يشعر صبي في السادسة من عمره بالسرور حين يسمع زائرا يهنىء أباه على ترقيته أو حين يسترق السمع إلى جار يعلق على قوة أبيه وفتوته. كما تشعر فتاة في عامها الخامس بالسعادة حين تسمع احد الأقرباء يصف والدتها بالجمال والأناقة.
في كل من المثالين السابقين تبدو مشاعر الطفل ملائمة للأب أو الأم أكثر مما هي للطفل ومع ذلك فإن الطفل يتصرف كما لو أنه هو المثال الأول والأم في المثال الثاني فصبي السادسة يشعر كما لو انه هو الذي قدمت له التهنئة لا والده وفتاه الخامسة تشعر أنها هي المرأة الأنيقة والجميلة التي تحدث عنها الجيران والأقرباء.
هذه الظاهرة أي المشاركة بالنيابة في الحالات العاطفية لأولئك الذين يشعر الطفل بأنه مشابه لهم تدعى ظاهر التقمص.
وللتقمص تأثير عميق على السلوك بل يلعب دوراً هاماً في تطوير العملية الغامضة التي يتم من خلالها تحديد الذات، والنظرة السلبية للذات تنشأ إذا ما تقمص الطفل شخصية لها صفات غير مرغوب فيها وغير جذابة.
أن معظم الأطفال في سن الخامسة يواجهون حقيقة أنهم يشبهون آباءهم الذين هم من نفس جنسهم أكثر من أي شخص آخر وذلك لأنهم يشتركون معهم بالكنية ذاتها والبنية الجسمية وعدة سمات فريدة أخرى.
ولذا فان تقمص شخصية هذا الوالد تحدث للطفل بغض النظر عن مسألة كم يمكن لهذا الوالد أن يكون ذا صفات مرغوبة أو غير مرغوبة وسيئة ، فيستنتج الطفل انه هو الآخر كريه، دنيء ، عدواني ، مضطرب ، غير ذكي،غير محبوب ، إذا كان والده يتصف بهذه الصفات فكثير من البالغين التعساء الذين يعانون من اضطرابات عقلية يشعرون أنهم غير مرغوب فيهم وذلك لأنهم يعتقدون أنهم يشابهون آباءهم الذين يحملون تلك الصفة بصورة أساسية.
والمرأة المصابة بانفصام الشخصية لا تريد أن تشعر أنها باردة أو كريهة أو أنانية مثل أمها لأن تقمص شخصية الأم الذي حدث قبل عشرين عاما لا يمكن التخلص منه بسهولة.
وملفات الأطباء النفسيين المشهورين حافلة بالمشكلات السلوكية والاضطرابات العقلية التي كان من أهم أسبابها تلك الصفات المكتسبة من خلال تقمص شخصية إنسان كان ذا تأثير كبير في حياة الطفل.
ونذكر على سبيل المثال لا الحصر الصبي الذي كان يعاني من آلام في الصدر وقد اثبت الفحص الطبي انه سليم وتبين من العلاج النفسي أن الطفل يتقمص شخصية الوالد الذي يعاني من آلام في صدره.
والفتاة التي لم يسبق لها أن مرت بتجربة سيئة مع الرجال وعلى الرغم من ذلك ترفضهم لأن والدتها كانت قد مرت بتجربة قاسية مع والدها ،وهناك طفل في العاشرة من عمره يريد ترك المدرسة بعد أن كان مجتهدا وقد اتضح بعد ذلك أن والد هذا الطفل قد هجر أسرته فرغب الطفل في هجر المدرسة.
وبتفسير عملية التقمص التي تحدث أثناء مرحلة الطفولة وتأثير الطفولة وتأثير هذا التقمص على مفهوم الذات في مرحلة الرشد يمكن أن نفسر أسباب انتحار ممثلة عالمية مشهورة انتحرت وهي في أوج مجدها عندما بلغت الثانية والثلاثين من عمرها خوفا من أن تصاب بنفس المرض العقلي الذي أصيبت به والدتها وهي في مثل سنها. إن هذه التصرفات تنطلق من معتقدات تتعلق بالصفات الأساسية للشخص، تلك الصفات التي اكتسبت من خلال تقمص شخصية نموذج كان له تأثير كبير على حياة الطفل.
كيف تنشأ هذه الظاهرة الخطيرة ؟ وكيف تدعم ؟
لا يقوم الأطفال بتقمص شخصية كل أمرئ يشعرون أنهم يشابهونه ولكنهم يمكن أن يطوروا عملية التقمص الشخصي لأكثر من نموذج واحد، هناك أربع عمليات مترابطة ذات علاقة بإنشاء حالة التقمص وتدعيمها.
العملية الأولى : إدراك التماثل بين الطفل والنموذج ، فكل طفل يعتقد أنه يشارك شخصاً من الأشخاص بخصائصه الجسدية أو النفسية وبقدر ما يكون عدد الخصائص التي يعتقد انه يشاركه بها أكبر بقدر ما يكون اعتقاد الطفل بأنه مشابه للنموذج أقوى وأكثر رسوخاً ، ويزداد اعتقاد الطفل بأنه يشابه النموذج من خلال التبني الفعال وغالبا ما يكون عن طريق التقليد لسلوك النموذج وأفكاره وأدائه ولباسه. فالفتاة الصغيرة قد تتبني قيم أمها الأخلاقية أو ذوقها في الملابس أو تعاملها مع الأب، وبتبنيها ذلك تكون قد دعمت افتراضها بأنها تشبه أمها.وفي معظم الحالات فإن الصبيان تنمو لديهم عادة أشد حالات التقمص لشخصيات آباءهم في حين أن البنات يتقمصن إلى حد كبير شخصيات أمهاتهن.
العملية الثانية: ٍيحدث التقمص بين الطفل والنموذج في أي وقت يعتقد فيه الطفل انه يشبه النموذج وانه يشاركه مشاعره وعواطفه ، والواقع أن الطفل يبدو وكأنه يعتقد أن الحوادث التي تحدث لنموذجه تحدث له أيضا ، وهنا يعتقد الطفل أن الناس سيتعاملون معه كما يتعاملون مع النموذج تماماً.
العملية الثالثة: الرغبة باكتساب صفات النموذج الجذابة ، فالطفل دائماً على ثقة من أن معظم الكبار وعلى الأخص والديه هم أقوى جسدياً وأكثر كفاءة وحكمة منه وأنهم يتمتعون بحرية اختيار أكبر وفرص للمتعة والسرور أكثر مما يتوفر له هو.
كذلك فإن الطفل يريد أن يكون قادرا على السيطرة على الآخرين وأن يقاوم القسر والإكراه ويقرر أين ينام ومتى يأكل علاوة على ذلك فإن الطفل تجذبه في النموذج قدرته الجسدية ومهاراته فهو يرغب في أن يكون باستطاعته رفع الأشياء الثقيلة وقيادة السيارة والسباحة. وهكذا فإن جاذبية النموذج تقوم على أساس قوته ومقدرته وإنسانيته.
العملية الرابعة : تقليد النموذج يحاول الطفل هنا أن يتبنى المعتقدات والسلوكيات الموجودة لدى النموذج.
الرغبة اكتساب خصال النموذج
يفترض انه إذا كان هناك شخصان متشابهان بالصفات الخارجية فانه يتوجب أن يكونا متشابهين بالخصائص النفسية وبقدر ما يكون التشابه الخارجي بين الطفل والنموذج أكثر وضوحاً بقدر ما يكون توقع الطفل كبيرا لأن يكتسب الخصال النفسية الأقل مادية والأصعب ملمسا والتي يقدرها كل التقدير، قوة النموذج وتأثيره ، جاذبيته، كفاءته، فالرغبة في اكتساب هذه الصفات تدفع بالطفل لأن يقلد تصرفات النموذج وان يدعي لنفسه قيمه وحوافزه.
وبالنتيجة نستطيع أن نستخلص أن الطفل الذي يعتقد أنه يشبه شخصا آخر يحتمل كثيراً أن يمر بتجربة الأحاسيس البديلة والشعور بالنيابة بمشاعر تناسب ذلك النموذج.
فالطفل يحاول أن يتبنى خصال وخصائص النموذج كي يزيد من مقدار التشابه بينهما وبقدر ما ينجح أكثر في تقليد النموذج ، بقدر ما يصبح اعتقاده بالتشابه بينهما أقوى، ويزداد لديه احتمال المرور بتجربة الشعور بالنيابة. وهكذا فإن الرغبة في اكتساب خصال النموذج وتقليده ومحاكاته تدعم تقمص الشخصية ففي كل مرة يحاكي فيها الطفل النموذج عن طريق تبني فعل من أفعاله أو اتخاذ موقف من مواقفه يصبح إيمانه بتشابههما الجوهري أكثر رسوخاً كما يصبح أسهل بالنسبة له أن يشارك بالنيابة في مشاعر النموذج.