بقلم محمد النابلسي
جاء مسلسل “دواعي السفر” عملاً درامياً هادئاً وقصيراً يكشف خفايا النفس البشرية وصراعاتها العميقة مع الوحدة والاكتئاب، والعالم الصعب الذي نعيشه. المسلسل، الذي يجمع بين الأداء الرصين للفنان الفلسطيني كامل الباشا وأداء المغني والممثل أمير عيد، يقدم حكاية تتقاطع فيها قضايا الشيخوخة والوحدة مع اضطرابات نفسية معقدة مثل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.
عندما تتشابك مسارات الحياة
تدور أحداث المسلسل حول شخصيتين محطمتين تسكنان عالمين متوازيين يلتقيان في لحظة مصيرية. القبطان إبراهيم (كامل الباشا)، رجل عجوز يعاني من الوحدة الموحشة بعد أن غادرت ابنته الوحيدة إلى أستراليا للدراسة. يعاني إبراهيم من آثار الشيخوخة والمرض، ويحاول إخفاء وحدته عن ابنته عبر خلق عوالم غير حقيقية تُشعرها بأنه يعيش حياة مليئة بالنشاط، حتى لا تعود وتترك مستقبلها من أجله.
أما علي الذي أدى دوره المغني والممثل (أمير عيد)، مخرج الإعلانات الشاب الذي يعيش حالة شديدة من الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة عقب وفاة والده المفاجئة. علي يعاني من مشاعر مختلطة من الغضب والذنب، تقوده إلى اتخاذ قرار بإنهاء حياته في منزل طفولته. لكن القدر يتدخل عندما يتعرض إبراهيم لأزمة صحية مفاجئة، ما يجبر علي على تأجيل مخططه لرعاية جاره العجوز، لتبدأ رحلة غير متوقعة يعيد فيها كل منهما اكتشاف نفسه.
يقدم المسلسل صورة صادقة ومقربة عن حالات نفسية متعددة وشديدة التعقيد، مدعومة بتجارب شخصيات العمل الدرامي. شخصية علي تعكس معاناة الاكتئاب الحاد، وهو اضطراب نفسي يصيب أكثر من 280 مليون شخص حول العالم وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. كما أن اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الذي يمر به علي يُعد واحدًا من أكثر الاضطرابات النفسية تأثيراً، حيث تشير الدراسات إلى أن حوالي 10% من الأشخاص الذين يمرون بصدمة نفسية يعانون من أعراض طويلة الأمد تؤثر على حياتهم اليومية.
أما شخصية القبطان إبراهيم، فهي تمثل معاناة الشيخوخة والوحدة التي يعاني منها الملايين حول العالم. وفقاً لتقرير نشرته الأمم المتحدة، يعاني حوالي 25% من كبار السن في العالم من مشاعر الوحدة والعزلة الاجتماعية، وهي عوامل قد تؤدي إلى تفاقم الأمراض النفسية والجسدية.، والموضوع لا يقتصر على الدول الغربية، بل أصبحنا نعيشه في مجتمعاتنا العربية، والتي تنكر دائماً أننا نخلف وراءنا كبار السن.
المسلسل يسلط الضوء أيضاً على العلاقة بين الوحدة والانتحار. تشير الإحصائيات إلى أن 800 ألف شخص ينتحرون سنويًا حول العالم، أي شخص واحد كل 40 ثانية، وغالبًا ما ترتبط هذه الحالات بمشاعر العزلة أو الاكتئاب الحاد.
ويأتي التركيز هنا على الدعم الاجتماعي الذي تقدمه مجموعة الأصدقاء المختلفة، وطرق الدعم المختلفة ومستوياته المتعددة، والتي تسهم ولا شك بتقديم الدعم للمصابين بالاضطرابات النفسية، بل التركيز على أهميته كوسيلة وقائية من الإصابة باضطرابات نفسية مختلفة.
أداء مبهر وعالم بصري هادئ
نجح كامل الباشا في تقديم شخصية القبطان إبراهيم بأداء يفيض بالهدوء والعمق، مستعرضاً رحلة رجل يحاول مواجهة أعباء الشيخوخة والوحدة بابتسامة زائفة وعزيمة مختلقة. أداؤه كان بمثابة مرآة تعكس التناقضات التي يعيشها كبار السن بين الاحتياج للخروج من عزلتهم وبين رغبتهم في عدم التسبب بعبء على أحبائهم.
أما أمير عيد، فقد أبدع في تجسيد شخصية علي، الشاب الغارق في صراعاته النفسية. يُعد أداء عيد نقطة تحول في مسيرته الفنية، حيث استطاع أن ينقل مشاعر علي المكبوتة بطريقة مؤثرة وصادقة. وربما تكون هذه الصدقية نابعة من تجاربه الشخصية، حيث صرّح عيد في مقابلات سابقة أنه استلهم بعضاً من مشاعره من مواقف شخصية مر بها.
الإخراج، بقيادة محمد ناير، أضاف بعدًا جمالياً للعمل من خلال لقطات هادئة تعكس عزلة الشخصيات وصراعاتها الداخلية. المشاهد المصورة بين زحام القاهرة وصمت الأماكن الخارجية كانت بمثابة لوحة فنية تُبرز التناقض بين العالم الخارجي الصاخب والعالم الداخلي للشخصيات.
أمل ينبعث من الوجع
“دواعي السفر” هو أكثر من مجرد عمل درامي؛ إنه رسالة إنسانية عن أهمية التواصل والدعم النفسي. يطرح المسلسل قضية العلاقات الإنسانية كعلاج فعال للآلام النفسية، سواء من خلال الصداقة أو الحب أو حتى مجرد المشاركة في الحديث.
العمل يبرز أيضاً أهمية العلاج النفسي، لكن دون التهوين من مخاطره عندما يُساء فهمه أو تطبيقه. ورغم بعض الأخطاء الفنية في تصوير جلسات العلاج الجماعي، إلا أن المسلسل نجح في طرح فكرة العلاج كوسيلة لإنقاذ الأرواح.
في النهاية، يقدم “دواعي السفر” تجربة درامية مفعمة بالإنسانية والعمق النفسي. من خلال قصص شخصياته، يدعو المشاهدين للتفكير في قيمة الحياة وكيف يمكن للروابط الإنسانية أن تكون طوق نجاة في أصعب اللحظات.
“دواعي السفر” هو أكثر من مسلسل؛ إنه مرآة تعكس ضعفنا وقوتنا، ألمنا وأملنا. يدعونا لأن نتمسك بالحياة، وأن نمنح أنفسنا وأحباءنا فرصة للشفاء والمشاركة. الحياة تستحق أن تُعاش، مهما كانت قسوتها.”
• كاتب أردني مقيم في الشارقة
• . مسؤول العمليات الفنية في مدينة الشارقة للخدمات الفنية
• يعمل في مجال الإعاقة والمؤسسات غير الربحية منذ أكثر من عشرين عاماً، شغوف بتعزيز حق القراءة للأشخاص من ذوي الإعاقة، وترسيخ الصورة الحقوقية عنهم في كتب الأطفال واليافعين.
• لديه العديد من المفالات منشورة في عدد من الدوريات العربية الالكترونية والورقية تحمل مراجعات نقدية للكتب، والسينما والحقوق الثقافية لللأشخاص ذوي الإعاقة.
• لديه خبرة في المسرح مع الأطفال والأشخاص من ذوي الإعاقة لديه مشاركات عديدة في مؤتمرات ثقافية ومتخصصة في مجال الكتب والمسرح.
صدر له:
• عن رواية تمر ومسالا – لليافعين عام – 2019 – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• قصة خياط الطوارئ – للأطفال عام 2020 ( تحت الطبع) – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• حاصل على المركز الأول في جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال سنة 2020 عن قصته “غول المكتبة”