من الملاحظ مؤخراً في العديد من الدول العربية الإقبال الكبير على تعلم وتعليم لغة الإشارة مما يعطي مؤشراً جيداً على مدى تقبل عامة المجتمع للغة الإشارة كلغة مستقلة كغيرها من اللغات وذلك أسوة بالدول المتقدمة بتربية وتعليم الصم حيث تحتل لغة الإشارة المركز الرابع بعد اللغة الاسبانية والفرنسية على مستوى الاقبال على تعلمها بين طلاب وطالبات الجامعات في الولايات المتحدة في عام 2016 (The modern language association of America 2018) حيث بلغ عدد المسجلين في مواد لغة الإشارة 107.060 طالباً وطالبة على مستوى الدولة في عام واحد، ونظراً لهذا التوجه فقد تجد بعض الجهات تقدم لغة الإشارة كفقرة في فعالية أو نشاط اجتماعي على قارعة طريق.
ويرافق هذا الانتشار والاقبال رسائل مبطنة مفادها أن لغة الإشارة لغة سهلة جداً جداً وهي عبارة عن وصف لشكل الشيء ومجموعة من الايماءات التي يستخدمها السامعون مع اللغة المنطوقة كالإشارة بالسبابة مع كلمة لا أو الإشارة لمكان بعيد بمد الذراع مع الإشارة بالسبابة لمكان اقصاء الأفق.
وهذا الإقبال المتزايد مع مرور الإيام يقابله تزايد في انتشار العديد من المعلومات المغلوطة عن اللغات المؤشرة لعدة أسباب. منها على سبيل الذكر عدم اتقان مقدم دورات لغة الإشارة للغة الإشارة، عدم تخصص المقدم بلغة الإشارة، عدم توفر منهج علمي صحيح للغة الإشارة، الاعتماد على الخبرات والمواقف الشخصية، والعديد من الأسباب.
فهل فعلاً لغة الإشارة لغة سهلة جداً جداً ويمكن تعلمها بسهولة وبوقت قصير؟ أي هل لغة الإشارة هي ما كان المشاهد العربي في مختلف البلدان يشاهده في فقرة من غير كلام على الشاشات العربية التي لاقت رواجاً كبيراً في ذلك الوقت من المشاهد العربي.
بل مما يزيد الأمر تعقيداً هو استحداث مصطلحات في لغة الإشارة من قِبل بعض الأشخاص السامعين التي لا تعتبر لغة الإشارة لغتهم الأولى كالمبتدئين في علم ترجمة لغة الإشارة أو العاملين في الميدان التربوي أو الطبي. حيث تحدثت إحدى الدراسات الحديثة التي تركز على معرفة اعتقادات وتوجهات المعلمين تجاه لغة الإشارة السعودية عن اعتقاد العديد من المعلمين في معاهد وبرامج الصم بقدرتهم على استحداث مصطلحات إشارية للمفردات العربية في حالة عدم توفر مصطلح إشاري يقابلها في لغة الإشارة السعودية (العمري، 2017).
كما أشارت بعض الدراسات إلى ضعف مستوى المعلمين والمعلمات في لغة الإشارة وحاجتهم الماسة إلى العديد من الدورات الأكاديمية التي تساعدهم على رفع المستوى اللغوي الإشاري لديهم. مع العلم أن جميع المعلمين والمعلمات لا تعتبر لغة الإشارة لغتهم الأم وذلك لعدم توفر المعلمين والمعلمات الصم ممن تعتبر لغة الإشارة لغتهم الأساسية بشكل رسمي ومماثل للسامعين كما هو في العديد من الدول المتقدمة في مجال تربية وتعليم الصم. إن استحداث مصطلحات في لغة من قِبل مجموعة ممن لا تعتبر هذه اللغة لغتهم الأساسية والطبيعية فكرة غير مقبولة في علم اللغويات مهما كان مستوى إتقان هذه اللغة. فالمجتمعات العربية لا تتقبل مصطلحات تم استحداثها في لغتهم الأم اللغة العربية ممن تعتبر اللغة العربية لغته الثانية أو الثالثة. وهنا القياس مع الفارق فمجتمع الصم ولغة الإشارة يعتبران أقلية في المجتمع العربي الكبير كما يعتبران في مكان متلقي الخدمة دائماً.
فهل لغة الإشارة سهلة الاستحداث وقابلة للتصويت؟
في البداية يجدر بنا معرفة الشيء لتصوره فتُعرف لغة الإشارة بأنها لغة بصرية طبيعية تستخدم بين أفراد مجتمع الصم للتواصل ونقل الأفكار والمعلومات. تتكون من شكل اليد (Hand shape) الحركة (Movement) المكان المحدد (Placement) حركة الجسم ((Body movement وتعابير الوجه ((Facial Expressions. كما تتميز لغة الإشارة بقواعدها ومصطلحاتها المعجمية (العوفي، 2019). فلغة الإشارة لها مجتمع معين وتنشأ وتتكون بشكل طبيعي كما هو في بقية اللغات المنطوقة.
ولكل مجتمع من مجتمعات الصم لغته الإشارية الخاصة به التي ترتبط بثقافته كما هو في المجتمعات السامعة ولغاتها المنطوقة حول العالم. فكما أن لغات الإشارة تعتبر لغات مستقلة بذاتها كاللغات المنطوقة فلا تُبنى على مبدأ التصويت والاختيار، كذلك اللغات البشرية تنشأ وتتطور بشكل طبيعي وغير ملحوظ مع مرور الزمن، فاللغة العربية التي يتواصل بها العرب في وقتنا الحالي تختلف عن اللغة العربية في العصور السابقة من خلال استخدام مصطلحات جديدة وقلة استخدام بعض المصطلحات الأخرى بل إن بعض المصطلحات يظن بعض العرب أنها ليست بمصطلحات عربية ولم يسمع بها طوال حياته. فعل سبيل الدعابة حاولت وما زلت بشكل مستمر عند زيارتي لمحل الحلاقة الرجالية في عدة مدن ودول عربية سؤال الحلاق الذي يتعامل مع الشعر كل يوم وكذلك من أصادف من الحضور عن اسم الشعر الذي في وجه الرجل يظهر أعلى الذقن وتحت الشفة السفلى ويكون عادة بشكل مثلث أو دائري؟ فاسمع العديد من المسميات العجيبة والغريبة مع نسبة كبيرة لم يخطر على باله ما اسم هذا الشعر فهل هو جزء من الذقن أو تحت ملكية الشوارب. لا بل إنني وجدت العجب على وجه الجميع إذا عرف أن اسمها باللغة العربية (العنفقة) (قد تكون أنت أخي القارئ لم تسمع بها من قبل!!! فلا مانع من البحث في الانترنت عن هذه المعلومة).
من الملاحظ لدى الجميع كثرة انتشار اللهجات بين المجتمعات العربية. هذا التغير الملحوظ لم يتم بين ليلة وضحاها. كما أن اللغات البائدة انقرضت على مر العصور كاللغات اليونانية والإغريقية القديمة نتيجة تدخل بشري قسري كتطهير عرق بشري أو إجبار مجتمع على تعلم لغة أخرى كما تم في قارة أمريكا الشمالية وهجرة الأوربيين إليها إبان اكتشافها كلغة السكان الأصليين في ألاسكا مثلاً وهي لغة (إياك) (Krauss, 2006) كما تشير منظمة اليونسكو في تقريرها إلى أن انقراض بعض اللغات يعتبر كارثة حضارية وثقافية. فهناك 3000 لغة من بين لغات العالم مهددة بالانقراض في الفترة بين الأعوام 2050 و2400. كذلك اللغات المؤشرة تحتاج لعصور كي تتطور وتتشكل وتكتمل بشكل طبيعي يكفل لها الاستمرار لا أن تتشكل بتدخل بشري بتصويت أو انتخاب أو إجبار مجتمع من مجتمعات الصم بالتواصل بلغة إشارية معينة (WFD, 2013).
من منظور علم اللغويات المؤشرة يتطلب إتقان لغة الإشارة جهداً ووقتاً وصبراً وتدريباً كغيرها من اللغات. فلغات الإشارة ليست مجرد لغات وصفية بل إن المصطلحات الوصفية الإشارية (Iconic Signs) تشكل نسبة قليلة في اللغة مقارنة بالمصطلحات غير الوصفية (Arbitrary Sings).
ونظراً لكثرة الخلط بين المصلحات الإشارية والإيماءات التي يستخدمها عامة الناس مع اللغات المنطوقة مما يجعل المبتدئين في تعلم لغة الإشارة يعتقدون أنها لغة سهلة جداً قد تتطلب دورة قصيرة لمدة أيام معدودة أو مجرد حفظ المفردات الإشارية من قواميس اللغة والتدريب عليها. في المقابل تجد العديد من الأشخاص الذين يعملون مع الصم في المؤسسات التربوية والمهنية وكذلك الطبية لعدة سنوات بل آسر الأشخاص الصم كمثال حي على عدم اتقان لغة الإشارة بشكل مرضي بل قد لا تتعدى معرفتهم للغة الإشارة مجرد إشارات بسيطة مما يوضح لنا بشكل جلي أن لغة الإشارة لغة معقدة وتتطلب تعليماً أكاديمياً وعلمياً وليس مجرد حفظ ومراجعة مفردات القاموس الإشاري أو التدرب على الحروف الأبجدية العربية الإشارية. فلا توجد لغة إنسانية يتم تعلمها عن طريق القواميس. بل تجد الكثير ممن يتقن اللغة الانجليزية كلغة ثانية ولم يطلع على قواميس اللغة الانجليزية كقاموس أكسفورد أو قاموس كامبريج للغة الإنجليزية لإتقان اللغة.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الجانب المهم في لغة الإشارة وهو أن إتقانها بمستوى معين لا يعني إتقان ترجمتها. فعلم الترجمة علم مستقل بذاته كما هو في اللغات المنطوقة، فإتقان لغتين منطوقتين بشكل عالٍ لا يعني أن الشخص أصبح مترجماً لتلك اللغتين. فالترجمة تتطلب ما يسمى في علم اللغويات بقدرة العقل على التبديل بين لغتين أو أكثر (Code switching) وهي أن قدرة العقل ومهارته في سرعة الاستجابة في مركز اللغة للتبديل بين اللغتين بشكل سلس وسريع. كما تتطلب الترجمة الفورية لعدة مهارات منها على سبيل الذكر اختيار المصطلحات المناسبة والصحيحة، مهارة اللغة الاستقبالية، وكذلك المفاهيم الصحيحة اصطلاحاً ((Conceptually appropriate.
إذن هل لغة الإشارة لغة سهلة تستطيع أن تتقنها بسهولة؟
للحديث بقية