(كُتبت هذه المقالة منذ سنوات والآن انشرها وأسأل الله أن يستفيد منها المهتمون بالقضية فقد عبرت عنها بثوب أدبي يخاطب المشاعر والأحاسيس).
تعتبر القصة القصيرة فناً راقياً من فنون الأدب حيث يجد الكاتب نفسه يسرد أحداثاً ومواقفاً منها الواقعي ومنها الخيالي، كما أن كتابتها أسهل من كتابة الشعر، لأنها لا تلتزم لا بوزن ولا بقافية، لكنها تحتاج إلى خيال وقدرة على التصوير.
إن كاتب القصة القصيرة يعيش برفقة الورقة والقلم، يكتب ويعبر عن أحاسيسه بأحلى نغم، تارة بين الفرح وطوراً بين الألم، لا اْحد يدري بما يدور في خاطره إلا بعد الانتهاء من خط سطوره الأخيرة، يعيش منغلقاً على نفسه لا يهمه سوى الأحاسيس والأفكار والأحداث والنهايات التي يريد أن يخرجها لعالم القراء.
ولو عدنا بالذاكرة الى ماضينا الجميل لوجدنا أننا كنا حتى وقت قريب نقرأ الشخصية القصصية فنجدها صدى لكاتبها، إذ أن ]ثمة علاقة تشبه التوحد بين المبدع وشخصياته القصصية، وهذا التوحد وإن كان يلقي الضوء على المبدع وفكره، إلا أنه يحول بين الشخصية وممارسة تصرفاتها الطبيعية[، وفق الدوافع والأجواء التي وجدت فيها، وعندما يطـل المبدع بفكره من خلال شخصياته القصصية، فإن هـذا يكرس النمطية التي تتكرر بشكل أو بآخر، وتلقي بظلالها على ما يأتي بعدها، من هنا نبدأ الحديث وقد يعتقد البعض أنني أقصد بالتوحد مصطلحات ومعاني فرويد وأنسجة الفلاسفة إلا أنني أتحدث عن عالم التوحد الذي يشغل بال الأطباء والتربويين، ولن أطيل الحديث فخير الكلام ما قل ودل.
التوحد: هو اضطراب نفسي اجتماعي يشمل مجموعة من جوانب الشخصية على شكل انشغال الطفل لساعات متتالية باهتمامات ونشاطات لا يمل تكرارها، يؤديها بطريقة روتينية وكأنه يمارس طقوساً هامة لا يحيد عنها، كأن يجلس على أرضية الغرفة، لا يخرج عن تمركزه حول ذاته، لا يتعاطف مع غيره، ومن هنا جاءت تسميته بـ (الطفل الذاتوي)، و(التوحدي) لتوحده مع نفسه دون التوحد النفسي مع نموذج بشري كالأب أو كالأخ الأكبر بعكس ما يفعله الأطفال العاديون، إضافة إلى الانعزال عن العالم واللجوء الى ظاهرة رجع الصدى وتكرار الأصوات ومن هنا اْنطلق إلى تجربتي مع التوحد في ظلال الأدب ومعانيه الجميلة التي تهذب النفوس وترتقي بالعقول.
عندما تركت العمل في إحدى المراكز الخاصة بالإعاقة بمدينة القاهرة وتسلمت عملي في مجال التربية والتعليم بشمال سيناء لم يكن سهلاً اْن أنسى شخصياتهم وسماتهم الطريفة ، لم أنس يوماً كنا نلعب سوياً، لكنني كنت ألتقي بهم دائماً من خلال الكتب والمجلات العلمية المتخصصة بالإعاقة. ذات يوم، وسط الهدوء في مدينة رفح المصرية بعد صلاة الفجر كنت جالساً أطالع ما هو مكتوب عنهم فوقعت عيناي على مجلة علمية ثقافية متخصصة بشؤون الأشخاص من ذوي الإعاقة فبدأت أكتب لها أخباراً ومقالات، لكن الأمر تطور معهم وبدأت اْنسج خيوطاً أدبية من حصيلة ما قرأت فكانت البداية ب (أنشودة التوحد) والتي عزفت فيها أناشيدي وغنيت فيها لفتاة جميلة تأملت بها الخير. أنشودة التوحد عبير الحب والصفاء ونقاء القلوب، أنشودة التوحد عبارات الحب الجميلة لفتاة عشقت الصمت والابتعاد عن الآخرين، أنشودة التوحد عبارات وحركات الأمل نحو عروسة احترفت التأرجح، كانت بأنوثتها الرقيقة تخاطب قلب إنسان بسيط جاء لحل مشكلة زواجه مع اْحد الأطباء النفسيين، عنصر الوقت بالمركز ساهم في خدمة هذا الرجل المسكين الذي يحلم بفتاة جميلة وديعة على خلق، يقتطف لها الزهور ويكتب اسمها الجميل على جدران الحديقة، كان هذا تقدماً ملحوظاً في حالة (مرح) ذات التوحد.
فجأة يتقدم الطبيب ليصدمه بالحقيقة والألم وكاْن شيئاً لم يكن، من هنا يتوحد الكلام لأن كاتب القصة القصيرة في مجال الإعاقات ربما يجب أن يكون متخصصاً في هذا المجال قبل أن يتوجه بأحاسيسه حتى لا يظلم هذه الفئة بما يكتب لأن القصة القصيرة تمثل تكراراً لصدى الكاتب وهنا نقطة التشابه بين التكرار في صدى الكلام عند الطرفين المريض والمعالج إلا ان المعالج هنا هو رجل وورقة وقلم وسطور تنسج عن أحاسيس هذه الفئة من ذوي الإعاقة، ومن خلال عملي مع أطفال التوحد سابقاً تمكنت من نسج تجربة بسيطة عن القصة القصيرة وحياة أطفال التوحد. تتلخص هذه التجربة في أن التعبير عن مشاعرهم ليس سرداً بحبر أسود على ورقة بيضاء وإنما يجب أن يعيش الكاتب معهم، يأكل ويشرب معهم بل ربما يحاول أن يمارس أنشطة اجتماعية كالرحلات والزيارات معهم، ومما يدعم صدق تجربتي هو ما ساقه الكاتب العربي الدكتور / ياسر الفهد من المملكة العربية السعودية في كتاباته عن التوحد حيث كان السبب في نجاح وصفه الأدبي لحالات التوحد معايشته باستمرار لولده التوحدي.
يصف البعض التوحد بأنه (طيف التوحد) وليس مرض التوحد ومن هنا فالتعبير عن إعاقة التوحد يجب أن يكون بسمات أدبية تجمع بين الحس المرهف والفكاهة والمرح والتأصيل العلمي لما يكتب ، كما أن الكاتب في معالجته الأدبية وسرده القصصي في كلامه عن الإعاقة يجب أن يحاول عرض المعلومة للناس بأبسط ما يمكن فلا يتصورن نفسه على اْنه عالم في قاعة محاضرات بل يجب أن يعتبر نفسه عضواً ضمن جماعة يحاول أن يشرح لهم بأسهل الطرق الفنية أثناء المعالجة حتى يجذب الآخرين للتواصل مع الموضوع. كما يجب على الكاتب لفن القصة القصيرة أن يحاول عيش اللحظات التي يمر بها هؤلاء الأطفال من حيث عدم المقدرة على التواصل الاجتماعي والرغبة في العيش في الروتين وتكرار الكلمات وكون قسم منهم من ذوي الإعاقة الذهنية، وربما يبكي كاتب القصة أثناء كتابته للقصة وعند نهاية القصة حتى يحبرها بألوان لا تنطفئ ويشعر بصدق ما يكتب.