منذ أكثر من قرن، قال أحد الفلاسفة النمساويين: (إن تكلمنا لغة أخرى غير لغتنا الأصلية كفيل بأن يجعلنا ندرك عالماً آخر)، وهذه المقولة تثبت الآن بعد مرور ما يقارب 100 عام فوائد تعدد اللغات.
لاحظت أن هناك نشاطاً واسعاً في العالم العربي في مجال لغة الإشارة منذ عدة سنوات قليلة، وكما أن هناك ما يمكن أن يسمى لهجات مختلفة للغة الإشارة مثل لغة الإشارة السعودية ولغة الإشارة الإماراتية ولغة الإشارة المصرية ولغة الإشارة التونسية وغيرها. السؤال الذي يطرح نفسه: هل لغة الإشارة تساعد على تنمية مهارات القراءة والكتابة والشفهية لدى الصم العرب؟
قبل أن أجيب عن هذا السؤال، لنتصور أن الطفل السامع العربي عندما يولد ويخرج من بطن أمه ويمضي سنة كاملة يستمع فيها إلى أصناف وأشكال من اللغة والتواصل حوله في البيئة التي يعيش فيها، لكنه لا يستطيع أن ينطق، بطبيعة الحال، إلا بعض الأصوات، وفي سنته الثانية والثالثة والرابعة، يبدأ ينطق بعض الكلمات حتى يصل عمره إلى ست سنوات، ويدخل المدرسة وهو يتكلم بالعربية كلغة أم، ويبدأ في تعلم القراءة والكتابة، ويعبر عما يريد بلغة عربية مفهومة، ويفهم كل ما يقوله المعلمون والمعلمات باللغة العربية، ويعرف قدراً من المفردات العربية ويستخدم اللغة العربية في سياقاتها الثقافية بشكل واضح.
ماذا عن الطفل الأصم العربي؟ تشير الدراسات العلمية إلى أن أكثر من 90٪ من الأطفال الصم لهم آباء وأمهات سامعون لا يعرفون لغة الإشارة بشكل طبيعي ولديهم صعوبة التواصل مع أطفالهم الصم. السؤال هنا: كيف للطفل الأصم العربي أن يتعرض للغة الأولى وأن يتواصل مع من هم حوله وهو لا يسمع بشكل جيد حتى يصل عمره إلى ست سنوات مثل الطفل السامع فيدخل المدرسة وهو لا يملك الحصيلة اللغوية الأساسية قبل تعلم اللغة العربية الشفهية والمقروءة والمكتوبة!
وهذا يعتبر في الواقع تأخراً في اللغة لدى الطفل الأصم العربي، وهذه الحالة تعتبر حرماناً لغوياً بالنسبة للطفل الأصم، فهو يحتاج إلى الوسائل البصرية للوصول إلى التواصل كلغة الإشارة وأي وسيلة تواصل بصري في أسرع وقت ممكن بعد ولادته، وهذه المهمة هي التدخل المبكر قبل فوات الأوان؛ لأن حالته ليست مثل حالة الطفل السامع العربي كما نتصور لأسباب واضحة وضوح الشمس.
لقد قرأت ودرست البحوث العلمية والأفكار المساعدة على النجاح في تعلم اللغة العربية للصم مبنية على بعض ما عرضت الأبحاث والكتب المتخصصة في مجال ثنائية اللغة، ويرى الباحثون والمتخصصون أن الطفل الأصم له الحق في التعرض للغة الأولى المبكرة والنمو بثنائية اللغة لكي يتمكن من إدراك كل قدراته المعرفية واللغوية والاجتماعية حوله في البيئة التي يعيش فيها، وهو يحتاج إلى استعمال ومعرفة اللغتين: لغة الإشارة واللغة العربية قراءة وكتابة وشفاهاً، ويظن الكثيرون أن تعليم اللغة العربية صعب جداً للأشخاص الصم، ويعتقد البعض أن استخدام الأطفال الصم للغة الإشارة يؤدي إلى منع اكتسابهم اللغة العربية، لكن في نظري، إن السبب الحقيقي وراء ذلك يعود إلى الفهم الخاطئ لطبيعة الصم ولغتهم، وهؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً عن الصم، لا يعرفون شيئاً عن لغتهم.
السبيل الوحيد لسد هذه الحاجيات هو ثنائية اللغة للصم، لغة الإشارة واللغة الشفهية والقراءة والكتابة، التي تمكّن الطفل الأصم من التواصل المبكر مع أبويه وأسرته لتطور واكتساب اللغة وتعلمها من خلال التأقلم الثقافي والاجتماعي والتعليمي، وكذلك فإن لغة الإشارة تساعد على اكتساب اللغة الشفهية وتعلم القراءة والكتابة، بطبيعة الحال، وتلك ثنائية اللغة تعتبر إحدى وسائل التواصل والتخاطب المتبعة في تعليم الصم المتطور. من الملاحظ أن الصم الذين يحققون بعض النجاح في التواصل بثنائية اللغة يتميزون بامتلاكهم دافعية أكثر للتعلم والمشاركة في الحياة الاجتماعية للجماعة التي تستخدم لغتهم السائدة.
عندما قابلت شخصاً من فئة الصم وهو يجيد لغة الإشارة السعودية ويريد تعلم اللغة العربية، أخبرني أنه يدخل عدة دورات للغة العربية، وكان حريصاً كل الحرص على تعلم اللغة العربية عن طريق الدورات التدريبية، وأخبرته أن هذا الطموح ممتاز ومطلوب، لكن الدورات التدريبية ليست الحل الوحيد، وتعجب من إجابتي، وسألني لماذا؟ فأوضحت له أن الحل هو ممارسة القراءة اليومية والمكثفة، كأنها حاجة أساسية مثل الأكل والشرب والنوم، وهذه الممارسة هي أفضل وأسرع لتطور مهاراتي القراءة والكتابة، وتلك الممارسة تنطبق على الجميع.
هنا الفرق الوحيد بين السامعين والصم هو وسيلة التواصل، ويعتمد السامعون على اللغة المنطوقة التي تطلب السمع والنطق، وبينما يعتمد الصم على لغة الإشارة التي تطلب الوسيلة البصرية، ولا بد أن ندرك بأن لغة الإشارة، أياً كانت، هي لغة مستقلة عن اللغة المنطوقة، لكن الأطفال الصم يحتاجون لدعم كامل للغتين لضمان اكتسابهما بشكل متوازن ومتوافق مع أعمارهم، ومن الخطأ الكبير التركيز على لغة الإشارة وتجاهل تعلم وتدريب مهارات القراءة والكتابة والشفهية؛ لأنه يتنافى مع نتائج الدراسات الحديثة.
لذا من الأنسب أن نساعد أي طفل أصم على اكتساب ثنائية اللغة المبكرة التي ستمنحه ضمانات كبيرة في المستقبل بلا شك، وعليه أن يحس بضرورة استعمالها بشكل متوازن، فثنائية اللغة المبكرة مصدر ثراء، ولا ثراء للطفل الأصم إلا بلغته الأولى والثانية، كما قال الراحل نيلسون مانديلا: (إذا كنت تخاطب شخصاً بلغة يفهمها، معناه أنك تخاطب رأسه، وأما إن كنت تحدثت معه بلغته الأصلية، هذا يعني أنك ستذهب إلى قلبه).
حمد عبد العزيز الحميد
- باحث وكاتب رأي
- أول سعودي من ضعاف السمع يحصل على الماجستير في الإدارة العامة (M.P.A) والبكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة Gallaudet في واشنطن، بالولايات المتحدة الأمريكية
- محاضر سابق في قسم العلوم السياسية Gallaudet University
- لديه دورات علمية وتعليمية في مجال الصم وضعاف السمع
- حاصل على شهادة شرفية من منظمة الشرف للعلوم السياسية
- حسابه في تويتر:@PersonalHamad