كان بشار يرى في وجوب أن يصل الشعر إلى كل إنسان، وأن يعالج كل موضوع، وهي ثورة على فكرة وجوب التزام موضوعات بعينها في الشعر مما جرى التقليد على التزامه. فتجديد بشار لم يكن تجديداً بالمعنى المصطلح عليه، أي ابتكار فن جديد في الشعر لم يسبقه إليه أحد، وإنما كان تجديداً في طريقة التعبير، وتحقيق ما يسمى بشعبية الشعر.
قُدّرَ للشعر العربي أن تكون بداية التجديد فيه على يد شاعر أكمه (1)، لم يُقيّض له أن يرى الدنيا قط؛ فقد ولد أعمى مجرد من كل أثر وكل فكرة عن الأشياء المحيطة به؛ من حيث الشكل والحجم واللون، حتى من ذلك القدر اليسير في النفس من الذكرى المبهمة للأشياء، تلك الذكرى التي تعلق بالذهن إثر ماضٍ مبصر تطاول عليه الزمن؛ كالذي يصاب بالعمى وهو طفل صغير؛ كما حدث لأبي العلاء المعري الذي فقد بصره بسبب إصابته بالجدري وهو في الرابعة من عمره.
ولد بشار بن برد في البصرة عام 95 هـ (95 ـ 167 هـ / 714 ـ 784 م)، وأبوه برد فارسي من سبي المهلب بن أبي صفرة، وهبه لامرأة من بني عقيل، فتزوجته ونسب إليها، ونشأ في بني عقيل، يختلف بين الآونة والأخرى إلى الأعراب المخيمين ببادية البصرة، حتى شبّ فصيح اللسان صحيح البيان، تجري في عروقه دماء عربية من جهة أمه.
وكان يتباهى بفصاحته وبيانه، وإذا قيل له: ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه شيئا استنكرته العرب من ألفاظهم وشكّت فيه، وإنه ليس في شعرك ما يشكّ فيه. قال: ولدت ها هنا، ونشأت في حجور ثمانين شيخاَ من فصحاء بني عقيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت إلى نسائهم، فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت إلى أن أدركت، فمن أين يأتيني الخطأ؟!
(ولذا كان آخر من يحتج النحاة بشعرهم من الشعراء) (2)، ويعد بشار في رأي أنصار البديع أصل هذا المذهب، ورواة الشعر ونقدته متفقون على أنه زعيم طبقة المولدين (3).
يقول أبو بكر الصولي، وهو من كبار المتحمسين للمذهب الجديد: (اعلم أعزّك الله أن ألفاظ المحدثين منذ عهد بشار إلى وقتنا هذا كالمتنقلة إلى معان أبدع، وألفاظ أقرب، وكلام أرق)، وفي موضع آخر يقول: (كنت يوماً في مجلس فيه جماعة من أهل الأدب والعصبية لأبي نواس حتى يفرطوا، فقال بعضهم: أبو نواس أشعر من بشار، فرددت ذلك عليه وعرفته ما جهله من فضل بشار وتقدمه، وأخذ جميع المحدثين عنه وأتباعهم) (4).
نبوغه المبكر
قال بشار بن برد الشعر وهو ابن عشر سنين فما بلغ الحلم إلا وقد أصبح شعره على كل لسان، وطرق كل باب من أبواب الشعر ثم زاد عليها، وهو أول من جمع في شعره بين جزالة البدو ورقة الحضر، وكان شعره يشكل الحد الفاصل بين الشعر القديم والشعر الحديث.
وقد شهد له الجاحظ بالتبريز في سائر فنون الكلام فقال: (كان بشار خطيباً صاحب منظوم ومنثور… وهو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع، المتفننين في الشعر، القائلين في أكثر أجناسه وضروبه) (5).
وقد راج شعره بين الخاصة والعامة، لطلاوته وسلامة أسلوبه، فأولع به شبان البصرة، وافتتن به نساؤها، فكنّ ينشدن شعره ويتغنيّن به.
كففه سر نبوغه وابداعه
والشاعر نفسه يعزو ذكاءه ونبوغه إلى عماه فيقول:
عَميتُ جَنيناً والذَّكاءُ من العَمَى
فَجِئْتُ عَجيبَ الظَّنِّ لِلْعِلْمِ مَؤْئِلا
وقد استطاع الشاعر أن يتغلب على عقدة العمى في حياته عن طريقين: طريق الفكاهة والسخرية في أقواله وحركاته، وطريق نظم الشعر والإبداع فيه.
ومن طريف ما يذكر أن رجلاً جاءه يسأله عن منزل رجل بعينه، فوصفه له، وجعل يفهمه وهو لا يفهم، فما كان منه إلا أن أخذ بيده وقاده إلى منزل الرجل وهو يقول:
أَعْمَى يَقُودُ بَصيراً لا أَبَالكُمُ
قَدْ ضَلَّ مَنْ كانَتِ العِمْيَانُ تَهدِيهِ
فلما وصل إلى منزل الرجل قال له: هذا هو منزله يا أعمى (6).
ويروون أن بشاراً أنشد المهدي قصيدة، وخاله يزيد بن منصور الحميري حاضر، فلما أتمّ إنشاده قال له يزيد: ما صناعتك يا شيخ؟ فرد عليه بشار ساخراً: أثقب اللؤلؤ. فقال له المهدي: أتهزأ بخالي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، فما يكون جوابي لمن يرى شيخاَ أعمى ينشد شعراً فيسأله عن صناعته!
وقال هلال بن عطية لبشار ـ وكان صديقاً له ـ يمازحه: إن الله لم يذهب بصر أحد إلا عوّضه، فما عوّضك؟ قال: ألا أراك ولا أمثالك الثقلاء.
بهذه السخرية المرة والإجابات اللاذعة تمكن بشار من التغلب على متاعبه النفسية الناجمة عن العمى.
أما في مجال نظم الشعر والإبداع فيه، فإن عقدة العمى هي نفسها التي دفعت بشاراً إلى أن يقول أرق مقطوعاته وأجمل قصائده (تلك القصائد التي نمته إلى مدرسة، وشجعت كثيراً من النقاد على أن يجعلوه رأس المجددين، ويعتبروه شيخاً لهم) (7).
ولا شك أن عاهته التي سببت له الكثير من المرارة والألم قد أورثته ـ في الوقت نفسه ـ قدراً كبيراً من العزم والتصميم على البروز والتفوق، وقدراً أكبر من العناد وعدم الاستسلام للأمر الواقع؛ مما جعله يخرج عن المألوف الذي ألفه الناس واعتادوا عليه، وكان هذا ما دفع بالشاعر إلى الثورة على كل ما هو قديم متوارث، وتحطيم ما اصطلح الناس على التزامه وتقليده. وهذا ما أشار إليه في شعره:
وَغَاضَ ضِياءُ العَيْنِ للقَلْبِ رائِداً
بِحِفْظِ إذَا ما ضَيَّعَ النَّاسُ حَصَّلا
وَشِعْرٍ كَزَهْرِ الرَّوْضِ لا أَمْتُ (8) بَيْنَهُ
نَقِيٍّ إذَا ما أَحْزَنَ (9) الشِّعْرُ أَسْهَلا
الشاعر المجدد
لقد كان بشار يجهد نفسه في تقليد من سبقوه في بداية الأمر، محاولاً بعد ذلك أن يأتي بشيء أفضل منهم، مستعيناً بفكره وعناده؛ فكان أن طال تجديدُه الشعرَ في ركنين أساسيين منه: في موضوعاته، وفي صياغته.
التجديد في الموضوعات
كان بشار يرى في وجوب أن يصل الشعر إلى كل إنسان، وأن يعالج كل موضوع، وهي ثورة على فكرة وجوب التزام موضوعات بعينها في الشعر مما جرى التقليد على التزامه (10). فتجديد بشار لم يكن تجديداً بالمعنى المصطلح عليه، أي ابتكار فن جديد في الشعر لم يسبقه إليه أحد، وإنما كان تجديداً في طريقة التعبير، وتحقيق ما يسمى بشعبية الشعر، إذ يقول:
رَبَابَةُ رَبَّةُ البَيْتِ
تَصُبُّ الخَلَّ في الزَّيْتِ
لها عَشْرُ دَجَاجَاتٍ
وَديكٌ حَسَنُ الصَّوْتِ
ويقول لمن احتج على هذا التفاوت في شعره: كل شيء في موضعه، وربابة هذه جارة لي، وأنا لا آكل البيض من السوق، فربابة هذه لها عشر دجاجات وديك، فهي تجمع البيض وتحضره لي، فكان هذا من قولي لها أحب إليها وأحسن عندها من:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ
وعابوا عليه غزله في امرأة تدعى سلمى إذ قال:
إنَّ سَلْمَى خُلِقَتْ من قَصَبٍ
قَصَبِ السُّكَّرِ لا عَظْمِ الَجَمَلْ
وَإذا أَدْنَيْتَ منها بَصَلاً
غَلَبَ المِسْكُ على ريحِ البَصَلْ
فكان أَنْ جمع بين هذه الألفاظ المتنافرة في المعنى والمتفاوتة في اللفظ عن قصد، وبهذا استطاع بشار أن ينزل الشعر من برجه العاجي، حيث كان مقصوراً على الطبقة العالية في المجتمع، وأن يجعله يسير بين الناس في الطرقات، يصور حياة العامة، ويعبر عن همومهم وشؤونهم، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم ومشاكلهم اليومية.
التجديد في الصياغة
لقد كان تجديده في الموضوعات اختيارياً نابعاً عن عقيدة راسخة بأن الشعر يجب أن يطرق كل موضوع، وأن يتجه كل اتجاه، وأن يأتي بكل طريف وجديد؛ أما تجديده في الصياغة فلم يكن اختيارياً، بل كان مجبراً عليه بسبب عاهته التي فرضها عليه القدر فرضاً ليس إلى تجنبه سبيل؛ إذ كان بشار يعتمد في تأليف صوره وتشبيهاته على ما يُروى عن الشعراء ومذاهبهم في التشبيه، وفيما ترويه العامة من كلام عابر وحديث عادي، كل هذه الأمور كانت تصل إليه عن طريق حاسة السمع، أضف إلى هذا رغبته القوية في التفوق والسبق؛ فكان يعمد إلى جمع عناصر الصورة والتأليف فيما بين أجزائها تأليفاً غريباً غير مألوف، بعيداً عن المنطق يسودها الخلط والتناقض، وكل حسناتها أنها صيغت في قالب من القول جميل، وفي ثوب من الألفاظ خلاب أنيق.
ولنستمع إليه وهو ينشد متغزلاً بحسناء فيقول:
وَكَأَنَّ رَجْعَ حَديثِها
قِطَعُ الرِّياضِ كُسِينَ زَهُرا
وَكَأَنَّ تَحْتَ لِسانِها
هَاروتُ يَنْفُثُ سِحْرا
حَوْراءُ إنْ نَظَرَتْ إليْـ
ـكَ سَقَتْتَ بالعَيْنَيْنِ خَمْرا
وَكَأَنَّها بَرْدُ الشَّرا
بِ صَفَا وَوَافَقَ مِنْكَ فِطْرا
وَتَخَالُ ما جَمَعَتْ عَلْيْـ
ـهِ ثِيابُها ذَهَباَ وَعِطْرَا
ونلاحظ لأول وهلة انعدام التلاؤم بين المشبه والمشبه به؛ فالمشبه: رجع حديثها، وهو مسموع، والمشبه به: الرياض المكسوة بالزهور، وهو مرئي، والحديث عند بشار محسوس، وصورة الرياض لديه غير مرئية، فيكون بذلك قد شبه المحسوس بغير المحسوس.
غير أن الأدب ليس مادة جامدة، تخضع للمقاييس الأدبية بشكل مطلق، والمعوّل عليه في تقويم الصورة الشعرية، هو ما تترك في النفس من أثر عميق، وما تثيره في القلب من مشاعر وأحاسيس، وما تخلّفه في الذهن من متعة وفائدة.
من هذا المنطلق نستطيع أن نحكم على الصورة الشعرية عند بشار، بأنها رائعة مبتكرة فريدة في نوعها، قوية في تأثيرها.
وهل هناك أجمل وأروع من هذه الصورة التي أوحتها أذن بشار المرهفة، فجاءت أدق وأمتع مما لو كانت العين المبصرة هي الموحية، ولنستمع إليه يصف أحاديث نسوة كنّ بجانبه:
أُنُسٌ غَرائِرُ ما هَمَمْنَ بريبَةٍ
كَظِباءِ مَكَّةَ صَيْدُهُنَّ حَرامُ
يُحْسَبْنَ مِنْ أُنْسِ الحديثِ زَوَانياً
وَيَصُدُّهُنَّ عَنِ الخَنَا الإسلامُ
يعلق الدكتور مصطفى الشكعة على هذين البيتين فيقول: (أي رقة مقرونة بالعمق تلك التي تتمشى في هذين البيتين المفرطين روعة وإجادة وجمالاً، إنها رقة جرير وعفته تتقمصان شيطان شعر بشار فيأتي بهذه الصورة الفريدة) (11).
والسر في براعة بشار وابتكاره لمثل هذه الصور الجميلة المميزة ـ في رأينا ـ هو تلك العاطفة الجياشة والإحساس المتقد في صدر بشار، مما يخلع الصدق على صوره، فيصلح من أودها، ويقوم اعوجاجها، ويجعلها مقبولة مستساغة، بل وجميلة رائعة.
فهناك ترابط وثيق بين العاطفة والخيال، وقوته مرتبطة بقوتها، (فإذا كانت صادقة قوية انشأت خيالاً رائعاً، وإذا كانت سقيمة مصطنعة كان الخيال هزيلاً سخيفاً) (12).
ومهما قيل ويقال في بشار فإن عاهته المستديمة كانت الدافع الأول والهام في ابتكاره وتجديده، في موضوعات الشعر وصوره، سواء كان ذلك بطوع اختياره، أو مسوقاً إليه بحكم عجزه عن الرؤية.
ولن ننسى أن نختم حديثنا عن بديع بشار بهذا البيت الذي حيّر النقاد وأثار إعجابهم إلى الآن، وكان سبباً في ذيوع شهرة قصيدته البائية التي يفتخر فيها بمواليه قيس عيلان إذ يقول:
كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُسِنَا
وَأَسْيَافَنَا ليلٌ تَهاوَى كَوَاكِبُهْ
وفاته ـ مقتله
مات بشار بن برد مقتولاً في زمن الخليفة المهدي، الذي أمر جنوده بشن حملة على الزنادقة، وكان من ضمنهم الشاعر بشار بن برد، وذلك بسبب الضغائن التي حملها عليه بعد وشاية الناقمين وهجائه للخليفة المهدي، إذ جاء يوم وكان بشار فيه سكراناً فاندفع يؤذن قبل موعد الصلاة، فغضب المهدي من ذلك وأمر بضربه بالسوط، فضُرب سبعين مرة حتى مات، ودُفن في البصرة.
وذكر الصفدي في كتابه أن بشاراً مات وهو يبلغ من العمر قرابة تسعة وتسعين عاماً، وقيل إنه توفي في السبعين من عمره، لكن الرأي المتفق عليه أن بشاراً قد توفي وقد جاوز السبعين، وتأكد ذلك قصيدته التي جاء فيها:
وحسْبُك أَنِّي منذ سِتين حِجَّةً
أكيد عفاريت العدى وأكادُ
يقال إنّ في تشييع جثمانه لم يخرج أحد سوى أمة أعجمية سوداء كانت تصيح: واسيداه! وذلك لأنّ الناقمين عليه كُثر بسبب حسد أو هجاء، فلم يبقَ له أصدقاء في البصرة إلا وقد هجاهم بشار أو اتقوا شرّ لسانه فابتعدوا عنه.
وعندما توفّي فتّش في كتبه فلم يجدوا ما كانوا قد اتهموه به، إلا ما كتبه في آل سليمان يقول فيهم: كنت أريد أن أهجو آل سليمان بن علي لبخلهم، فتبين أن هنالك قرابة تجمعهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتنّعت، إلا أنني قلت:
دينار آل سليمان ودرهمهم
كَالْبَابِلِيَّيْنِ حُفَّا بِالْعَفَارِيتِ
لا يوجدان ولا يرجى لقاؤهما
كَمَا سَمِعْتَ بِهَارُوتٍ وَمَارُوتِ (13)
الحواشي
- الأكمه: هو الذي ولد أعمى.
- أحمد حسن الزيات، تاريخ الأدب العربي، ص 264.
- المولدون أو المحدثون: هم الشعراء الذين فسدت فيهم ملكة اللسان فعالجوها بالصناعة.
- أبو بكر الصولي: أخبار أبي تمام، ص 26، وص 142.
- أحمد حسن الزيات، تاريخ الأدب العربي، ص 266.
- الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، ج 3، ص 167 ـ 168.
- مصطفى الشكعة: رحلة الشعر من الأموية إلى العباسية، ق2 ـ ص 227.
- الأمت: الاختلاف في الشيء.
- أحزن الشعر: وعر وغلظ.
- نجيب محمد البهبيتي: تاريخ الشعر العربي.
- مصطفى الشكعة، رحلة الشعر، ق 2، ص 234.
- أحمد الشايب، أصول النقد الأدبي، ص 222.
- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ديوان بشار بن برد، الجزائر: وزارة الثقافة الجزائرية، صفحة (40 ـ 42) ج 1، بتصرف.
كاتب