هذه الأوراق جزء من حياة هيفاء تقدمها لكم كذكرى كانت في وقتها ألماً ومعاناة.. ولكنها مع الأيام أصبحت مواقف تشد من أزرها وتقوي من عزيمتها ودافعاً للعطاء.. من خلال استرجاع الذكريات تحمد الله أنها جاهدت وصبرت حتى وصلت إلى الاستقلالية.. وعادت إلى حياتها.. غير آسفة على ما مضى ومصممة على أن تعيش حياتها..
خرجت الممرضة من غرفتها كآخر مرة في المناوبة الليلية.. هي آخر ليلة لها تقضيها في سريرها بغرفتها الخاصة في المستشفى.. الحمد لله أيام عصيبة بعد حادث السير الذي تعرضت له.. قال الأطباء إنها نموذج للمريض المثالي الذي يؤمن بالقضاء والقدر واستمرارية الحياة.. هم يقولون إنها مثالية وهي تؤمن بذلك.. فلا وقت للبكاء واليأس.. لقد أكملت علاجها الطبيعي وتأهلت للعودة إلى المجتمع والحياة.. وها هي يدها وقلبها بانتظار الغد.. أجمل الأيام هو اليوم الذي لم نعشه بعد وغداً هو الحلم.
صدى هذه الكلمات يتردد في عقلها.. ولا تريد لسواها أن يحتل ولو جزءاً بسيطاً من تفكيرها.. غداً ستعود إلى المنزل. ابتسمت هيفاء لأنها لم تعد صاحبة الصفة من خلال جلستها على الكرسي المتحرك.. انكمش طولها.. وماذا في ذلك؟.. هي عموماً يظهر من جلوسها أنها هيفاء طويلة.
غداً سيكون يوماً مميزاً.. سأعود إلى بيتي.. لقد اشتقت لكل ركن فيه وانتظر الغد حتى أطوع كل مكان فيه حسب حركتي الجديدة. سوف استغل جزءاً من السلم وانثني على المنحدر حتى أضمن دخولي وخروجي بحرية في أي وقت وزمن.. سوف أعيد ترتيب المقاعد في المنزل بحيث لا تسبب لي مشاكل أثناء منافسة كرسيي المتحرك لها في المنزل.. فهو صاحب الأفضلية لأنه المتحرك وهم الجامدون.. سوف أعيد ترتيب غرفتي، فسريري يجب أن يكون بارتفاع معين يوازي ارتفاع الكرسي.. خزانة ملابسي ترتب حتى تصل يدي لكل ما تريد بدون مساعدة.. أخطط لأن يكون السرير بجانب النافذة لأنها انعكاس للطبيعة والعالم الخارجي، يجب أن يكون سريري مقابل لجهاز التلفاز.. على العموم يجب ترتيب الأثاث بحيث يكون وسط الغرفة خالياً.
الحمام القريب من غرفتي لا بد له من نظرة.. هناك أمور يجب مراعاتها فيه؛ في طريقي من غرفتي إلى غرفة الاستقبال يجب ألا انزعج عندما أسمع همسات والدتي للزائرين بأن لا يسرفوا في الأسى والحسرة عليّ.. لا يجب أن أسمع فقط إنما عليّ تجاذب الحديث معهم.. وتجاوز الكلمات المحرجة.. عليّ أن أمحو أساهم.. وألمهم وأسفهم عليّ، واجبي أن أنتزع اطمئنانهم عليّ وأجني دعواتهم لي بالعافية.. عليّ أن أحول دمعة الأسى المتحجرة إلى دمعة ابتسامة وحمد لأن نفسيتي طيبة وأنا معهم.. فأنا لست الباكية المنكسرة إنما أنا القوية، في حالة ملاحظتي لسؤال محرج يدور بين طيات كلماتهم عليّ أن أقدم ردي بطريقة تجنبهم الاحراج وتوضح لهم أن عالمي لما ينتهي بعد، عليّ أن أعوّد أصدقائي أنني لا أخجل من نفسي ومن الخروج معهم.. وأن علي ضروريات لابد أن أقوم بها شخصياً.. لن أفكر في العمل الآن فأمامي وقت طويل للتفكير في ذلك.. أمامي إجازة يجب أن أعيد ترتيب نفسي حسب وضعي الجديد.
متى تنقضي هذه الساعات.. صبراً.. فقد وجدت نفسك هنا بعد حادث السير وكان قدرك الشلل وعشت أياماً قاسية تغلبت فيها نظرياً وفي مكان محدود على وضعك الجديد.
صحيح أن النظر إلى قدمك الساكنة يفرض عليك الألم واليأس لكن هناك البديل الكرسي المتحرك.. إنه كفكرة مؤلم ومزعج.. لكنه الحل للاستقلالية وللابتعاد عن هذا الجو المشبع بالعناية الطبية والمرض.. وزيارات الأطباء.. بديل مميز فهو السبيل للاستمرار.
غداً يا أمي أكون معك.. سوف تكونين أنت طبيبي وممرضتي وقدرتي على الاستمرار.. أعلم أن الغد ينتظره الكثيرون.. لكننا أنا وأنت انتظارنا مختلف لأنه تحد وإرادة.. أهلاً بك يا أجمل الأيام والذي لم نعشه بعد..