لابد من تفعيل الرقابة للحد من التجاوزات السلبية بحق الطفل والمشاهد العربي
تعيش مجتمعاتنا العربية في دوامة التغييرات التي فرضتها المعطيات العصرية والتقنيات التكنولوجية بكامل أبعادها ومعانيها الرقمية والافتراضية بغية مواكبة عجلة التطورات الحاصلة في جميع المجالات، غير أن هذه المتغيرات تمثل في الأساس استهلاك مزمن لمنتجات وثقافات غربية ضربت بجذورها في أعماق مجتمعنا العربي في عاداته وفي معتقداته ومبادئه وقيمه، ما أحدث غلياناً وارتباكات وتناقضات أصبحت واضحة في سلوكيات الفرد الأخلاقية والاجتماعية والدينية والحياتية.
وقد أدت التطورات المتسارعة والحاصلة في مجال تدفق الإعلام الإفتراضي، إلى انحصار العالم في شبكة اتصالات واحدة ونافذة يطل من خلالها المجتمع على أبعد الحدود في العالم، كما تزايدت المنافسة بين القنوات الفضائية في استقطاب الجماهير من مختلف المراحل العمرية باستخدام مغريات العصر التي تجاوزت المعقول، وأصبحت القنوات الفضائية تعتمد في بثها التلفزيوني على سياسة الغزو التجاري والربحي لاستقطاب أكبر عدد من المشاهدين بعيدا عن مسؤولية الرقابة للقيمة المعلوماتية والمعرفية ونوعية ومحتوى الرسائل الإعلامية المرئية والتي تؤثر بشكل مباشر على المشاهد وتتحكم في توجهاته وأنماط حياته إيجابا أو سلبا.
وما يثير الجدل هو التحول الذي أحدثته أغلب القنوات العربية من خلال التوجه الذي تعتمده في البث المرئي على مختلف أشكاله والذي في الغالب يخالف تعاليم ديننا الإسلامي وتراثنا الثقافي وعاداتنا العربية الأصيلة.. ومع تفاقم النقد الموجه لهذه القنوات التي أصبحت تهدد أجيال المستقبل على وجه الخصوص تحولت إلى ظاهرة وقضية اجتماعية شغلت الكثير من المهتمين في مجال علم النفس الإجتماعي والإعلامي والتربوي نظرا لإنعكاساتها الخطيرة على سلوكيات الفرد والمجتمع وبالأخص لا الحصر على الأطفال، ويبقى المطلب الأهم هو إيجاد الحلول والقوانين التي تحد من التجاوزات السلبية بحق المشاهد الطفل العربي وضمان سياسات تحفظ هويته وإنتمائه العربي والإسلامي.
وتعتبر مرحلة الطفولة من المراحل الحرجة في تنشئة الطفل وفي تكوين شخصيته، وتأثره بالمحيط والبيئة التي يعيش فيها فهو يتعلم كيف يتعامل مع الآخرين بداية بوالديه وبتكوين الصداقات مع أقرانه وبالتعامل مع المؤثرات التي تحيط به والتي تعددت وتنوعت في عصرنا الحالي من خلال الوسائط المتعددة على اختلافها تلفزيون وكمبيوتر وانترنت وهواتف ذكية وألعاب الفيديو الإلكترونية وغيرها الكثير.
ورغم الاختلاف على تحديد المراحل العمرية للطفل تظل السنوات الست الأولى من عمره مرحلة مهمة وحرجة والتأثر خلالها ينعكس على شخصيته في المستقبل، ويعيش الطفل هذه السنوات من عمره في المنزل قبل التحاقه بالمدرسة وعادة ما يكون اتصاله في هذه الفترة منحصرا في والديه وأقرانه والبيئة المحيطة به، بمعنى أن ما يتلقاه من أفكار وعادات وتقاليد وسلوك يصله بشكل عشوائي وغير منظم أو مراقب، فإذا ما اكتسب الطفل هذه الاتجاهات والقيم يكون من الصعب تعديلها أو تغييرها في المستقبل، وفى العصر الحالي أصبح جهاز التلفاز يمثل أحد أفراد الأسرة وتأثيره أحدث تغيرات كبيرة في أنماط العادات الأسرية.
وفي هذا السياق تختلف الآراء حول نوعية البرامج التلفزيونية وآثارها السلبية على تنشئة الأطفال، ويبقى السؤال الأهم يرتكز على المعنيين بالأمر ومدى مسؤولياتهم نحو التدفقات الإعلامية المرئية في القنوات العربية والمحلية التي تستعمر عقول الأطفال لا الحصر.. وأهمية حمايتهم من الآثار السلبية التي تعود عليهم وعلى سلوكياتهم وكافة مناهج تنشئتهم وضمان تكوينهم المستقبلي ليكونوا جيلا متماسكا ومحافظا على هويته بعيدا عن التقليد الأعمى الذي يغزو مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
وقد أكدت الدراسات أن الأسرة العربية تعيش وضعا انفلاتيا في مشاهدة القنوات الفضائية التي اقتحمت البيوت دون استئذان وشاركتها في خصوصياتها وفي أدق علاقاتها الاجتماعية، وبدأت العلاقة بين أفراد الأسرة تأخذ شكلا مغايرا للمفاهيم الأسرية التقليدية فأصبحت القنوات الفضائية شريكا للأسرة والمدرسة في تربية النشء إن لم تكن هي الأولى، فهي تحدد للأسرة مواعيد تناول الطعام ومواعيد الزيارات والتواصل الاجتماعي، على سبيل المثال من أجل مباراة كرة قدم يمكن لرب الأسرة أن يلغي كل الالتزامات العائلية وكل المواعيد مع الأصدقاء، فما بالك بالأطفال الذين يقضون الساعات والساعات في التنقل بين القنوات الفضائية بلا حسيب أو رقيب ويشاهدون البرامج الغث منها والسمين وفي أيام العطل والإجازات أو في رمضان يصلون الليل بالنهار في مشاهدة البرامج والمسلسلات بصورة مذهلة لا يتركون مهلة حتى لالتقاط الأنفاس…
وأصبحت البرامج التلفزيونية تقرر للأسرة والأطفال مواعيد المذاكرة والنوم والطعام والشراب، تكفي هنا الإشارة إلى استطلاع أجري على أطفال تتراوح أعمارهم ما بين السادسة والثالثة عشرة حيث طلب من العينة الإجابة على سؤال واحد هو: "لو كنت وحيدا في جزيرة معزولة عن العالم، ماذا تأخذ معك؟" احتل التلفزيون المرتبة الأولى وفضله الأطفال حتى على الطعام والشراب!!
وفي هذا السياق قال الدكتور عمر عبد العزيز رئيس قسم البحوث والدراسات بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة: "إن من بديهيات القول إن الطفل هو المستقبل والجدير بالذكر أن في زمن تحولت فيه المتغيرات إلى أمر عاصف ومتسارع وأصبحت تؤثر على كل أفراد المجتمع لكن بحاسية خاصة على الفئات العمرية الصغيرة لأنها لم تتبلور بعد ولم تتحكم فيها القوالب الأخلاقية والدينية والإجتماعية كما هو الحال مع الفئات العمرية الكبيرة وإلى ذلك يتسم الطفل بحاسية استثنائية وقابلية استيعابية لكامل المؤثرات المحيطة به ولهذه الأسباب وجد علماء الاجتماع والنفس والتربية ملاحظات الظواهر المستجدة وآثارها السلبية على الطفل والمتمثلة في الوسائط المتعددة والموضة والتقنيات الرقمية وأنماط الغذاء الجديدة والتسميات الإجتماعية المتغيرة بالإضافة إلى العولمة ".
الأسرة المؤسسة الأولى في عملية التنشئة الإجتماعية للأطفال ثقافيا وتعليميا
وأضاف أن الوسائط المتعددة (وسائل الإعلام كافة) تعد من الظواهر السلبية التي تؤثر على الطفل والأسرة بشكل عام، حيث تتسبب في ضعف الترابط الأسري داخل البيت وإنصراف كل فرد إلى عالم خاص به وهو شكل من أشكال التوحد الطبيعي ما يسبب الإنعزال والانطواء وعدم الاختلاط بالآخرين وقلة تناول الطعام أو الإفراط في الأكل أثناء مشاهدة التلفاز والنفور من المدرسة وتأخر المستوى التعليمي.
وأكد الدكتور عبد العزيز في حديثه أن البيت المتمثل في الوالدين والأسرة، يعتبر المؤسسة الأولى والأهم في عملية التنشئة الإجتماعية للأطفال ثقافيا وتعليميا حيث يتعامل مع النشء منذ ولادته طفلا رضيعا ويستمر معه الفترة الأطول من حياته ثم تأتي المدرسة وما يماثلها من مراكز ومؤسسات ثقافية أو تربوية كالأندية والجمعيات ودور العبادة والمسجد ومراكز التوجيه والتوعية، وفي عصر الاتصال الجماهيري أصبحت وسائل الإعلام عاملا جديدا من عوامل التوجيه والتنشئة، ومع التطور التقني لوسائل الإعلام اتبع ذلك تطور نوعي وكمي في البرامج والرسائل الإعلامية لتصبح لها القدرة على الوصول إلى كل بيت تخاطب فيه الصغير والكبير من خلال مضامين واتجاهات ثقافية تحملها برامج وفق نماذج متقدمة في العرض والمخاطبة، فاستطاعت أن تستأثر بالعديد من العقول والعواطف حتى استسلم الطفل لهذا الموجه الجديد والذي أصبح في غالب الأوقات يقوم بدور الأب والمعلم والمدرسة، بل إن البالغين أيضا أصبحوا يتعاملون مع هذه الوسائل على أنها مصدر من مصادر المعلومات والتثقيف والأخبار سواء كان ذلك عن قصد أو غير قصد، وما تحمله هذه الوسائل الإعلامية في تطورها التقني والنوعي الحديث لا تخلو من قيم وموجهات تخدم فكر المرسل بهدف إحلال هذه القيم أو إزالة وزعزعة قيم وغرس أخرى أي التدخل والتأثير في عملية التنشئة الاجتماعية بوسائل غير مباشرة.
وقال: "يجدر بالذكر أن تأثير وسائل الإعلام في مجال التنشئة الاجتماعية يتفاعل مع عوامل عديدة مختلفة وفرضيات التأثيرات الإعلامية في التنشئة موجودة ويمكن أن نلمسها في المعايير والتوقعات التي يتوقعها الآباء والأمهات في سلوكيات أطفالهم، وهي تأثيرات تهدد وتعارض وتتحدى القيم الاجتماعية التي يبثها الآباء والأمهات والتربويون وغيرهم من مؤسسات الضبط الاجتماعي في الطفل، وهنا لا نغفل المسؤولية وأهمية التحكم وتحليل مضمون المواد الإعلامية ومتابعة ورقابة وتوجيه الطفل المشاهد وتفسير المضمون الإيجابي والسلبي له من خلال تنمية وتعزيز الوعي لدى الأطفال ليكونوا قادرين على اختيار وانتقاء ما يناسبهم وبالشكل الصحيح".
ومن جهته أوضح الأستاذ أسامة مرة مسؤول الإعلام في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة حجم التأثيرات السلبية للتدفق المرئي في أغلب القنوات العربية وانعكاساته على سلوكيات الطفل، وأشار في بداية حديثه إلى التأثير الديني والأخلاقي من خلال الكم المتزايد من البرامج التي تقدم مفاهيم وسلوكيات مخالفة للدين الإسلامي وترسيخ قيم وثقافات مناقضة لثقافة أمته، كما أشار أيضا إلى التأثير الأمني والنفسي المتمثل في البرامج التي تروج للعنف والجريمة بالإضافة إلى أفلام الكرتون التي تروج أغلبها للخرافة والخيال من خلال إبراز شخصيات وهمية وقال: "يجب طرح عدة تساؤلات في هذا الصدد: أين القدوة فيما تبثه القنوات التلفزيونية وأين الفكر والثقافة العربية ولماذا تحرص القنوات العربية على دبلجة وترجمة الرسائل الإعلامية الغربية ولا تنتج رسائل إعلامية تتماشى مع الثقافة العربية…؟ كلها تساؤلات تصعب الإجابة عنها في ظل حرب المتغيرات العصرية وغياب القوانين التي تفرض سياسات تتحكم في ضبط ما تبثه هذه القنوات من رسائل إعلامية أغلبها غير هادفة في التنمية الإجتماعية والأخلاقية والدينية والحياتية بمفهوم الهوية العربية.
طارق الأحمد :"القنوات المحلية والعربية أصبحت عدوا للأسرة والفرد والمجتمع
من خلال ما تبثه من رسائل إعلامية هادمة للأخلاق ومدمرة للقيم
وفي السياق نفسه تحدث السيد طارق شريف الأحمد رجل أعمال إماراتي عن المشكلات التي تحدثها التدفقات الإعلامية المرئية في سلوكيات الأطفال وفي تنشئتهم الأسرية والإجتماعية موضحا أن ما تبثه معظم القنوات المحلية – باستثناء بعض القنوات المتخصصة – أصبح لها دور في إفساد القيم والمبادئ الأخلاقية وتدني السلوكيات بشكل عام من خلال الترويج الفادح لثقافات وعادات غربية بعيدا عن هويتنا الأصيلة، وقال: "إذا تحدثنا عن التلفزيون المحلي والعربي في زمن سابق نجد أنه كان يؤدى دورا إجتماعيا كبيرا على صعيد التربية والتعليم والتوعية ونشر الثقافة والفكر الحضاري بثوابت عربية أصيلة وأيضا كان يسهم بفاعلية في تنمية قدرات الأطفال كما يساعد على تنمية مهاراتهم في التواصل وفي التعلم، غير أنه في الزمن الحالي أصبح التحكم في عقول الأطفال أمرا مستحيلا بسب القنوات المحلية والعربية التي أصبحت عدوا للأسرة والفرد والمجتمع من خلال ما تبثه من رسائل إعلامية هادمة للأخلاق ومدمرة للقيم، موضحا أنه بالرغم من تزايد شركات الإنتاج العربي بقي الإنتاج ضعيفاً في تخطيط إعلام مرئي هادف بعقلية عربية ملتزمة تهم قضايا الأمة وتراثها وعقيدتها وتاريخها الغني بمواقف البطولة والنبل والمآثر الإنسانية العلمية والحضارية والمليء بالشخصيات الخالدة التي تركت بصمات لا تحصى في تاريخ البشرية.
وأضاف قائلا: "إن قيادات الدولة هي المسؤول الأول عن هذه التجاوزات وبالتالي يجب على المعنيين بالأمر إيجاد الحلول العاجلة في هذا الشأن للحد من مشاكلها وذلك بتشكيل لجنة رقابة محلية وغير أجنبية تفرض قوانين على القنوات التلفزيونية ونخص بالذكر القنوات المحلية والحكومية، باعتبار أن الفضائيات أصبحت عالما غير محدود لكن يمكن التحكم في القنوات الداخلية وإلزامها ببث رسائل إعلامية ضمن معايير ونوعية تخدم الهوية العربية والإسلامية وتهدف إلى ترسيخ هذه القيم وليس العكس الذي نشهده مع الأسف في واقعنا الحالي".
وركز السيد طارق شريف الأحمد على أهمية ودور الوالدين في متابعة أطفالهم ومراقبة ما يشاهدونه من برامج، ودعا جميع الأولياء إلى الإهتمام بالتواصل مع أطفالهم وتوعيتهم بالإيجابيات والسلبيات التي يبثها التلفزيون، وإيجاد بدائل للأطفال في ممارسة هوايات وأنشطة تثقيفية علمية وترفيهية هادفة مع الإعتماد على مراكز تعليم القرآن الكريم والمساجد لترسيخ الثقافة والأخلاق الإسلامية لديهم، وهو الحل الأمثل للحفاظ على سلوكياتهم وضمان تنشئتهم السليمة.
الدكتور عبد الله المنيزل عميد شؤون الطلبة بجامعة الشارقة أوضح من جهته أهمية الرقابة على البرامج التلفزيونية وقال: "إن البرامج التي تبث سواء كانت خاصة بالأطفال أو تلك التي تعنى بالكبار فهي برامج تتطلب إلزاميا وجود هيئة متخصصة تشرف على تقييم ومراقبة البث التلفزيوني ومدى تأثيره السلبي على سلوكيات أفراد المجتمع وخاصة الأطفال بإعتبارهم جيل المستقبل يعتمد عليهم لبناء مجتمع سليم، ومن الواجب تقييم المحطات التلفزيونية خاصة المحطات المحلية من الناحية النفسية والسيكولوجية وانتقاء الإيجابي وحذف السلبي وتحديد نوعية البرامج القابلة للبث وغير القابلة حسب هويتنا ومبادئ مجتمعنا، وبنفس نظام الرقابة الذي يطبق على الكتاب والمعلومة المكتوبة يجب أن تكون الرقابة على المعلومة المرئية".
ودعا عميد شؤون الطلبة أولياء الأمور إلى تخصيص الوقت الكافي لأبنائهم وإتباع أسلوب الحديث والحوار معهم ومناقشتهم في كافة الأمور المحيطة بهم وتجنب مقولة (إفعل ولا تفعل) التي لا تصلح للتوجيه الصحيح.
تنشئة جيل المستقبل تندرج تحت مسؤولية الوالدين ودورهما التربوي
من خلال ما سبق ذكره نصل إلى أن دور الأسرة لا ينتهي عند وضع الطفل أمام جهاز التلفزيون، ولا أن تنتظر الأسرة من وسائل الإعلام المرئي أن تقوم بدور المربي بالنيابة عنها، وتبقى قضية الاهتمام بالطفل والحفاظ عليه من كل ما يمكن أن يكون له أثر سلبي على تنشئته يندرج تحت مسؤولية الأسرة التي تمثل الدور التربوي الفعال للوالدين، وأيضا تبقى مسؤولية المعنيين ببث الرسائل الإعلامية المرئية في وضع وسن القوانين اللازمة للحد من التجاوزات السلبية التي تؤثر على المشاهد العربي حيث أصبح الإعلام المرئي سلاحاً ذا حدين يساهم في البناء ويدمر في الوقت نفسه وهي مسؤولية الجميع في استخدامه الإيجابي الذي يتناسب مع مبادئنا العربية وديننا الحنيف وأخلاقنا السامية للحفاظ على تنشئة جيل مستقبل واعي وحضاري ومتمسك بأخلاقه وهويته وقيمه.