إعداد / أسامة أحمد مدبولي
خبير واستشاري في التربية الخاصة، مدير مركز معاً للتربية الخاصة
السفر تجربة ساحرة تفتح لنا آفاقًا جديدة، ولكنها قد تبدو صعبة بعض الشيء عندما نخطط لها مع أطفالنا من ذوي اضطراب طيف التوحد، فالسلوكيات المعتادة التي يحبونها، وحساسيتهم الشديدة للأصوات العالية أو الأضواء القوية، وصعوبة التعبير عن احتياجاتهم، بالإضافة إلى شعورهم بالقلق من الأماكن الجديدة، كلها أمور قد تجعلنا نفكر مرتين قبل حزم الحقائب. حتى رحلات الطيران تحمل تحدياتها الخاصة، من ضجيج المحركات إلى المساحات الضيقة، وقد يشعر الآباء أحياناً ببعض الحرج من نظرات الآخرين التي قد لا تفهم سلوكيات أطفالهم.
لكن مهلاً! هل فكرنا يوماً في أن هذه التحديات يمكن أن تتحول إلى فرص رائعة؟ نعم، بالتخطيط الجيد وفهم عميق لاحتياجات أطفالنا، يمكننا تحويل هذه الرحلة إلى مغامرة مدهشة مليئة بالتعلم والتكيف، وصنع ذكريات عائلية لا تُنسى تبقى محفورة في القلوب.
ما الذي يجعله تحدياً؟ فهم عالم أطفالنا
أطفالنا من ذوي اضطراب طيف التوحد يحبون الروتين كثيراً، وأي تغيير مفاجئ في خططهم أو بيئتهم قد يسبب لهم القلق أو حتى نوبات غضب بسيطة، تخيلوا أن الأصوات الصاخبة، أو الأضواء القوية، أو الروائح الغريبة، أو حتى لمسة غير متوقعة، يمكن أن تكون مرهقة جداً لهم، مما يؤدي إلى ردود فعل قوية، أحياناً يجد طفلنا صعوبة في إخبارنا بما يريده أو فهم تعليمات جديدة، وهذا يزيد من إحباطه وإحباطنا، الأماكن الجديدة والوجوه الغريبة والبيئات غير المألوفة يمكن أن تثير لديهم خوفاً وقلقاً شديدين، حتى السفر بالطائرة يحمل صعوباته، فضجيج المحركات، والمساحة المحدودة، والانتظار الطويل، وتغير الضغط الجوي، كلها قد تكون مصادر إزعاج كبيرة، وقد نشعر كآباء ببعض الضغط أو الإحراج بسبب سلوكيات أطفالنا التي قد لا يفهمها الآخرون.
لكن، هناك جانب مشرق! فرص مدهشة للنمو
رغم كل التحديات، السفر مع طفل من ذوي اضطراب التوحد يحمل في طياته كنوزاً من الفرص، سيتعلم طفلنا كيف يتأقلم مع التغيير ويتعامل مع المواقف الجديدة تدريجياً، وهذا يعزز مرونته وقدرته على التكيف، يمكن للرحلة أن توفر فرصاً رائعة لتجربة أصوات ومناظر وروائح ولمسات إيجابية ومثيرة للفضول، إذا قدمناها له بطريقة صحيحة ومدروسة، قد يكون السفر حافزاً قوياً لطفلنا للتعبير عن احتياجاته بطرق مختلفة، مما يساعده على تطوير مهارات التواصل لديه، عندما نتغلب على التحديات معاً، فإن الروابط بين أفراد الأسرة تقوى وتتكون ذكريات مشتركة فريدة، وعندما نسافر كعائلات لديها أطفال من ذوي اضطراب طيف التوحد، فإننا نسهم في نشر الوعي بقضايا اضطراب طيف التوحد في المجتمع، وهذا أمر قيّم للغاية، وربما يكتشف طفلنا اهتمامات جديدة في الأماكن التي يزورها، مما يفتح له آفاقاً جديدة في حياته.
سر الرحلة الناجحة: التخطيط المسبق بحب وذكاء
التخطيط المسبق هو أساس الرحلة الناجحة مع طفل من ذوي اضطراب طيف التوحد، كلما كان تخطيطنا دقيقاً ومفصلًا، قل التوتر على الطفل وعلينا نحن كوالدين.
اختيار وجهتنا الساحرة: دعونا نبحث عن الوجهات التي تهتم بأطفال من ذوي اضطراب طيف التوحد، بعض المدن والفنادق أصبحت واعية باحتياجاتهم وتقدم تسهيلات خاصة، مثل غرف حسية هادئة، أو مناطق للعب الهادئ، أو حتى برامج ترفيهية تناسبهم، لنفكر في مدى حساسية طفلنا للأصوات والأضواء؛ قد تكون الأماكن الهادئة والطبيعية، كالجبال أو القرى الساحلية، أفضل من المدن الصاخبة، ولا ننسَ أن نتأكد من وجود مستشفيات أو عيادات قريبة من وجهتنا في حالة الطوارئ، والاحتفاظ بأرقام هواتفهم.
تهيئة طفلنا نفسياً: مفاجآت ممتعة، لا مخاوف!: القصص الاجتماعية المصورة كنز لا يُقدر بثمن، يمكننا صنع قصة مفصلة تشرح كل خطوة في الرحلة: المطار، الطائرة، الفندق، الأماكن الجديدة التي سنزورها، لنستخدم صوراً حقيقية أو رسومات جذابة، يمكننا أيضاً مشاهدة مقاطع فيديو وصور للمطار والطائرة والفندق والأماكن التي سنزورها معاً؛ هذا يساعد طفلنا على فهم ما سيحدث ويتوقعه، وحتى لعب الأدوار في المنزل، كتمثيل “التفتيش الأمني” أو “الجلوس في الطائرة”، سيساعده على التعود على الأفكار الجديدة، ويمكن لتقويم بصري للعد التنازلي أن يساعد طفلنا على معرفة كم تبقى من الوقت حتى موعد السفر، مما يخفّف من قلقه.
تجهيزاتنا السحرية في حقيبة اليد: تأكدوا من أن لدينا كمية كافية من جميع الأدوية الضرورية، مع الاحتفاظ بالوصفات الطبية في حقيبة اليد، لا غنى عن الأدوات الحسية المهدئة: سماعات إلغاء الضوضاء لتقليل الأصوات العالية ، ألعاب حسية تساعد على التركيز والهدوء ، وبطانية أو وسادة مفضلة ليشعر بالأمان والراحة. احضروا كمية كافية من الوجبات الخفيفة والمشروبات المفضلة لطفلنا، خاصة إذا كان لديه حساسيات معينة، جهزوا صندوقاً صغيراً مليئاً بالأنشطة المحببة إليه: ألعاب صغيرة، كتب تلوين، ألغاز، أو جهاز لوحي مُحمّل بأفلام أو ألعاب لترفيه الطفل أثناء الانتظار، واختاروا ملابس فضفاضة ومريحة لا تسبب له أي إزعاج، مع ملابس احتياطية في حقيبة اليد.
مغامرتنا تبدأ: التعامل مع التحديات بابتسامة وهدوء
مهما كان تخطيطنا مثالياً، قد تظهر بعض التحديات، ولكن معرفة كيفية التعامل معها بهدوء وفعالية سيحدثُ فرقاً كبيراً في رحلتنا.
في المطار: محطة الانطلاق الكبرى! الوصول مُبكراً إلى المطار يعطينا وقتاً كافياً لإنهاء الإجراءات الأمنية بهدوء، ويمنح طفلنا فرصة للتكيف مع البيئة الصاخبة قبل الصعود إلى الطائرة، لا تترددوا في إبلاغ موظفي المطار وشركات الطيران بحالة طفلكم ، فقد تحصلون على مساعدة خاصة، كالمسار السريع عبر الأمن، أو الصعود المبكر، أو المساعدة في حمل الأمتعة.بعض المطارات توفّر ممرات “حسّية” أو غرفاً هادئة، ابحثوا عنها، حاولوا البحث عن مناطق انتظار أقل ازدحاماً، واسمحوا لطفلكم بالتحرك واللعب بهدوء إذا أمكن، اشرحوا عملية التفتيش لطفلكم مسبقاً، وإذا كان حساساً تجاه اللمس، اطلبوا من الموظفين أن يكونوا حذرين أو اطلبوا تفتيشاً في غرفة خاصة.
في سماء الطائرة: تحليق ممتع: إذا أمكن، احجزوا مقعدًا إلى جوار النافذة إن كان طفلكم يحب المشاهدة، أو مقعدًا في الممر إن كان يحتاج للتحرك، حاولوا تجنب المقاعد القريبة من المحركات أو الحمامات في حال كانت الضوضاء تزعجه، لمواجهة تغيّر الضغط الجوي، شجعوا طفلكم على المضغ، أو تناول الحلوى، أو شرب السوائل أثناء الإقلاع والهبوط، وسماعات الأذن قد تكون مفيدة، استخدموا صندوق الأنشطة الذي أعددتموه ، و”التابلت” قد يكون مُنقذًا، ولكن لا تعتمدوا عليه كلياً.
لحظات التحدي: كيف نتعامل مع نوبات الغضب؟ حافظوا على هدوئكم، فصوتكم الهادئ يمكن أن يساعد في تهدئة الطفل، حاولوا تشتيت انتباهه بلعبة أو نشاط مفضل، قد يساعد الضغط اللطيف أو “العناق العميق” في تهدئة بعض الأطفال، تجنّبوا الجدال إذا كان الطفل في ذروة نوبة الغضب، و ركزوا على سلامته ومحاولة توفير بيئة مهدئة له، وأخبروا طاقم الطائرة بوضع طفلكم، فقد يقدمون المساعدة أو يتفهمون الوضع.
وصولنا إلى الوجهة: استكشاف العالم بقلب سعيد
بمجرد وصولنا إلى الوجهة، تبدأ مرحلة جديدة من التكيف والاستمتاع.
التكيف مع الفندق: بيتنا الجديد مؤقتاً: اسمحوا لطفلكم باستكشاف الغرفة الجديدة بهدوء أولًا، ودعوه يرتب بعض أغراضه المألوفة، حاولوا الحفاظ على روتين النوم المعتاد قدر الإمكان لتقليل اضطراب النوم، استكشفوا المرافق الهادئة والمريحة في الفندق، كردهة هادئة، أو حديقة صغيرة، أو حتى المسبح إن كان يحبه.
استكشاف الأماكن الجديدة: مغامرات ممتعة: لا تملؤوا كل يوم بالأنشطة، خصصوا وقتاً للراحة والاسترخاء، ووقتاً لأنشطة يختارها الطفل، لا تذهبوا إلى أكثر الأماكن ازدحاماً في اليوم الأول؛ ابدؤوا بأماكن هادئة ومألوفة نسبياً، حددوا “مناطق أمان” في كل مكان تزورونه، مكاناً يمكن للطفل أن يلجأ إليه إذا شعر بالإرهاق، استخدموا الصور والخرائط البصرية لشرح خطة اليوم والأماكن التي ستزورونها، امدحوا طفلكم وشجعوه على كل محاولة منه للتكيف أو المشاركة في نشاط جديد.
تعزيز استمتاع طفلنا: هدفنا الأسمى! خططوا لأنشطة تتماشى مع اهتمامات طفلكم الخاصة ، كزيارة حديقة حيوان إن كان يحب الحيوانات، أو متحف إن كان يحب الديناصورات، خصصوا وقتاً كافياً للَّعبِ الحُرِّ وغير المنظم، اشركوا طفلكم في بعض قرارات التخطيط، كأن يختار اللعبة التي سترافقه في الطائرة، احتفلوا بكل خطوة يقطعها في التكيف مع البيئات الجديدة أو تجربة أشياء جديدة، كونوا حاضرين ومتفاعلين معه بإيجابية، تذكروا دائماً أن الهدف ليس فقط الوصول إلى الوجهة، بل هو الاستمتاع بالرحلة نفسها وبناء ذكريات عائلية ثمينة.
استثمار السفر: فوائد تتجاوز مجرد المتعة
السفر مع طفل من ذوي اضطراب طيف التوحد هو أكثر من مجرد إجازة؛ إنه استثمار حقيقي في نموه وتطوره، ويعزز الروابط الأسرية بشكل لا يصدق.
طفلنا يصبح أكثر مرونة وقدرة على التكيف: كل تحدٍّ يتغلب عليه طفلنا، وكل موقف جديد يتعامل معه بنجاح، يساهم في بناء مرونته وقدرته على التكيف مع التغيير في المستقبل، هذه مهارة حياتية لا تُقدَّرُ بثمن! السفر يكسر الروتين بطريقة قد تكون مفيدة، حيث يُعرّضُ الطفل لمواقف لا يواجهها في حياته اليومية، مما يشجعه على تطوير استراتيجيات جديدة للتعامل مع المجهول.
مهاراته الاجتماعية تتوهج! التعامل مع أشخاص جدد وبيئات مختلفة يمكن أن يوفر فرصاً طبيعية لتنمية المهارات الاجتماعية، قد يضطر الطفل إلى استخدام إيماءات أو كلمات جديدة للتعبير عن احتياجاته، ويمكننا كوالدين استغلال هذه الفرص لتعليم الطفل كيفية طلب المساعدة، أو كيفية التعبير عن مشاعره في سياقات مختلفة.
ذكريات عائلية لا تُنسى: كنز حقيقي! التجارب المشتركة، سواء كانت ممتعة أو مليئة بالتحديات، تخلق ذكريات قوية ومترابطة للعائلة بأكملها، هذه الذكريات تشكل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ العائلة وقصتها، الاحتفال بالنجاحات الصغيرة أثناء السفر، كقدرة الطفل على الجلوس بهدوء في مطعم جديد، أو استمتاعه بزيارة مكان لم يكن متوقعاً، يعزز الروابط الأسرية الإيجابية.
أهلنا الأبطال: لا تنسوا أنفسكم!
لا يمكننا أن نغفل أهمية الاعتناء بأنفسنا كأولياء أمور، رعاية طفل من ذوي اضطراب طيف التوحد تتطلب طاقة هائلة، والسفر يزيد هذا العبء.
خصصوا وقتاً لأنفسكم: إذا كان ذلك ممكناً، حاولوا تخصيص بعض الوقت لأنفسكم خلال الرحلة، قد يكون ذلك ليلة واحدة ينام فيها أحد الوالدين مبكراً بينما يتولى الآخر رعاية الطفل، أو فترة قصيرة للاسترخاء في الفندق بينما الطفل يلعب بأمان مع أحد أفراد الأسرة، لا تشعروا بالذنب لطلب المساعدة من شريك حياتكم أو أفراد الأسرة الآخرين الموجودين معكم.
2. لا تقارنوا أنفسكم بالآخرين: تذكروا أن رحلتكم فريدة، لا تقارنوا تجربتكم العائلية بتجارب العائلات الأخرى التي قد لا تواجه نفس التحديات، ركزوا على نجاحاتكم الخاصة وعلى تقدم طفلكم، احتفوا بالخطوات الصغيرة والإنجازات اليومية.
كونوا واقعيين ومتفائلين: لا تضعوا توقعات غير واقعية للرحلة، قد لا تسير الأمور دائماً كما هو مخطط لها، وهذا أمر طبيعي، المرونة والقدرة على التكيف هما مفتاحا النجاح، تذكروا أن الهدف الأساسي هو قضاء وقت ممتع مع عائلتكم وخلق ذكريات إيجابية، حتى لو تخللت الرحلة بعض اللحظات الصعبة.
السفر: مغامرة الحياة للجميع!
السفر مع طفل من ذوي اضطراب طيف التوحد هو في الواقع رحلة معقدة ومتعددة الأوجه، إنه يمثل تحدياً مباشراً للروتين المألوف، ويواجه المشاعر الحسية، ويختبر مهارات التواصل، ويستدعي أقصى درجات الصبر والمرونة من الوالدين، ومع ذلك، فإن كل لحظة من هذه الرحلة، سواء كانت ناجحة أو مليئة بالعقبات، تساهم في صقل مهارات الطفل في التكيف، وتعزز قدرته على فهم العالم من حوله، وتُثري قاموسه الحسي والتواصلي.
بالتخطيط الدقيق، والتواصل الفعّال مع الطفل ومحيطه، واستخدام الأدوات والاستراتيجيات المناسبة، يمكن تحويل ما يبدو مستحيلاً إلى ممكن، إنها فرصة فريدة لتقوية الروابط الأسرية، واكتشاف جوانب جديدة في شخصية الطفل وقدراته، والمساهمة في زيادة الوعي المجتمعي باحتياجات الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد.
لنتذكر دائماً أن السفر ليس مجرد وسيلة للانتقال من مكان إلى آخر، بل هو تجربة تعليمية شاملة، تفتح آفاقاً جديدة، وتبني ذكريات لا تُنسى، وتؤكد أن العالم مكان يمكن لكل فرد ـ بغض النظر عن قدراته ـ أن يستكشفه ويستمتع به، إنها رسالة أمل وتفاؤل، تؤكد أن الحياة مليئة بالفرص، وأن السفر جزء لا يتجزأ من هذه الحياة، يمكن للجميع الاستفادة منه والاستمتاع بجماله.























