ينظر كثير من أفراد المجتمع وبعض المختصين إلى فئة المعاقين عقلياً على أنهم لا يدركون معنى الألفة والود والمحبة ويزيدون عليها أن هؤلاء قد لا يشعرون ولا يحسون بهذه المشاعر! وقد يصل الأمر ببعضهم إلى حد القول إن المعاقين أجساد تنعدم فيها روح المحبة والألفة نتيجة بعض الملاحظات على سلوكياتهم غير العادية!!
هنا أراني أقف على النقيض من هذا الرأي الجائر عن هذه الفئة فأقول إنها كنز من القيم الإنسانية الكامنة لمن عايش أفرادها بصدق وتغلغل في أعماقهم وعاش أفراحهم وأحزانهم ولا زلت أذكر تلك الوجوه الحيارى حين دلفت من بينهم إلى عمل آخر وكيف كانت تلك النظرات البريئة حين هممت بوداعهم ولم أنس حين أتيت لهم مرة أخرى كيف كان ذلك اللقاء بعد طول اشتياق.. أحسست بأنفاسهم شوقاً يعكس مكنونات أنفسهم لمن أحبوا ورأيت ذاك الحنين في عيونهم ترسمها ضحكاتهم الجميلة الممتلئة براءة وتلقائية ولا أنسى ما لا أنسى عندما ضم أحد الطلاب معلمه وهو يودعه إلى مدرسة أخرى إلى درجة أن المعلم لم يتمالك نفسه فبادل تلميذه دمعة انسالت على خده.. ومواقف أخرى كثيرة شاهدتها وعشتها مع هذه الفئة تثبت صحة ما أقول.
ما جعلني أكتب عن هذا الحنين في تلك النفوس الطيبة هو أنه ذات يوم من أيام العام الدراسي إذ بولدي فيصل يحدثني وكله ألم وبصوت فيه شجون وآهات فيقول: أبي.. اليوم قمنا بزيارة إلى برنامج التربية الفكرية الموجود في مدرسة ابن قدامة ـ وهي مدرسة جديدة ألحق فيها البرنامج ـ … ويواصل حديثه ويقول قمنا بالزيارة ومعنا زملاؤنا طلاب التربية الفكرية وحين وصلنا إلى المدرسة ودخلنا وإذ بطلاب التربية الفكرية يرون زملاءهم السابقين الذين كانوا معهم في مدرستنا حتى انتاب أغلبهم بكاء حين بدأوا السلام على بعضهم بعضاً وعلى معلميهم السابقين.. وحين انتهينا من الزيارة أصرت مجموعة من زملائهم على مرافقتنا والعودة معنا إلى مدرستهم السابقة… تلك كانت علامات تعجب طرحها ابني ليس هو فقط بل هم كُثر من يشاطرونه هذا الرأي ومن مختلف الأعمار… حين انتهى من حديثه قلت له: يا بني إنهم مثلكم تماماً… إنهم وإن فقدوا جزءاً من قدراتهم العقلية ولم يكونوا مثلكم تماماً إلا أن لهم أحاسيس ومشاعر وعواطف تلامس أحاسيس من يشعر بهم وهم يحنون على من يعايشهم ويذكرونه فلا تستغرب ذلك منهم.
حقيقة تلك المواقف في الغالب تكّون في ذاتي أبعاداً حقيقية حول هذه الفئة وقد تعكس كثيراً من النظريات النفسية التي درسناها وتبرز خفايا في ذواتهم قد تكون غائبةً عن أعيننا وقد نكون نحن محبطين من قدراتهم العقلية الدراسية والتي عممناها على باقي السمات السلوكية والشخصية والنفسية وحتى الاجتماعية المرتبطة بالقدرة على التكيف الاجتماعي بل وقد تكون هذه الفئة كما هم غير المعاقين في كافة الصفات ولكنهم يقلون عنهم درجات قليلة وليسوا فاقدين لها تماماً إلا الحالات الشديدة… لذا فإن حنينهم وشوقهم لمن أحبوه وأحبهم هو إحساس ونبع صادق من نفوس طيبة لا تعرف المداهنة والمراوغة الاجتماعية طريقاً إليها.
قبل الختام أزجي لهم:
أحنو إليكم بفؤادٍ يلفه الشوق دوماً…
كيف لي أن أنسى من احتواهم بين الضلوع…
هٌم بادروني ذاك الحنين وأحفظه لهم شوقاُ…
وهم كما نحن يعيشون الحب ويحنون للجميع…