حدث ذلك أثناء دراستي في السنة الثالثة في كلية علم الإعاقة، حيث تقرر أن أبدأ التدريب العملي في إحدى مؤسسات التأهيل والتي تعتني بتأهيل الأشخاص (أطفال وبالغين) بعد إصابات الدماغ والعمود الفقري، وتقرر أن أكون في الأسبوع الأول في قسم العلاج الطبيعي، انتقل بعدها إلى الأقسام الأخرى في هذه المؤسسة الكبيرة التي تحتوي عدة أقسام منها قسم العلاج الوظيفي، قسم علاج أمراض اللغة والكلام، وقسم الأطراف الصناعية، وقسم التأهيل المهني.. إلخ.
في اليوم الأول لي في هذه المؤسسة أخبرني مسؤول القسم بأني سأكون تحت إشراف أخصائية علاج طبيعي لديها خبرة طويلة في هذا المجال تزيد عن عشرين عاماً. كانت هذه الأخصائية تقوم بعمل علاج وتأهيل لإحدى الفتيات التي ودعت سن الطفولة منذ مدة بسيطة وبدأت في الدخول في سن الشباب، ونتيجة لحادث سير أليم أصيبت في الجزء السفلي من العمود الفقري مما أدى إلى إصابتها بحالة شلل نصفي أو ما يسمى Paraplegia فأصبحت عاجرة عن المشي ويلزمها أن تستعمل الكرسي المتحرك.
أعترف بأنني تألمت كثيراً لحالتها خصوصاً لمعرفتي المسبقة بأن هذه الفتاة سوف تبقى أسيرة الكرسي طوال حياتها.. قامت الأخصائية بتقديم شرح واف عن حالة الفتاة ونوع العلاج الذي تتلقاه، وقبل الساعة الواحدة بقليل أحضرت الأخصائية كرسياً متحرك وبصوت حازم أخبرت الفتاة بأن عليها الانتقال لوحدها من سرير العلاج إلى الكرسي وأن عليها أن تدفعه وحدها إلى صالة الطعام في المؤسسة، وإذا لم تسرع فسوف تفقد حقها في وجبة الغذاء.
خلال دقائق معدودة غادر جميع من كان في هذا القسم من عاملين ومرضى بعضهم على الكراسي المتحركة والبعض الآخر باستخدام الأجهزة المساعدة.. وبقيت هذه الفتاة وحدها على سرير العلاج وإلى جانبها يجثم الكرسي المتحرك في صالة يبلغ طولها أكثر من ثلاثين متراً،..
أعترف مرة أخرى أنني تألمت أكثر عند مشاهدتي لها وهي ما زالت على السرير ولم تنتقل بعد إلى صالة الطعام.. لم أستطع فهم تصرف الأخصائية واعتبرته غير إنساني.. وأنا الرجل الشرقي القادم من بلاد عاداتها وتقاليدها تحض على مساعدة المحتاج والمسكين.
لذلك، ودون طول تفكير هرعت لمساعدة الفتاة في الانتقال إلى الكرسي المتحرك ودفعها إلى صالة الطعام.
الغريب في الأمر أن الفتاة لم تشكر فعلي هذا أو حتى تعلق على هذه المساعدة، وعند باب الصالة أشارت لي بيدها، وبكلمات بسيطة يطغى عليها الحزن أنها سوف تتابع لوحدها دفع الكرسي.
بعد تناول وجبة الغذاء تبدأ عادة فترة الاستراحة، وبعد ذلك يتلقى المرضى أنواع أخرى من العلاجات أو يقومون بنشاطات أخرى.
في اليوم الثاني تكرر المشهد ذاته قبل فترة الغذاء بقليل أحضرت الأخصائية الكرسي المتحرك وغادرت الصالة، وبدون تردد قمت بمساعدة الفتاة مرة أخرى بعد أن غادر الجميع صالة العلاج، وكنت مندهشاً في نفسي كيف يحدث ذلك في كل مرة.. بل كيف يصف جميع العاملين هذه الاخصائية بأنها إنسانة لطيفة ومحبوبة من الجميع وهي حتى لا تساعد فتاة مقعدة على الانتقال من السرير إلى الكرسي المتحرك!
طوال الأسبوع أصبح الأمر بالنسبة لي عادياً، وأصبحت انتظر فترة الغذاء حتى أساعد هذه الفتاة المسكينة، وكان من سياسة هذه المؤسسة أن تقوم بعقد اجتماع للطاقم في نهاية كل أسبوع يكون حاضراً فيه جميع المختصين والعاملين مع المرضى والمتدربين مثلي، ويتم في هذا الاجتماع تناول ملفات المرضى والتعليق عليها شفهياً أو كتابياً فيما بعد، ويتم تحديد مدى التقدم بالعلاج والأهداف المحددة لكل مريض، وعندما وصلنا إلى ملف المريضة التي كنت أساعدها طوال الأسبوع على الانتقال من السرير إلى الكرسي المتحرك فوجئت بأن من ضمن الأهداف الموضوعة لهذه الفتاة هو تعليمها وتأهيلها على استعمال الكرسي المتحرك وكذلك الانتقاء من وضعية الاستلقاء إلى وضعية الجلوس اعتماداً على القدرات الحركية في الأطراف العليا.
وقد علقت أخصائية العلاج الطبيعي وأخصائية العلاج الوظيفي بأن هذه الفتاة أصبحت في الوقت الحالي مستقلة وهي تستعمل الكرسي لوحدها ولا توجد لديها صعوبة في الانتقال من وضعية الاستلقاء إلى وضعية الجلوس وأنها أصبحت تذهب إلى صالة الطعام وحدها دون مساعدة!
وعلق الأخصائي النفسي بدوره على حالة الفتاة فقال إنها خرجت من حالة اليأس أو الحزن وأصبحت متقبلة لوضعها الجديد!
هنا عرفت مقدار الخطأ الذي كنت أرتكبه طوال المدة السابقة بدافع من إحساس الشفقة المبالغ فيه الذي دفعني لمساعدة الفتاة في أمور كان عليها أن تقوم بها وحدها.. عند هذا الحد وجدت أن من واجبي أن أعتذر وأخبر الجميع بالحقيقة وبأن الفتاة لم تستعمل الكرسي وحدها وأنني كنت أساعدها طوال المدة السابقة، وشرحت لهم دوافعي التي كانت سبباً في التقييم الخاطىء لحالة الفتاة.
بعد ذلك أمضيت عدة أسابيع متدرباً في الأقسام المختلفة، وخلال هذه المدة تعلمت أموراً عديدة، أهمها هو أن المعاق لا يحتاج منا إلى الشفقة بل إلى التأهيل القائم على الأسس العلمية السليمة، وأن الشفقة وحدها لن تساعد معاقاً على التكيف مع وضعه والاستفادة من طاقاته الكامنة.
وقبل انتهاء فترة تدريبي العملي حرصت على مطالعة ملف الفتاة التي كنت أساعدها فقرأت العبارة التالية: »تستطيع الفتاة الآن استخدام الكرسي المتحرك دون صعوبة أو مساعدة« مع وضع خط تحت كلمة مساعدة.