إعداد : منى صديق حاجوني
لا أعرف من أين أبدأ هذا الموضوع الهام للغاية، هل أبدأ بنوعية القصص التي يجب أن يتم اختيارها .. أو لماذا نشتري القصص للأطفال ؟؟ أو ما هو الهدف أصلاً من هذه القصص ؟؟ …
أغلب الناس يشترون القصص لأطفالهم ويجلسون فترات طويلة يعلمونهم ويلقنونهم ويحفظونهم الكلمات الموجودة فقط .. وهذا مضيعة للوقت والجهد خاصة عندما نتحدث عن مراحل عمرية مبكرة جداً، يعني مثلاً: طفل لم يبدأ بعد بنطق كلمة (ماما)، ونقوم نحن بالضغط عليه ونقول (قل سيارة … قل سيارة.. سيارة)، وهذا الشيء يعتبر مضيعة للوقت والجهد، حيث أن قراءة القصة لطفل عمره أقل من سنة تختلف تماماً عن قراءتها لطفل في سنته الثالثة..
قبل أن أدخل في الموضوع بشكل علمي، يجب على كل “أم” معرفة أن الطفل يولد ودماغه عبارة عن صفحة بيضاء، ونحن من ندوّن فيها كل شيء من كلمات ومعلومات وتصرفات إلخ..، ويجب علينا فهم أن كل الناس يولدون بنفس حجم الدماغ تقريباً، لكن الاختلاف يكون في الآلية التي نطور من خلالها ونزيد كفاءة أداء هذا الدماغ لأن الدماغ ببساطة عبارة عن خلايا عصبية مترابطة مع بعضها البعض، ويتكون بشكل أساسي من مادتين ( المادة الرمادية و المادة البيضاء )
المادة البيضاء، تنقل المعلومات والأوامر وتعالجها، أما المادة الرمادية فهي موجودة في القشرة والمخيخ وفصوص الذاكرة.
الذي يحدث، أن الدماغ ينمو ويكبر في أول سنوات عمرنا بشكل مضاعف جداً، وتنمو معه طبعاً الخلايا الرمادية والبيضاء وتتضاعف أيضاً، وبذلك يصل الدماغ لحجمة الكامل عندما يصبح عمر الطفل ست سنوات، وبعدها ينمو بشكل بطيء جداً..
وتكمن المشكلة أن الخلايا، سواءً كانت الرمادية أو البيضاء، تعتبر “مخزناً” وهي مسؤولة عن الحفظ والمعالجة، حيث أنها تثبت ولا تزيد، وهنا نصل إلى مربط الفرس.
كيف يمكننا أن نستفيد أو نزيد من عدد الخلايا؟
هل ننتظر إلى أن يفهم الطفل أو يتكلم!
بالتأكيد لا، إذ يقع على عاتقنا منذ البداية أن نبدأ العمل مع الأطفال كي نزيد من عدد هذه الخلايا بطريقة بسيطة جداً وغير مكلفة، عن طريق اعتبار دماغ الطفل ورقة بيضاء فارغة تماماً، ونحن من نقوم بالكتابة فيها.
كيف نقوم بهذه العملية!
طبعاً عن طريق أدوات الإدخال (اليد- العين -الأنف -الفم – الأذن)، بالاختصار، عبر الحواس الخمس.
وهنا نتساءل كيف؟
حيث أن الطفل منذ اليوم الأول يعرف استخدام فمه لشرب الحليب، وهذه تعتبر المهارة الأولى وهي ليست فطرية فحسب بل تكون مع تدريب الأم بدون أن يعي الطفل ذلك، حيث أن عملية فتح الفم وإدخال الحليب وحثّ الطفل على الشرب هي عملية تعليمية كاملة، وعلى هذا يكون الإدراك البصري والإدراك السمعي والحسي منذ اليوم الأول، فعندما يلمس الطفل يد أمه يسجل الدماغ أن يداً ناعمة لمسته، وبعد شهور عدة يتغير المفهوم المسجل فيدرك أن اليد الناعمة التي لمسته هي يد أمه، وبعد مدة أطول تصبح التفاصيل أكثر (اليد الناعمة ذات الشامة هي يد ماما)، وبعد فترة أطول تصبح (اليد الناعمة ذات الشامة والأظافر الطويلة والرائحة الزكية هي يد ماما )
هكذا يتطور الإدراك عند الطفل، بعد فترة من الاكتشافات التي من شأنها أن تجعل دماغ الطفل يعمل وتنمو خلاياه بشكل جيد.
بالمختصر، دماغ الطفل عبارة عن كتاب والخلايا عبارة عن أوراق، فكلما زادت المدخلات، زادت الحاجة إلى خلايا ( أوراق ) أكثر ، لذلك نسمع أن السنوات الأولى من عمر الطفل لا بد من استثمارها بطريقة سليمة، وهنا يأتي السؤال، ما العلاقة بين الكتب وكلامنا السابق؟
الكتب عبارة عن أدوات إدخال، يتم إدخالها إلى دماغ الطفل، وكلما تضمن الكتاب ألواناً أكثر تحفز الدماغ أكثر، لأن الدماغ يعمل على التمييز، وإذا رأى الطفل لوناً جديداً يميزه الدماغ بشكل مباشرة ويصنفه، كما نلاحظ انجذاب الطفل إلى اللون الذهبي بسبب طبيعته فهو جديد بالنسبة لدماغه نظراً لكونه ليس من الألوان الأساسية.
القراءة للطفل في عمر مبكر لا يستطيع فيه الكلام، ليس عملاً دون فائدة بل العكس، حيث أن كل كلمة تختزن في دماغه، وعندما يكبر الطفل يسترجعها ويستخدمها، ونؤكد على أهمية مدخل السمع فهو يحث الطفل على إدراك الصوت وكلما تعرض الطفل لأصوات أكثر تحفز الدماغ وعمل بكفاءة أكبر، وهنا نتحدث عن الأصوات الطبيعية مثل صوت الأم وأصوات العصافير وغيرها من أصوات الطبيعة العذبة وليست تلك الأصوات الصادرة عن الأجهزة اللوحية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى العلاقة القوية بين الكتب واللمس، فخلايا الأطفال الحسية كثيرة جداً، وعندما تلمس أيدهم أي شيء، يقوم الدماغ بإرسال إشارات بشكل مباشر كي يقوم بعملية الربط بين الأشياء، فدماغ الطفل يتحول إلى محيطٍ من الإشارات حين يلمس الأشياء المختلفة ويفهمها، ولكن كيف ستتطور خلاياه بشكل سليم عندما يلمس شكلأً مسطحاً فقط كالجهاز اللوحي!
تعتبر مرحلة لمس الأشياء من أهم المراحل الاستكشافية وأكثرها مغامرة، فمثلاً عند منع الطفل من الأكل وتذوق الطعام بيده بهدف المحافظة على نظافة ملابسه، لا تتكون لدى الطفل مهارة الربط بين الأشياء والتمييز بين الألوان، تعالوا نتخيل حالة الطفل أثناء الرضاعة، يلعب بشعر أمه وفي نفس الوقت يسمع صوت دقات قلبها ويشم رائحتها ويحس بدفئها ويتذوق طعماً مختلفاً في كل مرة، هذه هي أكبر عملية لتحريك كل الحواس في وقت واحد وهي عملية بدائية (الرضاعة).
الآن دعونا نربط ما ذكرناه بقراءة قصص الكتب، فهي ليست مجرد أوراق نمسكها ونلقن بها الطفل “هذا أرنب وهذا أسد”، بل هي نقلة كبيرة في دماغ الطفل رغم بساطته، ويجب أن يكون الكتاب في هذه السن الصغيرة ذا حجم كبير، يضم ألواناً وأشكالاً واضحة، وكلما كبر الطفل قلت الحاجة إلى هذه الأمور.
ما الذي يحدث بالفعل حين تقوم الأم بقراءة القصة أو الكتاب للطفل؟
يرى الطفل الألوان في عمر الشهرين، ينظر إلى الألوان والأشكال ويحاول الإمساك بها والإحساس بملمسها ويبدأ بتحليلها في دماغه ومعرفة الاختلافات بينها.
عندما تقرأ الأم، يبدأ الطفل بربط الأصوات مع الأشكال حتى أنه يشعر بنبرة الصوت فيخزنها الدماغ إلى وقت الاستخدام، صوت الأوراق عند تقليب الصفحات مهم جداً كذلك، لأنه يتضمن فاصلاً زمنياً، يقرنه دماغ الطفل بعنصر المفاجأة أو بما هو جديد، فيصفق الطفل ويشعر بالحماس مع كل صفحة جديدة، حتى المكان الذي تقرأ الأم فيه والوضعية، كل ذلك يثبت في دماغ الطفل ويتم ربط زمن القصة بفترة ما قبل النوم، حيث أن نوم الطفل على صوت الأم والأب مهم جداً كي يحس بالراحة والأمان والدفء.
أما الأصوات المسجلة فلا تحمل معها الارتباط الحسي التفاعلي كما يفعل صوت الأب والأم.
إن إحساس الطفل بجسم الأم أو الأب منذ مرحلة عمرية مبكرة يحرك فيه جميع حواسه (الشم واللمس والسمع ..) ويبدأ بربط وقت القصة بالقرب من أمه، استنشاق رائحتها، الاستماع إلى نبضات قلبها، كما كان يسمعها وهو جنين في بطنها. عند التفكير بهذا كله، نجدها فرصة ذهبية لا يجب التفريط بها واستبدالها بالتسجيل الصوتي.
دعونا نرجع في الزمن قليلاً حيث كانت الأم تضم الطفل في حضنها وتقربه لقلبها وتربت على ظهره وتهود عليه عندما يصعب على الطفل النوم ، نلاحظ هنا اجتماع الحواس كلها كما يحصل عند قراءة القصة قبل النوم.
لذلك نؤكد على أهمية وفائدة القراءة قبل النوم وأهمية الكتب التفاعلية بدلاً من التسجيل الصوتي والتلفاز والجهاز اللوحي الذكي، ونلاحظ أن الأمور التفاعلية المباشرة لها أثر كالسحر على دماغ الطفل، حيث أنه كلما تعرض الطفل لألوان وأشكال أكثر وأصوات طبيعية وروائح مختلفة تزداد الرسائل العصبية والمادة البيضاء التي ينتجها الجسم بشكل كبير مع بداية حياتنا ثم يتوقف الإنتاج مع التقدم في العمر ويتقلص عدد الخلايا بعد عمر الثلاثين ولا وما من طريقة لاسترجاعها ، وكلما زاد معدل عدم استخدامها تتلف هذه الخلايا ونتفاجأ بالنسيان ومرض الزهايمر في عمر مبكر جداً ..
المرجع :
- Introduction to Early Childhood – Print rich environment
منى صديق حاجوني
إماراتية من الشارقة عاصمة الثقافة
بكالوريوس آداب ـ علم الاجتماع ـ جامعة الشارقة
اختصاصية اجتماعية بمركز التدخل المبكر التابع لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
مهتمة بمجالي الإبداع والرسم