في ذاك المنزل كان لأي شخص أن يفهم كيف تماسكت قبل أن تعي دور قدميها، كانت تحاول جاهدة لمس دميتها بحنان أرهقته ارتعاشة أنامل يدها اليسرى وحركات لا إرادية في يدها اليمنى تقضّ مرجعية التوازن وهي تقف على ركبتيها. حملت الدمية بأنامل تتحسس الحنان تريد أن تجود برقّة مشاعرها لدمية كأنها فرّت من الأحياء خوفا من الزحام…
قبَّلتها الطفلة كأمّ معتذرة عن تقصير في الملاطفة وحاولت تعويضه بتبذير في اللفظ كمصالحة: «آه لو تعلمين يا بنيتي كم أحبكِ!» حدّقت بعينيها فجأة لتبحث في أرجاء الغرفة عن مرادف لقولها بفعل استمدّته من ملهمتها، صمتت هنيهة لتُردف «نعم، أحبّكِ تماما كحبِّ ماما لي» وابتسمت في تقاطع من التعاطف الخيالي والتعقّل في وضعها الواقعي.
ربما لو كان ما بقلبها جسدا لنفخت فيه روح هواه، لترقص على نغم حبّها وطرب ملتقاه، نظرتها شمعة أضاءت ظلمة الأنين، وهمستها دواء بين العلّة والشفاء أحلى وسيط،أما عن عشقها فسفينة غرقت في قاع المحيط،غمرتها مياه الشوق وحرستها أسماك الحنين بلون الجنان وتخرج من أنفاسها الألفاظ شفاء للوعة كل مسكين…
كبرت الصبية وتسربلت عواطفها في برقع الجمود، كانت تستمع إلى قصص العشق بين تهكّم وبرود… تتساءل دوما: «هل الحب موجود في خضمّ الألم والسعادة؟ أم هو مجرد مفاهيم مختلفة لدى الأفراد محلاّة بزيف من الوعود؟» بين أحاديث الأصدقاء أسرار تُمْعِنُ في كتمانها، وفي شهادة البعض بأحوال العاطفة إصرار تستمع إليه بلهفة تحاول تفسيرها؛ هي التي خالت أنه لا شيء من هذا ولا ذاك يعنيها. «ما شكل هذا الشعور الذي يطوي من يكتنفه بالعزلة والميل لترجيح كفة على أخرى؟ لا بد أن يُرسَم في شكل ‘شبه منحرف’ لكن رسوم القلب والسهام على مقاعد الدراسة لم تفُتها « فلان وفلانة بين اسميهما قلب وسهم» وفجأة تبتسم؛ رتّبت أفكارها واستمعت إلى دقات قلبها المنتظمة «هيهات! لبنى عليكِ أن تكوني حذرة»، تكوّرت ذاتها كطفلة خجولة من جرأتها، وفي أعماق الوعي رسمت حدودا لتَمَوْضُعِها. في مصالحة بين الطموح والواقع أحبّت وجودها، ركّزت على الدراسة مَلَكَاتِها، ونسيت مشاعرها المنفيّة في معتقل النسيان كصبيّة…
إصرار وعزم وكفاح، أدوات تعلمت إتقان استعمالها لتجعل من التعامل معها أساطير نجاح؛ بوثبة أمل وطلقة ألم جريح وقفت مرات على عتبة اليأس لتُشَيِّدَ له بكلتا عينيها أضخم ضريح. «ربّما سيزورَكَ أعدائي يوما ما على عتبات التاريخ،أنا هنا بَنَيتُكَ بنفسي فلتكن حائط مبكَى لحسّادي» تمتمت وهي تركل عثراتها ناظرة إلى الأمام، حاملة بأفكارها شغفا للسلام لكل من يحيِّيها بكلمة تشجيع أو بابتسامة معانيها تأسر الروح ببريق صدق بديع…
نظرت إلى سقف غرفتها تلك الليلة تنشد دعاء بلون الصمت لا تعلمه إلاّ هي ومن خَلَقَها، وفي دماغها خلايا لم تتوقف عن الحركة في نسقيّة مبهمة لم تكن تعرفها ـ «ربما مجال الطبّ يوما ما سيكشفها « تمتمت بلا اكتراث، فلن تأسف على ابتلاء حلّ بها ليجعلها أميرة تحارب وحدها في معارك الأحداث؛ فما أجمل أن يعي المرء من يحبه في عزّ أزماته فيكون بإرادته حيّا بين بقيّة ضحايا اليأس من الأجداث.. «الحمد لله» خرجت عبارة من لجّ أعماقها وفي مخيلتها شخص ما افتخر بانتصاراتها ولا يزال، حتى وإن ظنت في بعض الأحيان أن لقاءه من المحال ـ مجرد ظن لا غير ـ فلا داعي للضجر أولأدنى تفكير في أي ضير.
وعلى أهداب مقلتيها حطّت فراشات الأمل من بريق خافِتٍ كان يتراءى شعاعا لو اقترب من كنهه من يهتمّ لرسالتها دون وجل لارتعشت قواه أمام مقاصدها في خجل؛ وسادة حملت وجها كالمزن قطرات دموعه كادت للمواسم تُخزَن. وفي غفلة من أمواج الحلم البسيط حمل أول إشعاع لصباح حيرتها طموحها إلى شواطئ الفعل المسترسل تماما مثل أرجاء المحيط وفي غياهب الليل الساكن لدى الآخرين يتساءل شعورها: «من يبال بجرحها؟» فتخبره في كل غد أنها لا تعلم؛ يُسائِلها: «وهل تكذب الأحلام؟» تومِئ بمقلتيها: «نعم، فأنا لا أراها» وتبتسم لبنى من جديد لأنها على يقين بأن الجرح ليس إلا معاناة يصقلها الصبر فيزخر بمحوها حب الحياة.
دمتم بصحة وصفاء صحوة