منذ أوائل القرن الثامن عشر تناول عدد من علماء التربية والاجتماع العالم الروحي لأولئك الناس الذين حرموا من نعمة السمع والنطق والبصر، هذا العالم المجهول بالنسبة لهم. ومن هؤلاء، العالم شارل دوليب (1712 ـ 1798) مبتكر طريقة المحاكاة في تربية المعوقين وبخاصة الصم وأول من أسس مدرسة لهم في فرنسا، وفالنتين هواي (1745 ـ 1822) الذي ابتكر طريقة تنضيد الحروف النافرة الخاصة بالمكفوفين لتقديم المساعدة لهم بالدراسة والتأهيل المهني، ولويس برايل (1809 ـ 1852) الذي مكنهم من القراءة والكتابة.
وفي هذا المجال قام العالم الروسي سوكوليانسكي بتجارب نفسية على الأشخاص المعاقين جسدياً بهدف إعدادهم تربوياً ودمجهم في محيطهم الاجتماعي كما قام بتطوير هذه التجارب وفق برامج محدودة العالم الروسي مشتشر ياكوف لتزويد الصم بالثقافة العامة والعمل على تكيفهم الاجتماعي. إن هذه التجارب لابد أن تؤدي إلى نتائج جيدة بإبعادهم عن أجواء العزلة والخوف من المجهول شريطة أن تكون بداية التربية في سن مبكرة ومستمرة،. أما في سن اليفاعة فلابد أن يفتح التأهيل المهني أمامهم مختلف مجالات العمل لتأكيد الثقة بأنفسهم وأنهم قد أصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع. آخذين بعين الاعتبار ضرورة استخدام التقنيات الخاصة بهم كالمؤلفات المكتوبة بطريقة برايل (الأحرف النافرة).
أما العالمة الفرنسية مارغريت دولارنيه (1860 ـ 1910) فقد كانت تهدف من تربيتها للطفل (الأصم الكفيف) أن تجعل من عالم الأشياء المحيطة به مألوفاً لديه وبخاصة الأشياء التي يستخدمها في حياته العملية وحثه على تعلم لغة الإشارة باعتبارها لغة التواصل مع الناس بواسطة الأشياء وهذا التواصل هو المفتاح المؤدي إلى تطوير ملكاته العقلية وتهدئة مشاعره الانفعالية.
كيف أدرك العالم؟
عنوان مذكرات أولغا سكوروكودوفا المرأة الصماء العمياء والأستاذة في معهد الأبحاث التربوية للأشخاص المعاقين في موسكو وكانت تتمتع بموهبة كبيرة جداً.
ولدت أولغا في صيف عام 1914 في قرية بيلوزيوركا في أوكرانيا وفقدت وهي طفلة حاستي السمع والبصر على إثر إصابتها بداء السحايا عام 1919، وفي العاشرة من عمرها دخلت مدرسة خاصة بالأطفال الصم في مدينة خاركوف حتى حصلت على شهادة الدراسة الثانوية وفيها استعادت القدرة على التواصل بفضل لغة تجميع الأصابع والأحرف النافرة وفق طريقة برايل، وهكذا تمكنت من نيل الشهادة الثانوية، بل والإجازة الجامعية والحصول على شهادة الدكتوراه في العلوم التربوية عام 1961 بإشراف العالم سوكوليانسكي.
إن حياة هذه المرأة الموهبة تعد بحد ذاتها مجموعة إنجازات قيمة، كانت تعيش حياة طبيعية في موسكو وحيدة تدير شؤونها بنفسها وتستقبل برحابة صدر كثيراً من الأصدقاء والمعجبين بكفاحها وإرادتها القوية التي لا تعرف المستحيل، وكانت لديها مكتبة غنية، وتسهم بنشاط في المجالات الخاصة بالصم، وحياتها مثل ونموذج لكل شخص معاق بأن لا يفقد الأمل وأن يكافح الصعاب ويتحداها.
وكانت أولغا تؤكد باستمرار أن الأشخاص المعاقين ليسوا عالة دائماً على المجتمع إذا ما أحسن تدريبهم وتأهيلهم.
وفي الثلاثينات تعرفت على عدد كبير من العلماء والأدباء (السوفييت) منهم الكاتب الكبير مكسيم غوركي الذي كتب رسالة إلى أولغا قال فيها: (أتذكرك كلما أتذكر رمزاً للطاقة والحيوية. على الرغم من كل العوائق الجسدية فإن شخصيتك يا أولغا تمثل لي رمزاً لقدرة العقل على فعل المستحيل).
أصدرت أولغا كتابها (كيف أدرك العالم وكيف أعيه) عام 1947، وحظي باهتمام بالغ في الأوساط العلمية. ويدور الكتاب المذكور حول المحاور الرئيسية التالية:
- كيف أدرك العالم: يتضمن حاسة اللمس، حاسة الشم، الاهتزازات، الاحساسات العامة، الاحساسات الخادعة والحرارية، الرحلات.
- كيف أتصور العالم: المحيط العائلي، الحيوانات، النباتات، الأعياد، القراءة، الواجبات والأعمال اليدوية.
- أولغا الشاعرة: نماذج من قصائدها.
كانت أولغا في الواقع تعي ظواهر اجتماعية عديدة، وكلما زاد احتكاكها بالناس ازدادت معرفتها بالحياة والطبيعة غنى وثراء بفضل الثقافة التي اكتسبتها والرحلات التي كانت تقوم بها. كما كانت احساساتها وأفكارها عن العالم الخارجي المحيط بها معقدة لكنها تتوضح بعمق وهدوء.
ومن المثير أنها كانت تميز رائحة المدينة من رائحة الحدائق العامة، وفي الربيع كانت تشم رائحة الأرض الرطبة والبنفسج والليلك. وعلى الرغم من أن استجاباتها للإحساسات السمعية والبصرية كانت مستحيلة لكنها تشعر تماماً بحرارة الشمس ورطوبة الظل وبرودة الماء، ومن المدهش حقاً كيف تقوم الإحساسات المنوعة مقام السمع والبصر لدى الصم والمكفوفين معاً الذين يستطيعون أن يصغوا بانتباه إلى الغناء والموسيقا لأنهم يحسون جيداً رنين الأصوات وعزف الآلات الموسيقية، إنهم لا يصغون بآذانهم بل بأيديهم.. أما أولغا فقد أصبحت قادرة على تحسس الصوت بيديها بل وتحديد الصوت الأكثر حلاوة. إن هذا لا يدعو للعجب فالاهتزازات تسري في مختلف الاتجاهات عندئذ كانت أولغا تحس بها عندما تلامس الأرض بقدميها. إنها لا تستطيع أن تعزو لحاستي اللمس والشم وحدهما قدرتها على التعرف على الأشخاص فهناك أحاسيس أخرى لها دورها أيضاً، منها ردود الفعل العضلية واستجابات الأعضاء الأخرى. إلا أن الإحساسات الخادعة كثيراً ما توقع الأصم المكفوف في مواقف حرجة لأن الوعي قد يخف إذا أصيب فجأة بألم عنيف مما يسبب ضعف الانتباه وتشتته حتى أنه لا يشعر باقتراب أحد منه ولا التعرف عليه، ولكن هذه الأمور تحدث لكثير من الذين يسمعون ويبصرون، خدعتهم عيونهم وآذانهم بالتباس الأشياء عليهم وقد لا ينجحون في التعرف على أحد الأصوات.
لقد ازدادت خبرة أولغا وثقافتها كثيراً من الرحلات التي قامت بها خارج مدينة خاركوف، فقد زارت قصر الطلائع في موسكو والمتحف التاريخي ومتحف الحيوان، قرية لوجني، لينينغراد وشاهدت بيديها روعة المقتنيات في هذه المتاحف وجمال الطبيعة والأنهار والأشجار والبحيرات.
إنني أعي العالم وأتصوره
يملك المكفوفون تصوراً حقيقياً مجسداً عن العالم الخارجي قد يضاهي ادراك المبصرين الذين يتصورون الأشياء بعيونهم بينما يصل المكفوفون إلى ذلك بأصابعهم. إن العقل والإرادة لا يمكن أن يتلاءما مع حقيقة الوجود الإنساني، لأنه لا يمكن جعل الإنسان يقلع عما يرتكبه من آثام إلا بالفهم السليم المبني على الواقع، وما أثبتته التجارب بعيداً عن الدجل والشعوذة. وترى أولغا أن نهر الحياة المتدفق يجري مستمراً سواء أدركه الإنسان أم لم يدركه وهي تحاول بكل طاقتها أن تتصور حياة الناس في المدينة وتتمثل الضجيج والأصوات الناجمة عن الاهتزازات تتخيل الناس الذين تعرفهم، وعندما تريد تصور الصوت البشري تسمع ذلك الصوت بأطراف أصابعها ويمكنها بالتالي أن تتخيل الأطفال وهم يتراكضون ضاحكين في الشوارع وتشعر بسعادة لا حد لها. وهكذا بفضل الاستعارات كانت تتصور الأشياء غير القابلة للمس وتعيها (الرعد ـ البرق). وبدون الإلمام بمبادئ الرياضيات والهندسة لا يستطيع المكفوفون تصور الأشياء وأشكالها وحجومها حتى ولا الشواطئ أو الجبال أو الأنهار..
وأخيراً يرى عالم النفس (ليونتيف) أن في مذكرات أولغا سكورو كودوفا محوران أساسيان:
- إن التطور الكامل في ذكاء أولغا قد حدد شخصيتها الفذة وسماتها الرئيسية وتمكنها من فهمها وإتقان لغة الأصابع واللغة المنطوقة.
- المعطيات النفسية والاستبطان الذاتي الذي قدمته أولغا وأظهرت بوضوح الطابع الهام للتطور العقلي عند (الأصم المكفوف).
تعد هذه المذكرات بمثابة وثيقة علمية قيمة عن الذات الإنسانية المعذبة. إن ما أنجزته أولغا عن نفسها ما هو إلا عملية استبطان ذاتي ولا يعتبر ذلك وصفاً لعملية تكوين الوعي.
ذلك غيض من فيض من هذه المذكرات الرائعة لامرأة مناضلة.
من قصائد أولغا الشاعرة
ويتساءل الناس
ويتساءل الناس من ذوي الآذان المرهفة
القادرون على تأمل ضوء القمر وشعاع الشمس
ماذا يمكن أن تقوله عن هذه الروائع
وماذا يمكن لصماء أن تسمعه من نداءاتها؟
وأنا بالعقل أرى وبالقلب أصغي
وأحلامي تجوب العالم
ترى هل يحسن المبصرون دائماً
التعبير عن الجمال والابتسام في حضرة الصفاء
وعندي محل السمع والبصر
ما شئت من عواطف
وما زال فكري المتقد المتفائل
يغمس ريشته في ألوان الحياة الزاهرة
وخير للأعمى ألف مرة
أن تمتد له يد دافئة
تعتقه من قفصه دونما شفقة مزيفة