الذاتيّ، ويتشبث الطفل بالسرج دون الإحساس بأنه حبيس.
ركوب الخيل يحسن تلقائياً من وضعية الجسم
إن للحركة الاهتزازية للحصان وهو يحمل الطفل أيضاً أثر واضح ومفيد على وضعيّة جسم الطفل، والتي تتحسن أوتوماتيكياً، ويصبح بإمكاننا العمل على تصحيح وضعيّة محور الجسم. من تلك النقطة، وبمساعدة الكثير من الأدوات المختلفة، يبدأ الطفل بفهم ما يراه من حوله، ثم يضيف إلى ذلك الوعي بالأشكال والملامس والأصوات.
تساعد حركة الحصان وحمله للطفل على أن يضبط الطفل عموده الفقريّ في المحور الصحيح، وتساعده على موازنة جانبيه الأيمن والأيسر، كما لا يعود رأسه ثابتاً إلا أنه يسترخي بحيث تتمكن عيناه من استكشاف العالم على جانبيه. تسهِّل الوضعية الجيدة هذه العمليّة، وخلال وقت قصير يبدأ بالاستدارة وتمديد مجال بصره إلى أفقٍ أكثر بعداً.
ومن المدهش أن ترى العمود الفقريّ للأطفال يصبح أكثر استقامة خلال فترة قصيرة، إن هذا يتيح أداء كل الحركات التي لم تكن ممكنة قبل أن يستقيم العمود الفقري، كما أنه يمكنهم من النظر إلى الأشياء أو الأشخاص بلا مشاكل. ومهم جداً فهم أهمية الوضعية الصحيحة فإذا كان الفرد محدودباً إلى الأمام فإن أعضاءه الحيوية تتزاحم ولا تكاد تعمل بشكلٍ صحيح، كما قد يضعف تدفق الدم من القلب إلى المخ، وبالتأكيد تضعف قابليته للحركة.
إن الحركة جزء أساسيّ من الوعي بالذات، وبالنسبة للطفل من ذوي اضطراب طيف التوحد فهي الجزء الوحيد من الوعي بالذات فكلّ تصور حسيّ يرتبط بحركةٍ ما، وهو ما يقدِّمه الحصان منذ اللقاء الأول مُخَفِّضاً في الوقت نفسه من مستوى القلق.
الحصان، بحركاته المتأرجحة الأليفة ولكونه (يحتضن) الطفل في (حضنه) الآمن المريح، يسمح للطفل بالعودة إلى لحظة أولية قديمة من وجوده، ثم العودة إلى الحاضر مجدداً. يلعب الحصان دوراً انتقالياً شديد الأهميّة؛ فهو يحتضن الطفل لكنه في الوقت نفسه يمثل رمزاً للسلطة ذا قواعد وطقوس تجب ملاحظتها.
إن ركوب الحصان يخلق علاقة حميمة بين الحصان والراكب: بآثاره المفيدة لوضعية الجسم التي تتموضع فيها مقعدة الطفل بشكلٍ صحيح، ما يسمح للعمود الفقري بالانتصاب في الوضع الصحيح لحمل رأس الطفل، وهكذا يسمح المُهر للطفل بالنظر حوله ومعرفة المزيد عن المكان وعن موضع الأشياء والأشخاص الآخرين. فعادةً ما تساهم حركة المشي في تهدئة الأطفال الرضع وتحسين انتباههم، لكن بمجرد التوقف يبدؤون في البكاء. لهذا فإن هذه المخلوقات المدهشة ما هي إلا هدية ثمينة لنا.
التنفس
يصعب على الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد الكلام وتنظيم نبرة صوته حيث تكون إما عالية جداً أو احاديه النغمة، فعلاقتهم بالأصوات معقدة وربما يرجع أصلها إلى تجربة مر بها حتى قبل أن يولد حيث أنه فائق الحساسية لضوضاء معينة (أي آلات تهتز مثل الحفار، آلة جز العشب)، ويبدو أن هذا أيضاً يرتبط بتنفسهم بحريّة. الزفير بطريقةٍ مرتاحة هو الضدّ من كتمان الطفل كل شيء داخله. التنفس هو أيضاً جزء من عملية الكلام، ونطق الكلمات مسبوق بفعل الزفير. وهنا أيضاً يساعد الحصان على بناء الصلة بين الأمرين من خلال (حديثه = صهيله) وتنفسه. فيتنفس الحصان بصوت مسموع ويصهل. وبجلوس الطفل من ذوي اضطراب طيف التوحد على الحصان يلاحظ هذه الأصوات، ولا تلبث أن تبدأ الكلمات بالظهور لديه، لكن في اللحظة المناسبة.
التلامس الجسديّ مع الحصان يعلِّم الراكب تقبّل التلامس مع الآخرين
بتلامس الحصان مع الطفل و(احتوائه) له حينما يجلس على السرج، يتعلم الحصان أن يكون وعاءً لعناصر النمو النفسيّ للطفل التي لم يتمكن الطفل أبداً من استيعابها، مثل المخاوف بدائيّة المنبع التي تمنع الطفل من تقّبل التواصل الجسديّ، إلا أن الطفل لا مناص له من التلامس مع الحصان حتى مع وجود السرج كـ (حاجز) بينهما.
في البداية قد يمنع السرج التواصل (البدني) الفعليّ مع الحصان، لكن لا مفرّ للطفل من حركة الحصان، وخلال وقتٍ قصير سيلامس عَقِبا الطفل وساقاه جانبي الحصان حتماً؛ وفي نهاية المطاف ستنهار مقاومته. التلامس مع الحصان يوفِّر الوسيط الذي من خلاله يتقبَّل الطفل ببطء الاستثارة الخارجيّة.
ثم هنالك الأحاسيس الأخرى التي لا مفر منها: رائحة وصوت ومنظر الكائن القويّ القادر على حمل الطفل على ظهره، والذي يملي عليه حركة جسمه ووضعيّته وجلسته. وإن وعي الطفل من ذوي اضطراب طيف التوحد هو وعاءٌ يستقبل كل هذه الخبرات الجسديّة والحسيّة، ويجد نفسه وقتها في حاجةٍ لمحاولة فهمها والعمل على أساسها والتفاعل تجاهها، فيكشف حينها عن مهارات جديدة لنفسه وللآخرين.
السمع
من بين جميع الحواس فالسمع هو الحاسة التي تولِّد أكثر ردود الأفعال حدة. الطفل من ذوي اضطراب طيف التوحد فائق الحساسية لأنواع معينة من الضوضاء، وقد يبدو غير مدركٍ أصلاً لأنواع أخرى. لا علاقة لارتفاع الصوت بنوع الضوضاء التي يسمعها أو لا يسمعها. أما الضوضاء التي يلاحظها فإنه يجب أن يتعرف بدقة على موضعها ويضيفها إلى العلامات المُمَيِّزة الأخرى التي تصف البيئة المألوفة تماماً كما يفعل الأطفال الصغار جداً.
عادة ما يحجم الأطفال ذوو اضطراب طيف التوحد عن الضوضاء التي تصدر أمامهم مباشرة، أثناء امتطاء المهر يتقبل صهيله، صوت الرياح والأشجار، جرارات متحركة وصوت المدرب.
الطفل من ذوي اضطراب طيف التوحد يهجر (متعلقاته الآمنة) بمجرد اعتلائه السرج
إذ في الحقيقة فإن الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد غير مدركين لوظيفة أو أهميّة الشيء. فإن هذه المتعلقات عادة ما تكون صلبة وغير ناعمة أو مرنة، كما يكوِّن أي طفلٍ آخر علاقة مع دبه المحشوّ أو مع السيارات اللعبة مثلاً. فوق ظهر الحصان يتخلى عنها يستبدلها بشعر ناعم من الحصان بملمس الحصان تنشغل يده بالتعلق بالسرج.
بطبيعة الحال فإن جميع الحواس الخمسة مهمة، لكن إذا فرضنا نقص إحداها أو عدم اكتمالها، فإن الحاسة السادسة أو السابعة هي ما سينقذ الموقف وهي الوعي بالنفس والإحساس بالتوازن، يعتبر بعض علماء المخ والأعصاب هاتين الحاستين هما (مرساة الهويّة). الوعي بالنفس يستجمع آليّات العقل الباطن التي تحفظ توازن الجسم، بفضل العمل المشترك بين حاسة البصر والنشاط العضليّ. وقد يتمكن الأطفال ذوو اضطراب طيف التوحد من امتلاك مثل هذه المرساة في حال كانت البيئة المحيطة بهم والنشاطات التي يمارسونهم تساعد على بناء حسّ الهوية لديهم كامتطاء الخيول.
ارغب في التواصل بلغتي
الأطفال ذوو اضطراب طيف التوحد يرغبون في التواصل ولكن بلغتهم الخاصة لأن كل شيء حولهم يبدو أعنف مما يحتملون. يحتاج الاطفال إلى تدخل الحصان يحملهم ويقودهم إلى فكرة التواصل مع الآخرين. الأطفال ذوو اضطراب طيف التوحد حساسون جداً لمشاعر الأشخاص الآخرين إلا أنهم لا يملكون حماية ضد هذه المشاعر وبما أن التواصل عادة ما يكون لفظياً فإن هذا السواء نهج ممكن لهم. الحصان لا يتحدث ولا يطالب بشيء شفهياً بينما نبدو نحن للطفل من ذوي اضطراب طيف التوحد راغبين في مهاجمته بالكلمات والنظرات وهو ما لا يحبه الطفل ذو اضطراب طيف التوحد. الحصان لا يهاجم بالكلمات والنظرات..
إن من الصعب جداً تخيّل ما يدور في أذهان الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد، لذا ركز بشدة لالتقاط أية إشارات يرسلونها، من أجل طمأنتهم، ودعمهم بمساعدة الخيول.
مترجم من كتاب:
(Riding on the Autism Spectrum: How Horses Open New Doors for Children with ASD), Claudine Pelletier- Milet. 2012
مصطفى إبراهيم محمد الضويني
الجنسية: مصري
الإقامة: الشارقة – الإمارات العربية المتحدة
رقم التواصل: 00971501746406
- معلم تربية رياضية للطلاب ذوي التوحد/ مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية / مركز الشارقة للتوحد منذ عام (2008) حتى الأن.
- مشرف نشاط السباحة بمركز الشارقة للتوحد (2008) حتى الآن.
- مدرب بنادي طنطا الرياضي بجمهورية مصر العربية (2004 ـ 2006).
- لاعب بفريق نادي طنطا الرياضي بجمهورية مصر العربية (2002 ـ 2004).
- لاعب بالمنتخب الرياضي لجامعه الإسكندرية (1999 ـ 2002).
- بكالوريوس التربية الرياضية / جامعه الإسكندرية 2002.
- الدبلوم العام في التربية الرياضية / جامعه الإسكندرية / جيد جداً / 2005.
- الدبلوم المهني في التربية الخاصة /جامعه المنوفية / جيد / 2006.
- مقيد بمرحلة الماجستير قسم تدريب الرياضات المائية (سباحة) بجامعه الإسكندرية
- المشاركة في الملتقى الأول لاضطراب طيف التوحد والذي نظم من خلال مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية (مركز الشارقة للتوحد) بعنوان (خارج المتاهة) بورقة عمل علمية بعنوان (تنمية مهارات السباحة للطلاب ذوي التوحد باستخدام مبادئ برنامج تيتش) أبريل 2015 ـ غرفة تجارة وصناعة الشارقة.