ساهرة عبد اللطيف مصطفى، مواليد مدينة ذي قار جنوب البصرة العراقية، تحمل البكالوريوس في اللغة الانجليزية، وهي أم لأربعة أبناء، من بينهم الابنة الصغرى هبة ولديها متلازمة داون، والتي كانت المحرك الأول للأم للتحول إلى مجال الأشخاص ذوي الإعاقة بعد أن كانت مديرة مدرسة.
تتحدث السيدة ساهرة عن مختلف جوانب تجربتها كأم لطفلة معاقة، من حيث بحثها عن المعلومة ومرحلة الصدمة وتقبل الاعاقة، ومراحل العلاج والتأهيل، وكذلك تجربتها كمديرة لمركز أسسته في بيتها انطلاقاً من حاجة ابنتها لتلقي خدمات تأهيلية وتربوية تناسب حالتها، بعد أن تلقت الأم مجموعة من الدورات التدريبية المتخصصة بالأطفال الذين لديهم متلازمة داون في انجلترا ومعايشتها اليومية للبرامج المقدمة لطفلتها في مرحلتي الحضانة والروضة.
الانتقال من الصدمة إلى العلاج والتأهيل:
تقول: لم يكن لدي الحد الأدنى من الخبرة أو المعلومات حول الأشخاص ذوي الإعاقة أو ممن لديهم متلازمة داون، وعندما أعلمني الطبيب أن هبة هي طفلة لديها متلازمة داون، صب علي كل اللاءات التي تنفي قدراتها واستطاعتها ممارسة حياتها المستقبلية، الأمر الذي خلق في نفسي الاحباط والصدمة من طبيعة هذه الحالة المستعصية التي وصفها لي الطبيب، وتنقلت من طبيب إلى آخر عسى أن أجد الإجابة التي تشفي غليلي أو أجد بارقة أمل، إلا أن الفحوصات الكروموزومية أثبتت حالة هبة، وظل يساورني الأمل أن هذه الحالة عبارة عن مرض عادي ولا بد أن أبحث عن علاج له في الخارج.
بقيت الصدمة تلازمني ولا أعرف ماذا أفعل حيث لم يعطني أحد أي صورة مشرقة عن متلازمة داون، إضافة إلى أن كانوا يؤكدون أن فتحة القلب ستكون سبباً في موتها المبكر.
عشت في هذه الحالة من التخبط لمدة إحدى عشر شهراً، إلى أن سافرت إلى انجلترا مع زوجي الذي كان ينوي الدراسة هناك، وباشرت البحث عن علاج مناسب لابنتي هناك، وبعد أن انتهينا من مرحلة الفحوصات الطبية الشاملة، تم تحويلها إلى إحدى الحضانات التي تضم أولاداً من مختلف الاعاقات وغير معاقين، حيث كانت ضمن صف خاص، يشترك مع الأطفال الآخرين في بعض الأنشطة.
يوم هبة:
بعد السنة الرابعة من عمر هبة، تم تحديد موعد لاجتماع خاص، من قبل جميع الاختصاصيين الذين تعاملوا معها من حيث تطورها في مختلف الجوانب عبر المراحل السابقة ومن ثم اتخاذ قرار جماعي إلى إين سيتم تحويلها، وطبعاً كنت على رأس هذا الاجتماع وأبديت وجهة نظري ورغبتي بأن تلتحق هبة بالروضة العادية، وبالفعل فقد تم تنفيذ قراري الذي يحميه القانون البريطاني لحقوق المعاقين، وبحثت لها عن روضة قريبة من مكان سكننا فتقبلوها على الرغم أنها الطفلة الأولى التي لديها متلازمة داون عندهم.
استمرت عملية التقييم لحالتها ستة شهور متواصلة، وكان الاختصاصيون خلالها يزوروننا في البيت في مختلف الأوقات حتى يطلعوا على حالتها من مختلف الجوانب، وعندما لا تسمح حالتها المزاجية للتقييم كانوا يؤجلونه إلى وقت آخر، وقد تفاجأت كثيراً من اهتمامهم ودقتهم في الملاحظة والمتابعة والتوثيق، وأذكر أن من إحدى القضايا التي واجهتها هي عدم اعتمادها على ذاتها في استخدام الحمام، وقد أعدوا لها برنامجاً خاصاً بذلك دربوها عليه في الروضة وفي البيت، بعد فترة من الملاحظة والتقييم وتحديد المعززات المناسبة اتقنت بالفعل استخدام الحمام باستقلال.
مرحلة الالتحاق بالمدرسة:
عندما اقترب موعد عودتنا للعراق، واجهتنا مشكلة إيجاد البرامج التربوية والتأهيلية المناسبة لهبة، فهناك تفاوت كبير بين طبيعة الخدمة المقدمة في بريطانيا والعراق، لذلك نصحني الاختصاصيون بالروضة بأن أهيئها لمرحلة انتقالية قبل السفر، وذلك عن طريق إلحاقها بمدرسة للأشخاص من ذوي الإعاقة في انجلترا إلى أن تتكيف مع التعامل مع نظام المدرسة الخاص بالمعاقين، وبعد أن انتهت الفترة وعدنا إلى العراق، أحببت نقل تجربتي في التعامل مع الأطفال الذين لديهم متلازمة داون إلى بلدي، بعد أن التحقت بالعديد من الدورات وطالعت واقتنيت العديد من الكتب، وأصبحت ملمة بجوانب هذه الإعاقة، لذلك انتقلت إلى العمل من التربية والتعليم إلى وزارة العمل، لأعمل في مجال الإعاقة وأكون قريبة من طفلتي.
تأسيس مركز هبة الله:
في العام 1993 خصصت قسم من بيتنا لتعليم أطفال متلازمة داون، حيث بدأت بثلاثة أطفال إضافة إلى ابنتي، وكانت الامكانيات متواضعة، وقد حرصت على قبول الأطفال الذين لديهم متلازمة داون فقط لأنني ملمة كثيراً في هذا الجانب، ولا أريد التشتت في جوانب أخرى قد لا أحسن الخوض فيها، فآثرت تقديم خدمة متميزة في مجال واحد أفضل من خدمات عشوائية في عدة مجالات، وبدأ المركز يتطور عندي سنة بعد سنة، حيث وصل عدد الأطفال عام 1996 إلى 25 طالباً وطالبة، وسبع معلمات حرصت على تدريبهن بنفسي واختيارهن بعناية، بحيث تكون المعلمة قادرة على التعامل مع هذه الفئة ولديها الحب والميل الذاتي نحوها.
بدأنا بقبول الأطفال من عمر سنتين لأنني مؤمنة بأهمية التدخل المبكر في نجاح البرامج المقدمة، ثم قبلنا الحالات التي عمرها ست سنوات، وبعد الحرب عام 1991 كان المبنى الجديد للمركز جاهزاً إلا أنه بحاجة إلى تمويل من أجل تزويده بالمعدات والأجهزة والأثاث اللازم، فتبرعت لنا الحكومة اليابانية بذلك وافتتحنا عيادة أسنان خاصة بهؤلاء الأطفال داخل المركز، لما يعانونه من تشوهات في أسنانهم التي بحاجة لعناية خاصة ومستمرة، واستمر المركز بالتوسع إلى أن وصل عدد الأطفال حوالي 150 طفلاً وطفلة.
التأهيل المهني:
مع اتساع حجم المركز، وتغير الفئة العمرية التي نخدمها، أصبح لا بد من تقديم خدمات تواكب أعمار الطلاب الذين تخطوا السادسة عشرة، لذلك تم افتتاح القسم الخاص بالتدريب المهني عن طريق المطبخ الذي يدرب الطالبات على إعداد الوجبات الغذائية والتدبير المنزلي، إضافة إلى التدريب على مهارات الخياطة، وعمليات البيع والشراء عبر الحانوت الخاص بالمدرسة، والذي يدربهم على الاعتماد على الذات، والعمليات الحسابية الأساسية، وبجانب تقديم هذه المهارات يتم تنمية مهاراتهم اللغوية والدينية ومهارات الحاسوب.
ومؤخراً طورت السيدة ساهرة عبد اللطيف الخدمات التي تقدمها في مركز هبة الله التعليمي فركزت على أهمية الدمج باتجاه عكسي وافتتحت لهذا الغرض حضانة وروضة للأطفال غير المعاقين الذين يتلقون تعليمهم إلى جانب الأطفال من ذوي حالات متلازمة داون، وتقول إنها تحاول جهدها العمل على دمج الأشخاص المعاقين مع أقرانهم خصوصاً وأن القانون العراقي لا يسمح بدمج حالات داون في المدارس العادية، وتفيد أن هذه التجربة لاقت تهيباً في البداية من أولياء الأمور إلا أنها وجدت مع استمرارها قبولاً متزايداً لديهم بعد أن اطلعوا مباشرة على هذه التجربة.