إذا كنا نجد في كل المجتمعات الإنسانية أطفالاً يعانون من الصمم فقد كان ينظر إليهم فيما مضى بطريقة سلبية وأنه يجب إيداعهم في السجون والمصحات وأنهم غير قادرين على التفكير أو العمل وهذا ما جعلهم موضع سخرية واستهزاء وأدى بهم إلى التقوقع حول الذات وعدم الثقة بأنفسهم وبالآخرين، كنتيجة لهذه المواقف السلبية من قبل المجتمع تجاههم.
غير أنه مع تطور المجتمعات وبروز الأفكار التربوية الحديثة بدأت النظرة نحو الأشخاص الصم تتغير وبدأت المجتمعات تبدل مواقفها وفلسفتها التربوية تجاههم وتعترف بالظلم الكبير الذي لحق بهم قديماً نتيجة سيادة الأفكار السلبية والجهل التربوي الذي كان مستحكماً في تلك الفترات.
التربية الحديثة اليوم تعتبر الأصم إنساناً كاملاً من كافة النواحي الجسدية والنفسية والعقلية وإن حرم من حاسة السمع لسبب ما، وهي تهتم بتنمية شخصيته وتوجيه سلوكه بالتعاون مع الأسر وبقية فئات المجتمع وشرائحه وقد برهنت على حجم القدرات الكبيرة الكامنة التي يتمتع بها هؤلاء الأشخاص في جميع مناحي الحياة العلمية والفنية والرياضية وغيرها، كما بدأت العمل على تفهم ميولهم ودوافعهم وقدراتهم و تنميتها من خلال جميع وسائل النشاط المتاحة وجميع وسائل الخبرة التي تعتبر السبب الرئيسي للنمو السليم والمتوازن.
وانطلاقاً من ذلك صار من الواجب على المؤسسات الخاصة والعامة أن تسعى للتعرف إلى ميول الأشخاص الصم وقدراتهم وإمكاناتهم الكبيرة وتعمل على استثمارها وتوجيهها، وقد كانت النتائج باهرة حيث أثبت الصم أنفسهم في كل موقع ومكان وبرزوا في العلوم والفنون والآداب واللغات والرياضيات، وعبروا عن ذواتهم تعبيراً ابتكارياً كشف قدراتهم ومواهبهم الكامنة وفجر طاقاتهم الحبيسة وصار بإمكانهم اليوم وهم يواجهون القرن الحادي والعشرين أن يديروا مؤسساتهم بأنفسهم ويشتركوا في برمجة مناهجهم وتخطيط حياتهم ويبدوا آراءهم في جميع قضايا وطنهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهذا حق طبيعي ومشروع لهم كان ـ وللأسف ـ مصادراً منهم لزمن طويل ـ وللأسف مرة أخرى ـ لا يزال ينظر إليهم في بعض الثقافات والأماكن والدول ـ حتى يومنا هذا ـ على أنهم أقل حظاً من السامعين من الناحية العقلية.
وما شهدته شخصياً من الإمكانات الكبيرة عند هؤلاء الأشخاص أمر يفوق الوصف، فقد برهنوا مرات كثيرة أمامي أنهم قادرون على التفكير المجرد والمنطقي وعلى التجريد والتعميم والترميز مثلهم مثل الإنسان السامع، وبرهنوا أنهم يتقنون الأعمال التي توكل إليهم بدقة كبيرة وأمانة خالصة.
ويكفي فخراً أن أذكر أن هؤلاء الأشخاص لم تستطع أضواء الحضارة المزيفة أن تسرق الحب والعطاء والصداقة والنخوة من قلوبهم، فهم أصدقاء أوفياء ومحبون بلا رياء ومحدثون بلا نفاق، وكل هذا يبرهن أن سلوكهم الأساسي سلوك تكيفي وليس سلوكاً طارئاً، فهم يبذلون الغالي والنفيس في سبيل خدمة أسرهم ومؤسساتهم ومجتمعهم، فهل هناك أجمل من هذا في زمن مليء بالأزمات والعقد النفسية والوجدانية والسلوكية؟!
حين طلب مني أن أكتب حول هذا الموضوع أحسست بالغبطة لأنني سأجمع ما لدي من تجارب وخبرات ودراسات متواضعة لأشرح من خلالها الإمكانات والقدرات والطاقات التي يتمتع بها الصم وألتمس أفضل الطرق لفهمهم ورد الإعتبار والتقدير إليهم والعمل مع الآخرين لتكوين رأي عام يعنى بحسن النظر إليهم ويشعرهم بإنسانيتهم ويؤهلهم لتفتح مواهبهم وقدراتهم المخزونة.
الواحد منا يقف مدهوشاً أمام الأعداد الكبيرة التي بدأت تبرز من هؤلاء الأشخاص لتحمل الشهادات العليا (شهادة الدكتوراه) في الإقتصاد والتجارة واللغة والأدب وغيرها، وحين قرأت نبأ الأصم الذي حصل منذ فترة وجيزة على شهادة الدكتوراه في اللغة من سويسرا وقفت مع نفسي خجلاً فقد كنت أظن سابقاً أن في وسع السامعين أن يردوا إلى الصم اعتبارهم ويقدموا الخدمات لهم ولكن الأحداث الجديدة برهنت أن هؤلاء الصم أشبه بجبابرة الأساطير وفي استطاعتهم أن يعطوا الدروس المثلى للأشخاص السامعين في العمل الفكري والعضلي ويذكروهم بإنسانيتهم الجديرة بالاحترام، وها هي نماذجهم البطولية التي تفوق الخيال وتتجاوز التوقعات تعد مثلاً أعلى في تحدي الصمم وقهر الإعاقة والفشل.
فهل يحق لنا من خلال مجلة «المنال» أن نعلن أنه قد آن الأوان ليسترجع الصم حقوقهم التي سلبتها منهم إعاقة الصمم وسلبتها منهم أيضاً المجتمعات بنظرتها السلبية لهم!!
آن الأوان لأن يحيا الصم بكامل إنسانيتهم وأن يديروا شؤونهم بأنفسهم ويمسكوا زمام مؤسساتهم التربوية والمعاشية والترفيهية بذاتهم، وهذا حقهم المشروع الذي سلبه منهم السامعون عن قصد أو غير قصد لفترات طويلة، وصار من حقهم أن يدخلوا جميع مجالات التعلم والعمل ويؤهلوا أنفسهم للعمل المثمر ويدربوا ذواتهم على خوض غمار الحياة الحرة الكريمة المنتجة، وما علينا نحن السامعين إلا أن نرفع الوصاية عنهم ونغير من اتجاهاتنا نحوهم ليعيشوا بجو ملؤه الحرية والإنسانية لا يجعلهم يلتفتون إلى الوراء بل يتخذون من قسوة الماضي دافعاً لتجاوزه بشكل علمي ومدروس نحو مستقبل أفضل.
إن إخوتنا الصم قد برهنوا في كل موقع ومكان عن حسن إدارتهم لمؤسساتهم الاقتصادية والتربوية والترفيهية، ففي جمهورية مصر العربية يدير الصم أحدث مطعم للوجبات السريعة ويشيد الناس جميعاً بحسن أداء هؤلاء ومدى تكيفهم مع الزبائن وإتقانهم للعمل، وفي الهيئات والإتحادات الدولية تسلم الصم زمام العمل في مؤسساتهم وبرهنوا أنهم أكثر عطاء وحماساً وإتقاناً لعملهم من الذين يتكلمون باسمهم ويعتبرون أنفسهم أوصياء عليهم، وفي سوريا حيث يرأس أحد الشباب الصم إدارة إحدى الجمعيات الخاصة مع بعض زملائه فقد أثبتوا وجودهم وقدرتهم على حسن الإدارة والتخطيط والتنفيذ في هذا المجال الهام.
والأمثلة الحية والشخصيات العملاقة من هؤلاء تقف شاهداً على ما نقول، فهذه هيلين كيلير التي ولدت عام 1880 وأصيبت بالحمى القرمزية التي أفقدتها سمعها وبصرها ونطقها فانقلبت إلى فتاة رعناء طائشة حتى دخلت المدرسة في السابعة من عمرها وتولت الآنسة «سليفان» تعليمها وتربيتها فتعلمت اللغة والقراءة والكلام ووصلت لمرحلة قراءة الشعر وتذوقه وساهمت فيما بعد في صياغة الأدب الرقيق وصارت بعدها تكتب وتؤلف وتحاضر في موضوعات اجتماعية وإنسانية وأدبية فكتبت عام 1902 (قصة حياتي) وعام 1908 (العالم الذي أعيش فيه) وعام 1913 (الخروج من الظلام) وغير هذا من المؤلفات الكثيرة.
فإلى مثل هذا القدر من البطولة يجب أن نرتقي وأن يرتقي الصم جميعهم، ولتحقيق هذا الهدف الذي نصبوا إليه تترتب علينا نحن ـ مؤسسات وأسر الصم ـ مسؤوليات جسام في حسن التربية والتعليم والتأهيل والمشاركة والمساواة والدعم النفسي والمعنوي وغيره.
كلمة أخيرة بهذه المناسبة نوجهها إلى أسر الصم بأن ينظروا إلى ولدهم نظرة طبيعية فلا يعتبروا الصمم كارثة نزلت عليهم أو مصيبة حلت بهم لخطأ أو لذنب اقترفوه، بل عليهم تقبل الأمر تقبلاً علمياً تربوياً واحتضان فلذات أكبادهم حتى يشبوا ويشتد عودهم ويتحملوا مسؤولية أنفسهم، وأن يطلعوا على كل جديد في تربيتهم وأسلوب معاملتهم وتعليمهم وتأهيلهم.
وعلى المؤسسات الخاصة بالصم أيضاً أن تواكب كل تقدم وتطور في تعليم وتأهيل هؤلاء الأشخاص وأن تساهم في توعية المجتمع بحقوقهم وواجباتهم وتقوي آمالهم بالنجاح وتقدم لهم الدعم المادي والفني والفكري.
ولإخوتي الصم أقول لهم: لقد برهنتم أنكم لستم عجزة ولا مصابين وأنكم قادرون على تجاوز إعاقتكم وتحقيق الإنتصارات الكبيرة وإثبات ذاتكم في كل الميادين دون خوف أو قلق أو خجل، والحمد لله عندكم من الإمكانات ما يكفي للعطاء والإبداع فلا بد أن تستثمروا هذه الطاقات وتضاعفوا جهودكم وتتغلبوا كل يوم على إعاقتكم وتثبتوا للعالم أجمع أنكم القادرون دوماً على الظفر والإنتصار وتحقيق الفوز والنجاح.
الجنسية: سوري
الوظيفة:اختصاصي علاج نطق بمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
الحالة الاجتماعية:متزوج ويعول أربعة أبناء.
المؤهلات العلمية:
- حاصل على درجة الدراسات العليا في الفلسفة من جامعة دمشق بتقدير جيد جداً عام 1979.
- حاصل على درجة الليسانس في الدراسات الفلسفية والاجتماعية بتقدير جيد جداً من جامعة دمشق عام 1975.
- حاصل على دبلوم دار المعلمين من دمشق عام 1972.
- حاصل على دورة عملية في طريقة اللفظ المنغم من بروكسل في بلجيكا.
الخبرات العملية:
- أخصائي علاج نطق بمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- مدرس من خارج الملاك بجامعة الإمارات العربية المتحدة بالعين.
- عضو بالاتحاد العربي للهيئات العاملة مع الصم منذ عام 1980.
- أخصائي نطق في اتحاد جمعيات الصم بدمشق.
- مشرف على مركز حتا للمعوقين بدولة الإمارات العربية المتحدة عامي 2001 و 2002.
المشاركات والدورات:
- عضو مشارك بالندوة العلمية الرابعة للاتحاد العربي للهيئات العاملة مع الصم عام 1994.
- عضو مشارك بالندوة العلمية السادسة للاتحاد العربي للهيئات العاملة مع الصم عام 1998.
- مشارك في المؤتمرين السادس والثامن للاتحاد العربي للهيئات العاملة مع الصم 1991 و 1999.
- مشارك في ورشة توحيد لغة الإشارة بدبي عام 1998.
- مشارك في تنظيم وتخريج عدد من دورات المدرسين والمدرسات الجدد في مدرسة الأمل للصم.
- عضو مشارك في الندوة العلمية التربوية بمؤسسة راشد بن حميد بعجمان عام 2002.
- مشارك في عدد من المحاضرات التربوية والتخصصية.
- كاتب في مجلة المنال التي تصدرها مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- عضو مشارك في مؤتمر التأهيل الشامل بالمملكة العربية السعودية.
- عضو مشارك في الندوة العلمية الثامنة في الدوحة بقطر.