إن الله ـ جل علاه ـ ما فرض أمراً على عبيده إلا وهو جاعله في ميزان الفطرة البشرية السليمة التي فطر الله عليها الإنسان، ومن هذه الفرائض الصلاة، ففي أركانها ما يلائم هذه الفطرة ألا وهو الخضوع والتذلل للواحد الأحد، وفرضت الزكاة لتزكية النفوس من الشح والبخل، وفرض الحج للتوجه إلى الله وقصد بيته تقرباً إليه، وفرض الصوم حتى تنضبط به الفطرة البشرية وتستقيم النفس والجوارح.
وبما أن المقام يحثنا للحديث عن فرض الصوم، فنسأل الله العون والمنة بما يفيد ويثبّت.. إذ قال الله تعالى في كتابه الكريم: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} (البقرة ـ 183).
فتشريع الصوم على عبيده ما هو إلا لحكم جليلة ومنها: انهماك الناس في أمور الدنيا، وانشغالهم بأمور عدة ومتشعبة، فتنهك الروح والنفس والصحة.. فيحتاج بالتالي لمحطة يتزود بها، ويتروض فيها، ويتغذى الغذاء الروحي الذي هجره الناس، فيتطبع من ثم بالخلق الطيب الحسن، حتى يصبح فرداً بناء.. معطاء.. منتجاً.. طيب النفس، فيكون له بالتالي دور اجتماعي في مجتمعه.. ليتفتق عقله بما هو متجدد.
نعم.. ولم لا فالغرب أصبح يقلدنا في أمر الصيام لما له من دور من الناحية الصحية البدنية والنفسية، وهذا ليس لغرض ديني بل دنيوي.. فكما قلنا ما فرض الله أمراً وشرعه إلا لملاءمته للفطرة البشرية.. فكيف يجحد بذلك الجاحد!!
سبحان الله أصبح غير المسلمين يصومون حفاظاً على الصحة والعافية، وأصبحنا نحن أهل الإسلام نجحد في فروضه وتعاليمه، فمنهم من لا يصلي، ومنهم من لا يصوم إلا من رحم ربي..
فلم الصوم؟ وماذا في الصيام؟
مبدئياً يصوم المرء المسلم طالما أذعن بإسلامه، وإيمانه بالله اتباعاً لما فرض الله عليه.
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه). ففرق بين من صامه إيماناً واحتساباً للأجر، ومن صامه ولم يكتسب منه الطاعات المدعاة لرحمة الله جل وعلا.
ــ فسبحان الله.. تقول لي إحداهن: هذه الإجازة جيدة، إذ ستكون في أيام رمضان فلن أتعب من تجهيز أطفالي للمدرسة!
ــ قلت لها: ولماذا؟
ــ فقالت: نسهر في الليل حتى الفجر ونصلي، ومن ثم ننام حتى الظهر، والسهر في رمضان أحلى من السهر في ليال أخرى!!
استغفر الله.. لقد أصبحت ليالي رمضان للسهر والسمر والتسمين، رغم أن هذا يخالف الفطرة.. فقد بين الله في كتابه الكريم: {وجعلنا الليل لباساً.. وجعلنا النهار معاشاً} (النبأ ـ 11). نعم.. فعلى المرء أن يستغل معظم أوقات أيام رمضان في تقوى الله والعمل الصالح.
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: «آمين.. آمين.. آمين»، قيل: يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت: آمين. آمين. آمين، فقال: «إن جبريل ـ عليه السلام ـ أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله. قل آمين، فقلت: آمين» (رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحه).
(فدخل النار: أي استعمل الفجور والفسوق وأفطر فيه، وعصى الله تعالى، وخالف شرع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ينتهز فرصة الشهر ليتوب فيغفر له الله).
نعم.. فقد روى البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عزوجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فلي، وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم.. إني صائم».
(فلا يرفث: لا يتكلم بالكلام الفاحش، ولا يهذي ولا يسرف في المزاح، ولا يداعب نساءه خشية أن يجر إلى الجماع ـ ولا يصخب: لا يخاصم ولا يجادل ـ وإن سابه أحد: وجه إليه ألفاظ السباب والشتائم).
وفي رواية أخرى للبخاري: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». (من لم يدع: يترك ـ قول الزور: الكذب والضلال والغيبة والنميمة).
فنجد أن الناس قد نسوا ذلك، بل تناساه البعض منهم، فجعلوا رمضان شهراً للكسل والطعام.. فتجهيزهم، وتهيئتهم له تكون بالذهاب للسوق وشراء ما فاض عن الحاجة من طعام وشراب، وطبخ ما يشتهيه كل فرد من العائلة بلا حساب! رغم أنه من الأفضل استغلال هذه الساعات الطيبة بقراءة القرآن مثلاً..
ويذكر الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» أسرار الصوم وما فيه بنقاط عدة منها:
- غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، وإلى ما يشغل القلب، ويلهي عن ذكر الله، عزوجل.
- حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن.
- كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله ـ عز وجل ـ بين المستمع، وآكل السحت، فقال تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت). (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت). فالسكوت على الغيبة حرام. وقال تعالى: (إنكم إذاً مثلهم).
- كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل، وعن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار.
- ألا يكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه.
- أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء، إذ لا يدري أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من الممقوتين» (أهـ ص 112 ج1).
فنجد أن البعض منهج يوم صيامهم:
- بعد صلاة الفجر منهم من يذهب للعمل والدوام، فإن أتاه أحد لطلب إجراء عمل له ينفخ شدقيه، ويتضجر، وتحمر عيناه، وربما صب جام غضبه على هذا المسكين، وكأن الصوم هو سبب هذا الضيق.. فلا يؤدي المعاملات جيداً، ويستغل أية فرصة ليغفو قليلاً..
- ومنهم من يذهب إلى المدرسة والدراسة فيجر قدماً ويعيد أخرى.. فإن قيل هناك اختبار أو واجب منزلي تضجر الجميع، وكأن العمل والواجب المنزلي محرم في هذا الشهر الكريم.
- ومنهم من يبقى في المنزل يستغل الصوم في النوم من الفجر وحتى وقت الإفطار يومياً على هذا الحال، حتى انقضاء أيام الصيام، وربما لا يقوم لصلاة..
- والبعض.. يستغل هذه الأوقات في تجهيز ما لذ وطاب من الطعام والعصائر حتى إذا أتى وقت الفطور يأكل الصائم أكلاً جماً.. وينسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد» (رواه البيهقي). فمن الممكن أن يدعو بما شاء في هذه اللحظات عند فطره، ويستغلها بالدعاء، بدل أن يشغلها بالكلام بما ليس منه فائدة، فالكلام من الممكن تأجيله، ولكن هذه اللحظات النيرة لا يمكن أن تعود بعد مضيها.
وهناك حديث مهم، فعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي، فأتياني جبلاً وعراً، فقالا: اصعد! قلت: إني لا أطيقه، فقال: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة. قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلقا بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً. قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم» (رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما).
(أخذا بضبعي: قبضا على كتفيه وأمسكا إبطيه ـ وعراً: صعب المسلك، أي الوصول إليه يكون بشدة وألم ـ سنسهله لك: نجعله لك سهلاً، ونساعدك على صعوده ورقيه ـ سواء الجبال: وسطه ـ قبل تحلة صومهم: يفطرون قبل وقت الإفطار).
ويفضل كتهيئة للمعدة ألا يكثر في البدء من الطعام بحيث يشرب الماء مع التمر تطبيقاً لسنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم. فعن سلمان بن عامر الضبي الصحابي ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور» (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح). وبعد إنهاء هذه اللقيمات يصلي فرضه، وبعد ذلك إن أحب قرأ القرآن، وأكل من ثم طعام فطوره.. فبذلك يكون الأمر صحياً ومنضبطاً..
فسبحان الله.. نجد البعض ـ عافانا الله ـ بعد الانتهاء من طعام الفطور يصلي بعجلة حتى يتسنى لهم اكمال الأمر بمشاهدة التلفاز فيكون جوفه مملوءاً بالطعام، وفكره بالفساد الناجم عن التلفاز فيتجه للصلاة في المسجد..
ونجد المرأة تكثر من العطور والتطيب قبل خروجها لصلاة التراويح، فإنها تكون بذلك كما قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية» (رواه الترمذي).
وفي المسجد يكثر الصخب النسائي، والأحاديث الجانبية فمنها عن الطبخة الفلانية.. وعن فلانة وعلانة من الناس.. وهلم جر.. وسبحان الله.. يستغلون الفترات التي بين ركعات التراويح، ولو كانت دقائق أو ثواني معدودة.. فمن أين بذلك سيجدون الطيب الروحي والتهذيب النفسي والخلقي لما يرضي الله.. وهم لا يستغلون الأسباب المؤدية للتهذيب الروحي حتى تستقيم أخلاقهم..
وبصورة عامة نجد الصائم أياً كان رجلاً أو امرأة يحوم ويجول بناظريه بين الرجال.. أو النساء فلا يغضون البصر عما حرمه الله.. متجاوزين بذلك حدود الله.. قال الله تعالى في سورة النور عن غض البصر: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} (النور 30 و31).
وكأن ما كان رمضان إلا جوعاً وعطشاً..
وبعد صلاة التراويح يحلو السهر.. حتى إذا ملهم السهر خمدت الألسنة عن الحديث، وغمضت الجفون.. وربما تضيع عنهم صلاة الفجر ولا تؤدى في وقتها.. رغم أنه كان من الممكن بعد صلاة التراويح أخذ فترة من الراحة أو زيارة رحم.. وبعد ذلك أخذ فترة من النوم، وفي ثلث الليل الأخير يقوم فيه لأداء صلاة الليل وقراءة القرآن.. حتى ينتهز الفترة القريبة من الإمساك في السحور. فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة» (متفق عليه).
وبعد..
فرمضان للقضاء على السلبيات وابدالها بالإيجابيات، ولتنمية الايجابيات وتثبيتها وليس لزيادة السلبيات بسلبيات أخرى.. وعلى المرء حق لإخوانه.. فعن زيد بن خالد الجهني ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء» (رواه الترمذي).
فهنيئاً لمن صام رمضان وقامه، فتقبل منه، ورضي عنه وآجره بحسن الجزاء..
اللهم تقبل منا صيامنا.. وقيامنا، وارزقنا حسن اغتنامه والعمل بما يرضيك وإلى ما يرضيك.. واجعلنا من عتقاء النار ومن أهل باب الريان..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.