بقلم : د. روحي عبدات
منشغلة بالتقاط أغراض عن هذا الرف وذاك، يبدو أنها تعرف وجهتها جيداً، تدلنا على ذلك حركتها البهلوانية في التنقل السريع بين الرفوف. تحتضن أصنافها المفضلة وتواصل جولتها السريعة دون حاجة لقائمة تسوق مملة، مكتوبة بخط يشبه وصفة الطبيب. تلك الذكية العجولة، قد وقعت في شرك السرعة هذه المرة، عندما وصلت أمام حضرة مقام أكياس الخبز المرصوصة المتوفرة بكثرة، المصنفة بشكل دقيق حسب رغبات وميول المستهلك، خُبزها بُني مرصّع بجواهر من بذور دوار الشمس، يزيّنه مغلف بلاستيكي مكتوب عليه ما يقنعك بأنه صحي ومفيد.
البعض فقط يعرف – لا أريد أن أقول الفقراء فقط- قيمة الخبز، الخبز فقط، دون أن يعتنوا بلونه أو نوعه أو مسقط رأسه.. دون أن يلتفتوا لمن زرع قمحه وحصد سنابله، من فرز قمحه عن زيوانه، وخزّنه لمفاجآت الشتاء، من طَحنه، وعبّأه ونقله، وخلَط مقاديره بِعناية، وتَعبت يداه من لتّه وعجنه قبل أن تتدخل الآلة لعمل كل ذلك، ثم في النهاية خَبزَه.. وتلك قصة أخرى لها طُرقها وفنونها. إنهم –أي البعض- يتجاهلون كل ذلك، مع معرفتهم بحكايته الطويلة المتعبة، إلا أنهم وعلى اختلاف مشاربهم لا يتجاهلون شيئاً واحداً فقط: أن الخبز لا ينبغي أن يسقط، لأن الخبز هو الكرامة، هو من كُبريات النعم.
أذكر أن والدتي قد عايشت كل هذه الرحلة المضنية من ألِفها إلى يائها، ثم ألِفها مرة أخرى، ومعها بقية الأمهات اللواتي يعرفن معنى سنابل القمح، ينسجن منها أطباقاً معلقة تزين جدران البيوت، وتحمل خيرات موائدهن اللذيذة. أذكر أنها رحمها الله قد ضربت يدِيَ ذات مرة –وما أجملها من ضربة- حين رميتُ حبات القمح في مكانها غير الصحيح، حين كنت طفلاً يحاول مساعدتها في الزراعة. لعل هذا الموقف الذي ظلت تُذكرني به على مرّ السنين -مع شيء من الندم والشفقة على يدِي- يظل يُذكرني بقيمة القمح في حياتنا وقداسته في ثقافتنا.
المهم.. التقطتِ الرشيقةُ واحداً على عجَل، دون أن تُعيره أدنى انتباه، ليقع الآخر من شدة الضجر، ويصرخ عالياً مُحدثاً جلبة في المكان. ولأنها مشغولة ربما بصنف من المكسرات، محمص بعناية أو بطريقة خاصة لتدليل المستهلك، فليس لديها الوقت لانتشال الجريح وإسعافه، أو على الأقل إعادته إلى مكانه بين أقرانه، أو حتى بأضعف الإيمان النظر إليه، والإيماء لموظفٍ من إحدى مهامه انتشال ضحايا الكِبر وإعادة ما تبقى فيهم من كرامة، لا لن تفعل ذلك، يبدو أنها ترى في نفسها أكبر من هذا الدور، وافترضت أن يقوم به عامل وفّرت له مهاماً جديدة يعبئ بها وقته، وبالتالي أسدت له معروفاً للحفاظ على عمله. أما هي، فقد قامت بدورها ووثبت نحو محطتها التالية والتي تليها، وانتزعت مكسراتها المفضلة –ربما- لتضمها إلى مزيد من الضحايا دون اكتراث بما حدث أو سيحدث.
لا أدري لماذا يُعد الخبز مقدساً إلى هذا الحد في ثقافتها؟ أم هو شعور مبالغ فيه، نابع من طقوس قديمة علَّمنا إياها آباؤنا؟! حين كنا صغاراً نلتقط قطعة الخبز اليابسة التي سقطت سهواً على الطريق، نُقبِّلها ونضعها على الجبين عدة مرات، قد تصل إلى السبع في إحدى الروايات، وما يزد على ذلك فهو أفضل، لنضعها بشيء من الاحترام وببطئ جانباً، إما على صخرة أو في مكان نظيف، على أمل أن يأكلها طير، أو حتى مجموعة من النمل، المهم أن لا يسقط الخبز، وإن سقط سهواً تُلملمُ جراحه ويتم إسعافه على الفور.
كان المنظر مستفزاً لدرجة يقفز فيها إلى المخيلة طفل منتفخ من شدة الجوع، وكرش متبلور من التخمة. تلك المسكينة لا تشاهد الأخبار ولا تقرأ الصحف، فهي لا تعرف معنى الجوع، فقد اختلط ريجيمها القاسي بشدة الشبع، وأفقدت كثرة الملذات في فمها طعم الشكر.
غادرت العجولة المكان، وغادر معها قوتها المنتقى بعناية وفق حسابات دقيقة لأعداد (الكالوريز) المكتوبة عليها انسجاماً مع وصفات التنحيف، حفاظاً على العالم من مجاعة محتملة، لتترك الضحية لمتطوعٍ لاحظ بشاعة المشهد، فيلملم في كيس الخبز المكسور ما تبقى من كبرياء، لعله من ذلك الجيل المعايش لرحلة القمح والخبز الطويلة، ذلك الجيل المبالِغ في قدسيته لهذا المنتج. أو لعل صاحبنا قد تعلّم من جدّه أو حكماء بلدته أن سقوط الخبز من عيوننا هو انعكاس لسقوط في أخلاقنا.
- دكتوراه الفلسفة في التعليم الخاص والدامج ـ الجامعة البريطانية بدبي
- يعمل حالياً في إدارة رعاية وتأهيل أصحاب الهمم ـ وزارة تنمية المجتمع ـ دبي.
- له العديد من المؤلفات حول التقييم والتأهيل النفسي والتربوي وتشغيل الأشخاص ذوي الإعاقة.
- باحث مشارك مع مجموعة من الباحثين في جامعة الامارات العربية المتحدة للعديد من الدراسات المنشورة في مجال التربية الخاصة.
- ألقى العديد من المحاضرات والدورات وشارك في الكثير من المؤتمرات حول مواضيع مشكلات الأطفال السلوكية، وأسر الأشخاص المعاقين، والتقييم النفسي التربوي، التشغيل، التدخل المبكر.
- سكرتير تحرير مجلة عالمي الصادرة عن وزارة تنمية المجتمع في الإمارات.
- سكرتير تحرير مجلة كن صديقي للأطفال.
جوائز:
- جائزة الشارقة للعمل التطوعي 2008، 2011
- جائزة راشد للبحوث والدراسات الإنسانية 2009
- جائزة دبي للنقل المستدام 2009
- جائزة الناموس من وزارة الشؤون الاجتماعية 2010
- جائزة الأميرة هيا للتربية الخاصة 2010
- جائزة العويس للإبداع العلمي 2011