بقلم : محمد النابلسي
ربما بسبب قلة وعي السينمائيين العرب بموضوع اضطراب طيف التوحد لم أعرف أفلاماً درامية عربية كثيرة تناولت هذا الموضوع.
هناك بعض الأفلام الوثائقية العربية حول اضطراب طيف التوحد، ولكن كأفلام درامية لم أعرف إلا فيلم “التوربيني” عام 2007 وتدور أحداثه حول الشاب محسن “أحمد رزق” وهو من الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد تحدث بينه وبين شقيقه الأكبر كريم “شريف منير” العديد من المواقف من بعد وفاة والديهما ومشاكل في الميراث، وطبعاً من المعروف أن الفيلم مأخوذ عن الفيلم الأمريكي الشهير ” Rain Man”.
بالإضافة إلى ذلك هناك الفيلم المصري القصير ألبوم صور إنتاج عام 2009 وهو فيلم مصنف ضمن الأفلام القصيرة التي تسلط الضوء على الأشخاص من ذوي اضطراب طيف التوحد، تدور أحداثه حول المصور خالد “علاء عزت” وهو من الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد يعيش بمفرده مع شقيقته داليا “إيمان أيوب”، ويعتمد عليها في كل شيء بحياته، ويجيد التصوير الفوتوغرافي، وتنحصر حياته بين علاقته بداليا وكاميرته.
في المقابل ظهر الفيلم التونسي “في عينيا” والذي أنتج عام 2018 ليعمل على تقديم صورة مقربة وأكثر واقعية، عن علاقة الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد مع آبائهم، خاصة وأنه وحسب مخرج الفيلم نجيب بلقاضي الذي قال في إحدى مقابلاته الصحفية إن 50% من الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد في المجتمع التونسي يهجرهم آباؤهم، وتبقى مسؤوليتهم ملقاة على كاهل الأم، وهي إحصائية مخيفة إن صحّت في المجتمع التونسي.
على مر السنوات، قدمت السينما التونسية أعمالًا فنية مهمة ومتنوعة، وتتميز الأفلام التونسية بأنها تعالج قضايا اجتماعية وثقافية مهمة، مثل المرأة، الهجرة، الفقر، والتطرف. وفيلم ” في عينيا” قدم مجموعة من القضايا الأخرى المتعلقة بالمجتمع التونسي إلى جانب القضية الرئيسية فحكاية الفيلم تدور حول قصة “لطفي” الذي يؤدي دوره باقتدار الفنان “نضال السعدي” شاب تونسي مهاجر ويعيش في مرسيليا الفرنسية حيث حالفه الحظ هناك ليفتح متجرًا لبيع الأجهزة الإلكترونية، وهناك ينتظر لطفي برفقة زوجته الفرنسية صوفي مولودًا، لكن حادثة مأساوية حدثت لزوجته السابقة أجبرته على العودة إلى تونس ووضعته في مواجهة مع الماضي الذي هرب منه وهو ابنه يوسف الذي هجره، والطفل يوسف من الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد، والذي أدى دوره بشكل مميز الطفل “إدريس الخروبي”.
في هذا الفيلم يتم تسليط الضوء على مجموعة من المتناقضات في رؤية اضطراب طيف التوحد والتعامل معه، فالنظرة “الذكورية” التي تلقي بظلالها على تصرفات الجدة أم لطفي التي رفضت أن يعيش الطفل يوسف مع خالته التي تعيش حياة لا ترضى عنها، وفي نفس الوقت رفضت أن تعتني به لأنه “مجنون” ولا طاقة لها به. وطوال الفيلم كان هناك تعليق حول شعر الطفل يوسف الطويل كشعر البنات، ولسبب ما لم يكن لدى أحد الجرأة على قصه.
أما الأب فكان مُصراً أن يوسف يشبهه هو ولا يشبه الأطفال الآخرين من ذوي اضطراب طيف التوحد ، وكان يريده أن يلعب كرة القدم كما يلعب بقية الأطفال، حتى أنه دفع نقوداً لأطفال الحي لمشاركة يوسف عيد ميلاده، كي يمنح الأب نفسه شعور الاطمئنان بأن ولده قادر على الاندماج مع الآخرين وهو الذي لم يحدث بالطبع.
في هذا الفيلم قدم المخرج نجيب بلقاضي “سيناريو” مكتوباً بطريقة سردية بصرية، تورط المتفرج عاطفياً في أحداث الفيلم، وعلاقة أبطال الفيلم ببعضهم البعض، وتجعلك تبني تلك المواقف الواضحة والحدية، إلا عند الأب الذي يسعى طوال الوقت للتصالح مع ماضيه والعودة إلى بناء علاقة حقيقية مع ولده وفهم احتياجاته، وطرح سبل جديدة في التعامل معه، والتعاون مع أطراف كان يعتبرها بشكل أو بآخر عدوة له، مثل خالة يوسف التي انتزع منها يوسف بناء على توصية عائلته التي رفضت احتضان يوسف.
إن محاولات الأب توثيق الحياة اليومية لابنه يوسف من خلال الكاميرا، هي الفكرة الرئيسة التي تبني ذلك الرابط بين الأب وطفله، وقد استقاها المخرج كما قال في واحد من حواراته الصحفية من خلال مجموعة صور للمصوّر الفوتوغرافي الأمريكي «تيموثي ارشيبالد» التقطها ليوثّق من خلالها سلوك ابنه ذي اضطراب طيف التوحد، في محاولة منه لبناء جسور التواصل مع هذا الأخير عبر الصّورة.
وقد كان هم لطفي خلال الفيلم خلق تواصل بصري بينه وبين ولده وهو ما حققه في لقطة من خلال مصباحين صغيرين وضعهما قرب عينيه، بعد أن أبدى يوسف انبهاراً شديدًا بمصابيح كهربائية ملونّة كان قد علّقها والده في غرفته.
هذا الفيلم قدم صورة بصرية مذهلة، وقراءة واقعية لرؤية الآباء لأبنائهم من ذوي اضطراب طيف التوحد، ولم يقدم حلولاً سحرية إنما قدم نهاية مفتوحة متعددة التأويل، لكنها ترتكز على التقبل وفتح الباب لمحاولة التواصل مع أبنائنا من ذوي اضطراب طيف التوحد.
جدير بالذكر أن الفيلم تم اختياره للمشاركة في القائمة الرسمية للأفلام المشاركة في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي بعد عرضه يوم 11 نوفمبر 2018 ضمن مهرجان قرطاج السينمائي، وريع تذاكر عرضه في دور السينما التونسية تم تخصيصها بالكامل لصالح مراكز التوحد في تونس.
الفيلم يمكن مشاهدته على منصة شاهد. نت.
• كاتب أردني مقيم في الشارقة
• . مسؤول العمليات الفنية في مدينة الشارقة للخدمات الفنية
• يعمل في مجال الإعاقة والمؤسسات غير الربحية منذ أكثر من عشرين عاماً، شغوف بتعزيز حق القراءة للأشخاص من ذوي الإعاقة، وترسيخ الصورة الحقوقية عنهم في كتب الأطفال واليافعين.
• لديه العديد من المفالات منشورة في عدد من الدوريات العربية الالكترونية والورقية تحمل مراجعات نقدية للكتب، والسينما والحقوق الثقافية لللأشخاص ذوي الإعاقة.
• لديه خبرة في المسرح مع الأطفال والأشخاص من ذوي الإعاقة لديه مشاركات عديدة في مؤتمرات ثقافية ومتخصصة في مجال الكتب والمسرح.
صدر له:
• عن رواية تمر ومسالا – لليافعين عام – 2019 – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• قصة خياط الطوارئ – للأطفال عام 2020 ( تحت الطبع) – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• حاصل على المركز الأول في جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال سنة 2020 عن قصته “غول المكتبة”