هو أبو حامد محمد الطوسي الشافعي المعروف بالغزالي، ولد في طوس(2) وفيها تعلم دروسه الأولى في مبادئ العلوم فحفظ القرآن ونبغ في أسرار اللغة العربية ونحوها وتفقه في الدين وتبحر فيه حتى أصبح من أكابر علمائه وأفقه معاصريه وأقرانه وأعلم أهل زمانه، ألف كتباً غزيرة الفائدة متنوعة الأفكار غنية بالثمار، أهلته لألقاب سامية رفيعة بوصفه حجة الإسلام وإمام الشافعية وأمير الكتّاب والمجدد الخامس في تاريخ الإسلام ومفكريه.
لقد نشأ الغزالي (يرحمه الله) في أسرة فقيرة عانت من شظف العيش ومره وعسر ذات اليد، إلا أنه تربى في كنف والد كريم تقي لم يحل الفقر بينه وبين حب العلم والعلماء، فكان حريصاً على حضور حلقاتهم ومخالطتهم مولعاً بمجالسهم وسماعهم، ولم يكن لسانه يفتر عن الدعاء والتوسل إلى الله بأن يمن عليه بولد يريد به خيراً بتفقهه في الدين وعلو الكعب فيه، فاستجاب الله لتضرعاته بأن رزقه ولدين صالحين كريمي الخلق مفرطي الذكاء والنباهة والفهم وكان إمامنا الغزالي أحد هذين الفرقدين، لكن الموت لم يمهل هذا الوالد الحنون فغيبه في وقت مبكر من طفولة الغزالي، وكان قد أوصى به وبأخيه (أحمد) رجلاً من المتصوفة فاضلاً من خيرة أصدقائه وأهل زمانه، فكان لهما نعم الوصي والمعلم..
ولا يعرف كم سنين عدداً لبث الغزالي في حمى أستاذه ووصيه، لكنه وهو في قرابة العشرين من عمره وقد اشتد عوده تركه لينتقل من طوس إلى جرجان(3) ناشداً الاستزادة من العلم والمعرفة وكان ذلك حوالي (465 هـ = 1072 م) ثم ما لبث أن عاود حمل عصا الترحال سنة (473 هـ = 1080 م) متجهاً إلى نيسابور(4) للغرض نفسه، وكانت وقتئذٍ حاضرة إسلامية تشع بنور العلم والتمدن الإسلامي، فلازم هناك الإمام الجويني (أبو المعالي ـ عبد الملك بن عبد الله) المعروف بإمام الحرمين، وهو من كبار فقهاء الشافعية، وقف حياته للعلم والتعليم، وسرعان ما برزت آيات نبوغ الغزالي وتفوقه حتى على أستاذه، فعظم في عين معلمه (الجويني) وأقرانه، وفي ذروة التأثر والتأثير بين التلميذ والأستاذ خطفت يد المنون الأستاذ سنة (478 هـ = 1085 م) ليتغير بهذا الخطب الجلل مجرى حياة التلميذ، حيث قاده طموحه السامي إلى العلم والتعليم إلى الاتصال بوزير السلاجقة وأمين سرهم نظام الملك (ت 485 هـ = 1092 م) صاحب المدارس النظامية المشهورة (نواة الجامعات الأولى في العالم) فاحتشد لاستقباله وبالغ في إجلاله وإكرامه وأحله أرفع منزلة..
وكان أن ناظر الغزالي بحضرته مشاهير العلماء فحول العصر في العلم وثاقب الرأي والفكر فتفوق عليهم، وذاع اسمه في الديار والأمصار وشدا به كل لسان، مما حدا بنظام الملك إلى تعيينه سنة (484 هـ = 1091م) مدرساً في نظامية بغداد فأصبح من أعظم علمائها الذين يشار لهم بالبنان، وجلس فيها مدرساً للعلم متوسلاً بالتعليم والفتيا والتأليف لنشره وايصاله إلى رغابه في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه.. وفي هذه الفترة من حياته ـ والتي دامت أربع سنوات ـ ألف أهم كتبه وأدومها آراء في الفقه.. ليعزف بعدها عن التدريس لأسباب غير محددة ـ لا يتسع المقام هنا لذكرها ـ لكنه بالتأكيد دخل في أزمة نفسية (تصوفية) تكلم عنها بنفسه في كتابه الأثير، المنقذ من الضلال، فكان همه الأول فيها اشتغاله بالعلم والعمل الأقرب إلى الله والآخرة.. وازداد زهده في المناصب وعلو الجاه واللقب، وجاء هذا التحول في مجرى حياته في الوقت الذي أخذ فيه الناس يشدون إليه الرحال ويضربون به الأمثال.
في هذا الجو النفسي العاصف بدأ مشوار حياته الجديد سنة (488 هـ = 1095م) حاجاً إلى بيت الله الحرام، ومتنقلاً بين المدينة المنورة، والقدس الشريف ودمشق الشام، مجاوراً ومعتكفاً في مساجدها، وفي دمشق وفي جامعها الأموي التاريخي ألف كتابه الأشهر: «إحياء علوم الدين» الذي يعد من أجل ابداعاته العلمية في تاريخ الفكر الإسلامي.. ويرجح بعض الكتاب والمترجمين لسيرته أنه عرج إلى مصر أيضاً وأقام بالإسكندرية ردحاً من الزمن حيث كان في نيته ركوب البحر إلى بلاد المغرب العربي على أمل اللقاء بالأمير يوسف بن تاشفين (ت 500 هـ = 1106 م) صاحب مراكش وأعظم سلاطين المرابطين، لما عرف عنه من عدل وتسامح وبطولة في مجاهدة أعداء المسلمين في الأندلس، ولكن وفاة الأمير المفاجئة حالت دون تحقيق اللقاء المنشود.. فعاد أدراجه جوّاباً هائماً على وجهه يجول في الآفاق ويجاهد النفس ويحمل عليها أكثر من طاقتها ووسعها في العبادات والطاعات تضرعاً وخيفة وتقرباً إلى الله وطمعاً برضاه، وظل على حالته هذه ما يقرب من عشر سنوات، حيث قرر الأوبة إلى وطنه طوس حوالي (500 هـ = 1106م) لينكب مرة أخرى على التأليف فصنف الكتب النافعة في كل فن ومشرب ومطلب، ثم ما لبث ـ تحت الحاح العلماء وكبار رجال الدولة وعلية القوم المستنيرين ـ أن عاد للتدريس العام في نظامية نيسابور، لكن إلى حين، حيث ما لبث أن ترك نيسابور ونظاميتها وقفل راجعاً إلى مسقط رأسه مدينة طوس، ليقضي بقية عمره مشتغلاً بين التدريس والوعظ وعمل الخير ومجالسة أصحاب القلوب النقية النابضة بحب الله ورسوله وتلاوة القرآن ودراسة الحديث وإدامة الصلاة والنهوض بسائر العبادات، ضارباً أروع المثل بنقاء سريرته وطهر ذيله ونظافة يده وصادق ورعه وتقواه واستمر على هذه الحال زاهداً متبتلاً متأملاً حتى لقي وجه ربه وهو في الخامسة والخمسين من العمر.. ولم يخلف من الذرية إلا البنات، وقد رزقه الله بولد واحد توفاه الله صغيراً، وكان اسمه حامداً، ومن هنا جاءت كنية الغزالي بأبي حامد.
من المعروف أن الغزالي نشأ أولاً نشأة صوفية (صوفية أهل زمانه) ثم انتقل على مهل إلى دراسة الفقه والكلام والفلسفة والمنطق والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر وعلم الاجتماع وعلم الأخلاق وعلم النفس والتصوف… الخ. وقد وشت مؤلفاته الكثيرة بتضلعه فيها ومن ثم بمراحل تطور حياته الفكرية وتجاربه الغنية المتنوعة.. ومن الصعب هنا أن نحصر مؤلفات الغزالي التي تربو على ثلاثمائة مؤلف منها ما حقق ونشر ومنها ما زال مخطوطاً، إلا أنه يمكن أن نشير بإيجاز إلى أهم مؤلفاته القيمة الخالدة وتتمثل في كتبه الأربعة المعتبرة التالية:
- المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، وهو عبارة عن عصارة تجاربه حيث وضعه في سنواته الأخيرة، ضمنه قصة حياته الفكرية واعترافاته وما مر به من أزمة نفسية وصراع بين العقل والنفس، والكتاب إلى جانب كونه شاهداً على الحياة في عصر الغزالي، يعد مصدراً قيماً للمهتمين بهذه الحقبة الزمنية من تاريخ أمتنا العام، فضلاً عن كونه ترجمة أمينة لحياة الغزالي النفسية بقلمه..
- احياء علوم الدين، يحتوي هذا الكتاب على أهم آراء الغزالي في الأخلاق والتربية ويعالج بشمولية جميع العلوم الشرعية والاجتماعية التي يحتاجها المسلم في حياته الدينية، وعلى مختلف الصعد، ويكفي هذا العمل وصاحبه فخراً، أنه ما زال إلى يومنا الحاضر أكثر كتب الأخلاق الإسلامية انتشاراً في ديار الإسلام والمعمورة، وهو بحق موسوعة شاملة في علوم الدنيا والآخرة جديرة بالاقتناء وأن تتوارثها الأجيال..
- تهافت الفلاسفة، يوضح الغزالي في هذا الكتاب أخطاء الفلاسفة وينقض تعاليمهم الفلسفية يفند حججهم، ويبين فيه بصراحة ووضوح ما هو مخالف للإسلام، فأبطل زخرف قولهم وزيف أفكارهم في مسائل عدة، فقصم بحججه المفحمة ظهورهم وزلزل الأرض تحت أقدام الفلسفة اليونانية والمؤمنين بها من فلاسفة المشرق الإسلامي، بالجملة لم تقم للفلسفة اليونانية في العالم الإسلامي بخاصة بعد هذا الكتاب قائمة..
- رسالة بعنوان: أيها الولد، وهي عبارة عن رد على سؤال من أحد تلامذته طلب فيه توضيحاً لبعض المسائل في التربية والتعليم والنصح فيهما، فجاء رده زاهياً بأسمى المبادئ الخلقية والدينية والاجتماعية، ويلاحظ أن الغزالي في رده النصيحة لتلميذه قدم الأخلاق على العقيدة، بتأكيده على ان اكتساب الفضيلة لا يأتي إلا عن طريق مكارم الأخلاق والعلم وعلى رأسهما الفضيلة التي تسعده في دنياه وتدنيه من عالم الله فينال السعادة في آخرته أيضاً.. كما يؤكد الغزالي أن من أهم أهداف التربية والتعليم هو بلوغ مرضاة الله تحقيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من ازداد علماً ولم يزد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً» ونستشف هذا البعد الأخلاقي في أفكار الغزالي التربوية في هذه الجملة من جوامع الكلم التي تجسد فحوى رسالته النصيحة إلى تلميذه في الشكل والمضمون: «أيها الولد… من جملة ما نصح به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته قوله: «علامة إعراض الله تعالى عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه، وأن امرءاً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له من العبادة، لجدير أن تطول عليه حسرته، ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار». أيها الولد، النصيحة سهلة والمشكل قبولها، لأنها في مذاق متبعي الهوى مرة.. أيها الولد، لا تكن من الأعمال مفلساً، ولا من الأحوال خالياً، وتيقن أن العلم المجرد لا يأخذ باليد.. ولو قرأت العلم مئة سنة، وجمعت ألف كتاب، لا تكون مستعداً لرحمة الله إلا بالعمل.. أيها الولد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.. أيها الولد، العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون».
هذه شخصية الغزالي الكبيرة (يرحمه الله) التي احتلت انصع الصفحات بياضاً في تاريخ الفكر الإسلامي بخاصة والإنساني بعامة، وستبقى ردوده المفحمة على الفرق الإسلامية وبعض رجال العلم أصحاب المفهوم المتحجر للدين ومناهضته للفلسفة الإلحادية نبراساً يستضاء به في دياجير عتمتنا، وقدوة نتمثلها، وسنة ننسج من خيوطها التي لا تبلى فكرنا الإسلامي الوضاء المتجدد المتفق مع جوهر الدين الصحيح وعالميته، رحم الله حجة الإسلام الإمام الغزالي وأظله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
ومن طلب العلا من غير كد
سيدركها إذا شاب الغراب
الهوامش
- نسبة إلى قرية غزالة (من قرى طوس) بتخفيف حرف الزاي وفتحه، وقد تكون بالتشديد، فيسمى الغزالي، نسبة إلى الغزّال (عامل الغزل) وهي مهنة غزل الصوف التي عمل بها والده صانعاً وبائعاً، لكن الغزالي بتخفيف الزاي وفتحها الأرجح والأشهر.. للمزيد من المعلومات عن حياة الإمام الغزالي راجع: أحمد الشرباصي، الغزالي والتصوف الإسلامي، دار الهلال، القاهرة، د. ت؛ محمد البهي، الغزالي، مكتبة وهبة، القاهرة، 1981؛ محمد إبراهيم الفيومي، الإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالعقل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986؛ محمد عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ط 3، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر ومنشورات عويدات بيروت، 1983؛ عبد الكريم عثمان، معالم الثقافة الإسلامية، ط 11، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1984.
- مدينة في خراسان تعرف قديماً باسم طابران، فتحها العرب المسلمون (29 هـ = 649 م) ودمرها المغول (782 هـ = 1389 م) فيها قبر الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد، وتتقاسمها اليوم إيران (نيسابور) وافغانستان (هراة وبلخ) وتركمانستان (مرو).
- قاعدة إقليم جرجان التي حملت اسمه، ويقع في ايران جنوب شرقي بحر قزوين، وفتح العرب المسلمون الاقليم على يد يزيد بن المهلب (98 هـ = 716 م).
- أو نيشابور، عاصمة خراسان، من أعظم المدن الإسلامية في العصور الوسطى مع بلخ وهراة ومرو، راجع هامش 2.
الرتبة العلمية: أستاذ
التخصص العام: تاريخ
التخصص الدقيق: حديث ومعاصر
الجنسيـــة: أردني
تاريخ ومكان الميلاد: حيفا (السنديانة) فلسطين 1944
الحالة الاجتماعية: متزوج، عدد الأبناء ستة
<العنوان :=””>جامعة البتراء، ص.ب 961343، كلية الآداب والعلوم،
قسم اللغة العربية، عمان 11196، الأردن
المؤهلات الدراسية (الأحدث فالأقدم):
ـ دكتوراه (الفلسفة) في الآداب، تاريخ حديث ومعاصر 1983، جامعة مانشستر، قسم الدراسات الشرقية، جامعة مانشستر، مانشستر، بريطانيا
ـ دبلوم الدراسات العليا في الدراسات العربية والإسلامية (السنة التمهيدية للماجستير مقررات) تخصص تاريخ إسلامي، جامعة بيروت العربية، كلية الآداب، جامعة بيروت العربية، بيروت، لبنان 1979
ـ الدبلوم العام في التربية، جامعة بيروت العربية، كلية الآداب، جامعة بيروت العربية، بيروت، لبنان 1975
ـ ليسانس آداب في التاريخ، جامعة بيروت العربية، كلية الآداب، قسم التاريخ، جامعة بيروت العربية، بيروت، لبنان 1974.
عنوان رسالة الدكتوراه
The Development of Reform Concepts in Nineteenth – Century Egypt with Special Emphasis on Shaykh Muhammad Abduh and His Group
«تطور مفهوم الإصلاح في مصر في القرن التاسع عشر مع التركيز على دور الشيخ محمد عبده وأنصاره»
التدرج الوظيفي (الأحدث فالأقدم):
أستاذ (غير متفرغ) في جامعة البتراء الخاصة، عمان، المملكة الأردنية الهاشمية من 5 اكتوبر / تشرين أول 2008 حتى الآن
أستاذ في جامعة الملك فيصل، كلية التربية، قسم الدراسات الاجتماعية، الأحساء (السعودية) من 1 اكتوبر / تشرين أول 2003 إلى 16 سبتمبر / أيلول 2007.
أستاذ مشارك في جامعة الملك فيصل، كلية التربية، قسم الدراسات الاجتماعية، الأحساء (السعودية) 8 أغسطس / آب 1995 إلى 1 اكتوبر / تشرين أول 2003.
أستاذ مساعد في جامعة الملك فيصل، كلية التربية، قسم الدراسات الاجتماعية، الأحساء (السعودية) من 19 أغسطس / آب 1984 إلى 8 أغسطس / آب 1995.
أستاذ مساعد في جامعة قسنطينة، كلية الآداب، قسم التاريخ، قسنطينة (الجزائر) العام الجامعي 1983/ 1984