يواجه عالمنا في الوقت الحاضر مشاكل مزدوجة بسبب الفرص المتاحة أمام الاختلافات ورفض أوجه التمييز المختلفة، فللاختلافات أهميتها في سائر الحقول ومنها الفن والأدب. ويعني الاختلاف الاستقلالية والابداع فضلا عن كونه الحافز لكل أنواع الإبداع. ماذا يعني ذلك في عالم الأدب؟ إنه يعني أولاً أن لا تقتصر معرفتنا على اللغات والآداب (ذات النطاق المحدود) إنما يتعين علينا أن نحترمها وفق طبيعتها وهو أمر يبدو ملحا في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى لأن عالمنا في طور التحول إلى قرية عالمية صغيرة.
لقد كانت السوق الحرة تمثل الاستثناء أما اليوم فقد غدت هي القاعدة لأن الفلسفة التي تقف إلى جانب السوق الحرة تؤمن بأن (البقاء للأصلح). كما بدأ يتضح لنا أن نظرية دارون لم تكن صحيحة تماما فالحياة لم تتطور بالكامل على أساس (الحرية للجميع) كما أن تطور الحياة شهد أيضا الكثير من الاختراقات.
ومع كل ذلك برز توجه من جانب القوى الكبرى والقوية للهيمنة على الأطراف الصغيرة والضعيفة. والدليل على ذلك ما نشاهده من توجهات مجنونة من جانب الكثير من الكتاب الذين يكتبون بلغات غير معروفة نحو ترجمة أعمالهم إلى اللغة الانكليزية وكأنهم يشعرون بالقصور لأن أعمالهم لم تأخذ طريقها إلى اللغة الانكليزية. وقد شرع العديد من اولئك الكتاب بالكتابة باللغة الانكليزية بشكل مباشر لتحاشي وساطة الترجمة. ومن المؤكد أن مثل تلك التوجهات يمكن أن تنجم عن اندفاعة أصيلة كي يصل الكاتب إلى أكبر قدر ممكن من القراء (أن تكون عالميا).
ترى من يغذي اللغة الأم لمثل أولئك الكتاب التي احتضنتهم منذ بداية عهد ابداعهم؟ قيل في هذا الشأن أن اللغة الانكليزية ليست لغة واحدة فحسب إنما تضم (لغات كثيرة). ورغم منطقية مثل هذا الكلام يمكننا القول إن أولئك الكتاب يعملون في الوقت ذاته على تخريب اللغة المهيمنة من الداخل وهذا أمر طيب للغاية طالما أن هناك قوة حياتية مؤازرة لمثل أولئك الكتاب لتحقيق مثل هذا التخريب، أي ما دامت هناك لغات مثل اللغة الكورية واللغة الصينية واللغة الكندية Kannada وما تضمه من ثقافة وتأريخ.
ولأن الاقتراض اللغوي والتكييف، وأحيانا التقليد الأعمى، ضروري لنمو الثقافة فإن دور الترجمة يغدو أمرا هاما فلقد بدأنا نشهد في وقتنا الحاضر الكثير من نظريات الترجمة. وفي هذا الشأن يذهب البعض إلى أن النص المترجم ينبغي أن يبدو مثل نص أصلي في اللغة التي ترجم النص إليها فيما يرى آخرون أن النص المترجم لا بد أن يحمل سمات الترجمة.
يعلّق غوته Goethe على الترجمات المعاصرة إلى اللغة الألمانية (تنطلق أعمالنا المترجمة، حتى أفضلها، من فرضية خاطئة فالمترجمون يرغبون بالترجمة من اللغة الهندية أو الاغريقية أو الانكليزية إلى اللغة الألمانية بدلا من نقل اللغة الألمانية إلى تلك اللغات. ويبدي المترجمون تبجيلا هائلا للاستخدام اللغوي المتعلق بلغتهم الأم الذي يبز كثيرا تبجيل روحية الأعمال الأدبية الأجنبية. وما يقع فيه المترجم ناجم عن سعيه الحفاظ على لغته الأم بدلا من السماح للغته بأن تتأثر إلى حد كبير باللسان الأجنبي).
غير أن غوته لم يقصد بذلك أن تفضي كل ترجمة إلى تهجين اللغة الهدف بشكل من الأشكال فقد أضاف إلى أن على (المترجم أن يوسع لغته ويعمقها من خلال الاستفادة من اللغة الأجنبية، غير أننا على العموم نعلم مدى إمكانية تحقق ذلك ومدى ترجمية أية لغة والكيفية التي تختلف بها اللغات بعضها عن البعض الاخر وخاصة في مجال اللهجات إذا أخذنا اللغة من الجانب الجاد وليس من جانبها السهل.
وقد تبنى والتر بنيامين Walter Benjamin هذه الفكرة على نحو جاد فيما بعد في مقالته الموسومة (مهمة المترجم) كما أنه يلجأ إلى مفهوم اللغة الأساسية فالترجمة من وجهة نظره يمكن ان تدفع اللغة للعودة إلى أصولها الأساسية بهدف إعادة الحيوية إليها. إن من الصعوبة بمكان وضع أية قواعد خاصة بالترجمة كما تجلى ذلك من خلال نظريات الترجمة الحديثة، وما علينا إلا أن نتقبل الحقيقة القائلة إن الترجمة لابد أن تكون متنوعة حين تكون المتغيرات الثقافية والاجتماعية كثيرة جدا فاهتمامنا يجب أن يكون بالآخر وأن سائر الترجمات يجب أن تنبع من تلك الحقيقة الجوهرية. ورغم أن ترجمة ما ربما تستند في الغالب إلى قراءة مخطوءة للنص الأصلي فإن التأثير على اللغة يمكن أن يكون كبيرا رغم كل ذلك.
غير ان الاحتكاك الثقافي يحمل في طياته أيضا آثارا سلبية فالثقافة المهيمنة يمكن أن تلتهم الثقافة الصغيرة. ويقال في هذا الصدد إن الثنائية اللغوية تمثل الخطوة الأولى نحو الانتحار (على الطريقة اليابانية) فحين يبدأ متحدثو لغة ما باستخدام لغة مهيمنة، خاصة لغة المستعمرين، فإنهم في الواقع يتعلمون لغة الهيمنة الجديدة ويصبحون ثنائيي اللغة ثم أنهم يطورون عقدة نقص حيال لغتهم الأم وبعدها يقل استخدامهم لها رويدا رويدا ويجبرون أولادهم على التحدث بلغة الأسياد الأمر الذي يؤدي إلى موت لغتهم. على أن الأمر لايقتصر على لغة الأسياد فحسب إنما يمتد إلى دينهم وطعامهم ولباسهم وغيرها من الممارسات التي تميزهم لتصبح كلها أمثلة تقتدى.
إذن عملية الترجمة من لغة مهيمنة إلى أخرى تابعة لابد أن يحمل مثل هذه (المجازفة) التي لابد من خوضها فليس ثمة سبيل آخر.
والأدب، مثل اللغة، يعمل وفق مستويات متعددة فنحن نتحدث عن اللغة الشمولية وقواعد تشومسكي الشمولية التي تمثل مظهرا محددا للإنسانية دون الاشارة إلى العرق أو العقيدة أو الثقافة. وهناك ايضا اللغات وما يتبعها من لهجات. ولايوجد ثمة من يتحدث تلك اللغة الشمولية أو أية لغة إنما يتحدث لهجة ما أو لهجة فردية idiolect. وفي إطار السياق ذاته نتحدث أيضا عن الأدب العالمي لكن لا يوجد من يكتب الأدب العالمي أو يقرؤه فنحن نكتب أو نقرأ آدابا إقليمية فحسب.
إذن ما نمط العلاقة التي تربط بين الشمولية والمحلية؟ يقول سيموس هيني Seamus Heaney إن لكل شاعر (جنسية) مزدوجة فهو مواطن في المكان الذي يعيش فيه فضلا عن كونه مواطنا للضمير. وحين يدخل المرء عالم الأدب فإنه يدخل إلى هاذين العالمين معا فليس بمقدوره أن يكون في أحدهما دون أن يكون في العالم الآخر في الوقت ذاته. والأدب في يومنا هذا مجال شديد التنافس. وإلى وقت قريب كان بمقدور المرء أن يعرف طبيعة الأدب أما اليوم فهو يعني كل شيء ولا يعني أي شيء في الوقت ذاته! ويعزى هذا الأمر في الأساس إلى تقدم (نظرية الأدب) بشكل مطرد. وغدا من المألوف في أيامنا هذه أن تباع كتب النقد الأدبي أكثر مما تباع مثيلاتها من المجاميع الشعرية الأمر الذي أذهل الكثير من الكتّاب. ولاشك أن الكثير من الشباب يعجبون كثيرا بمثل هذه النظرية أما الكتّاب المبدعون فيشعرون بالتأثر كثيرا لأن نمطا (ثانويا) و(طفيليا) تمكن من خطف الأنظار من شكل (أساسي ذي إستقلال ذاتي) مثل الشعر.
أقول إن هذا مفهوم خاطىء فالنظرية الأدبية أو النقد الأدبي، على وجه العموم، ليس بالشكل (الثانوي) أو (الطفيلي) كما أنه لا يوجد ما يمكن أن نسميه شيئا (أساسيا) أو (مستقلا ذاتيا) فيما يتعلق بالشعر أو غيره من الأجناس الابداعية التي تستقي مواضيعها من الحياة. ثم أن النقد يقترن بأفضل أشكاله بالأعمال الأدبية. مع ذلك لابد من ايضاح قضية الافتتان بالنقد: فلماذا نرى في الوقت الحاضر أن المزيد من الناس يقرؤون النقد أكثرمن قراءة الأعمال الأدبية؟ ربما يعزى السبب إلى النمط غير المباشر الذي يميز الأعمال الأدبية مما يربك قراء هذه الأعمال حيث يبدو أن تلك الأعمال لا تتحدث إليهم مباشرة لكونهم يرون جوانب الأعمال الشكلية فحسب لكنهم غير واثقين مما تحمله من معان. ثم أن القراء ينجذبون عاطفيا نحو الأعمال الابداعية لكنهم غير قادرين على التواصل معها حواريا. هذه إذن هي الفسحة التي يشغلها النقد الأدبي في سائر أشكاله لأنه هو (صوت) الأدب.
إن الاعمال الأدبية تقف في زاوية لتنظر إلى العالم على حد قول أي. أم. فورستر E. M. Forster معلقا على شعر الشاعر اليوناني الكبير كافافي Cavafy. ولا ينظر النقد الأدبي إلى العمل الابداعي بصرامة فهو يطلق الفرضيات فحسب. هنا نورد قصيدة جميلة للشاعر ريلكة Rilke عنوانها (أورفيوس – هيرميس – يوريدس) Orephe us – Hermes –Eurydice تدور حول موضوع الأسطورة الشهيرة الخاصة بفقدان أورفيوس للمرة الثانية لزوجته الحببيبة يوريدس لأنه لا ينصاع للأمر الذي صدر إليه بأن لا ينظر إليها قبل بلوغه الارض. تأخذ القصيدة جماليتها بشكل استثنائي من وصف ريلكة للسيناريو بمجمله وكأن عملية مجيء يوريدس ليست سوى العملية الابداعية ذاتها فيوريدس لا تكاد تتذكر شيئا من ماضيها وهي لم تتمكن من التعرف على زوجها لكونها ضعيفة جدا وبالغة الرقة (بدائية)! وحين التفت أورفيوس لينظر إليها تغير كل شيء أمام ناظريه، أما هي فقد عادت من حيث أتت. هناك في الواقع حزن عميق ودفين في القصيدة لم يتم تجسيده بشكل مباشر فالأدب عموما والشعر على وجه الخصوص يتصفان بمثل هذه الخاصية وأنهما أبعد ما يكونان عن التعاطي المباشر.
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.