من خلال استعراضي لعدد من المصادر الأدبية التي أوردت الطرائف والنوادر الأدبية المتعلقة بالأدباء المعوقين، وجدتها تسير في ثلاثة اتجاهات:
- الاتجاه الأول: الطرائف الأدبية التي قيلت فيهم.
- الاتجاه الثاني: الطرائف المتبادلة بين المعوقين أنفسهم.
- الاتجاه الثالث: الطرائف الموجهة للناس غير المعاقين.
والطريف في هذه الطرائف التي تبادلها المعاقون وغير المعاقين على حد سواء أنها تنوعت شكلاً ومضموناً، ففي الشكل ترد في نوعي الأدب: الشعر والنثر، وفي المضمون فهي تتوجه إلى كل فئات المعاقين.
أبدأ بأول الاتجاهات وهي الطرائف التي قيلت فيهم، وأعني بذلك ما وجهه غير المعاقين لهم أو نقلوه عنهم من طرائف ونوادر، وأولها وأهمها هي تلك الطرائف المعجبة، والأجوبة المسكتة، والردود المفحمة التي كان يرد بها أصحاب الإعاقات على من يتوجهون إليهم بالسؤال؛ إما على سبيل الاستفهام، أو السخرية بهم والنيل منهم.
* فهذا بشار بن برد وكان أعمى، يرد على سائله الذي قاله له: (ما أذهب الله كريمتيْ مؤمن ـ أي عينيه ـ إلا عوضه خيراً منهم: ففيم عوضّك الله يا بشار؟).. رد عليه بشار وقال له: عوّضني الله بعدم رؤية الثقلاء مثلك.
* ونراه في مكان آخر يجيب بأسلوب السخرية والاستهزاء، إذ دخل يزيد بن منصور الحميري عليه وهو واقف ينشد الخليفة المهدي شعراً، فلما فرغ بشار من انشاده أقبل عليه يزيد بن منصور وقال له: (ما صنعتك يا شيخ؟).. فقال له بشار مستهزئاً: (أثقب اللؤلؤ!!).. فضحك المهدي وقال لبشار: (اغرب عن وجهي. ويلك.. أتستهزأ على خالي!!)، فرد بشار على الخليفة قائلاً: وما أصنع به! يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة مديحاً ويقول له: ما صناعتك يا شيخ! ومن طرق الباب سمع الجواب.
* وهذا أعمى يحمل على كتفه جرّة ومعه سراج يسير به في الليل، فلقيه رجل فقال له: يا هذا.. أنت والليل والنهار عندك سواء، فما معنى هذا السراج الذي تحمل؟ فرد عليه هذا الأعمى مسكتاً وقال له: يا فضولي.. حملته معي ليراه أعمى البصيرة مثلك، يستضيء به فلا يعثر بي فأقع أنا وتنكسر الجرّة.
* ومن ذلك، تزوج أعمى امرأة فقالت له يوماً: لو رأيت يا زوجي العزيز حُسني وبياضي ودلالي لعجبت. فقال لها: اسكتي يا امرأة، لو كنتِ كما تقولين، ما تركك لي البصراء، ولما قبلت بي.
* وقال بعضهم: يقال إن أهل هيت يكون أكثرهم عوراً، فرأيت رجلاً منهم صحيح العينين، فقلت له: إن هذا لغريب! فقال: يا سيدي، إن لي خالاً أعمى وقد أخذ نصيبه ونصيبي!
* وقيل لأعور: ما أشد العمى! فأجاب قائلاً: عندي نصف الخبر!
* ومثله دعى أحدهم على أعور فقال له: أعمى الله عينيك.. فرد الأعور قائلاً: قد أجيبت نصف دعوتك!
* وخرج هشام وكان أحولاً، فتلقّاه رجل أعور، فقال له هشام: إني تشاءمت بك وبعورتك، فقال له الرجل الأعور: شؤم الأعور على نفسه، وشؤم الأحول على الناس.
* وعُرض على أمير المؤمنين أثواب خز وفي المجلس أعور وأحول، فقال الأعور للأحول: بهذا الثوب عيب! فرد عليه الأحول قائلاً: يا صفعان: إن بصرك بعين واحدة، أحد من بصري بعينين. فقال الأعور رداً عليه: دُريهم جيد خير من درهمين مزيفين.
* أُتيَ لبعض الولاة بأحدب وقد جنى جناية، فقال له الوالي: لأضربنك ضرباً يُقيم ظهرك.. فرد عليه الأحدب قائلاً: إنك لعظيم البركة.
* وقال الجنيد: حضرت أبا علي الأشناني وكان ضريراً، فقرأ قارئ الآية: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} فقال أبو علي: سقط عني نصف العمل!
* وفي يوم من الأيام رفع غلام بشار بن برد إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم.. فصاح بشار وقال: ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة الأعمى بعشرة دراهم.
* ولعل أبا العيناء ينفرد من بين العميان بأجوبته المسكتة، وذلك مذهبه وطريقة أسلوب، فقد سأله المنتصر: ما أحسن الجواب؟ قال: ما أسكت المُبطل وحيّر المحقق.
وهذا يؤكد قدرتهم على مواجهة المجتمع والرد عليه وعلى من يتطاول عليهم بذكاء نادر وحسن إجابة. وقد ورد في كتب الأدب على لسان أبي العيناء الكثير من هذه الأجوبة المفحمة، من ذلك:
* قال المتوكل يوماً لجلسائه: لولا ذهاب بصر أبي العيناء لجعلته نديمي. فقال أبو العيناء: إن كان يريدني لقراءة نقش الخواتم وقراءة الأهلة فإني لم أصلح! فضحك المتوكل واتخذه نديماً.
* وقالوا له يوماً إن سعيد بن عبد الملك يضحك منك فقال: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون.
(وقال له نجاح بن سلمة يوماً: ما ظهورك وقد خرج توقيع أمير المؤمنين في الزنادقة؟ فرد عليه قائلاً: استدفع الله عنك وعن أصهارك!
* ووعده ابن المدبر يوماً أن يعطيه بغلاً، فلقيه في الطريق في صباح اليوم التالي، فقال له ابن المدبر: كيف أصبحت يا أبا العيناء؟ فرد عليه قائلاً: أصبحت بلا بغل. فضحك منه وبعث به إليه.
* وقالت له قينة يوماً: هب لي خاتمك أذكرك به. فقال لها: اذكري أنك طلبته مني ومنعتك إياه!
* وقيل له: ما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم؟ فقال: هما الخمر والميسر، وإثمهما أكبر من نفعهما.
* وبعث نجاح بن سلمة إلى موسى بن عبد الملك يستأديه مالاً، فتلف في المطالبة، فلقي بعض الرؤساء أبا العيناء وقال له: ما عندك من خبر نجاح؟ قال أبو العيناء: فوكزه موسى فقضى عليه. فبلغت موسى كلمته ـ أي موسى بن عبد الملك ـ فلقيه، فقال له: أبيَ تشهّر! والله لأقومنّك. فقال أبو العيناء: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس!
* وقالت له قينة يوماً: يا أعمى.. فقال لها: ما أستعين على وجهك بشيء أصلح من العمى.
* وأكل عند ابن المكرم، فسُقي على المائدة ثلاث شربات باردة، ثم استسقى، فسُقي شربة حارة، قال: لعل مزملتكم تعتريها حمّى الربع!
وطرائف أبي العيناء كثيرة، وإنما اخترت منها الأليق.
* وليَّ قاضيان أعوران القضاء، أحدهما شرقي سامراء، والآخر غربيها، فقال دعبل الخزاعي:
رأيت من الكبائر قاضيين
هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين قدراً
كما اقتسما قضاء الجانبين
هما قال الزمان بِهَلْكِ يحيى
إذا افتتح القضاء بأعورين
والمقصود بيحيى بن أكثم القاضي الذي ولاهما.
* وقال آخر في أعور وعوراء: هي عوراء باليمين وهو أعور بالشمال، وافق شناً..
* ومن الطرائف التي تروى عن بشار أنه كان يفرض أتاوة على الناس يدفعونها له في بداية كل عام حتى لا يهجوهم، وجاء العام ولم يدفع حماد عجرد، فأتاه بشار وهدّده إن هو لم يدفع فسيهجوه هجاء مراً، فقال له حماد ساخراً: لقد سمعت صبيان الحارة ينشدون نشيداً عنك ويقولون:
هللينه هللينه
طعم قثاء لتينه
إن بشار بن برد
تيس أعمى في سفينة
فقال له بشار: يا حماد، أنا أدفع لك أتاوة على ألا تكون راوية لما كان ينشده الصبيان!!
* ولما تولى ابن الأصبهاني دار الزكاة، قال ابن المنجم المصري الشاعر:
إن يكن ابن الأصبهاني من
بعد العمى في الخدمة استنهضا
فالثور في الدولاب لا يُحسن
أسس تعامله إلا إذا غُمّضا
* وأخيراً، دفع رجل إلى خياط أعور ثوباً ليخيطه، فقال له: لأخيطنه لا تدري أقباء أم قميص.. فقال له الرجل: لأمدحنّك ببيت لا تدري أهجاء أم مديح!