بقلم: د. عبد الله الغامدي
من سمات صعوبات التعلم عدم ظهورها على الشخص بأي مظهر؛ فعند مقارنتها بالإعاقات الأخرى مثل الإعاقة البصرية على سبيل المثال، يسهل التعرف على الإعاقة البصرية من حمل الشخص للعصى البيضاء أو وجود مساعد يمشي بجانبه، وذلك على عكس صعوبات التعلم حيث لا يظهر أي إيحاء يشير لوجود صعوبات تعلم لدى الشخص، ومن سمات الأفراد ذوي صعوبات التعلم أن لديهم تحديات داخلية عميقة تتمثل في مشاعر الإحباط والفشل المتكرر؛ بسبب عدم القدرة على إنجاز العمل المطلوب مقارنة بزملائهم في الصفوف الدراسية، واستمرار هذه التحديات الداخلية لفترة طويلة يعقد معالجتها، والذي ينعكس سلبا على تعليم الشخص ومستواه الأكاديمي وربما شخصيته بالكامل، ولكن هل من حل لمثل هذه المشاكل غير الظاهرة؟ نعم، سأسرد في الأسطر التالية قصة كوفمان بروفيسور علم النفس الذي تخرج من جامعة ييل الأمريكية وكامبردج البريطانية الذي عانى من صعوبات التعلم حتى عمر (14) سنة، وما الذي حدث له وغير مجرى حياته، وكيف من الممكن توظيف ذلك لخدمة ذوي صعوبات التعلم؟
لقد تم تشخيص كوفمان في مرحلة مبكرة من حياته على أنه من فئة بطء التعلم، يقول كوفمان عن نفسه أنه تعرض للكثير من التهابات الأذن في مرحلة مبكرة من حياته مما أثر على استيعابه للمعلومات عند سماعه لها، ويستمر بقوله لقد كنت متأخراً بخطوة أو اثنتين في اتباع التعليمات عن زملائي بالصف، ثم تمت إعادة تشخصيه وتصنيفه ووضعه في صعوبات التعلم بعد إجراء اختبار الذكاء له، واستمر يدرس في صف خاص بذوي صعوبات التعلم حتى عمر (14) عاما، ولكن سؤال واحد من معلم تربية خاصة أعاد توجيه البوصلة لكوفمان، والسؤال هو: لماذا انت هنا؟ لماذا لا تتحدى قدراتك؟ يقول كوفمان قبل هذا السؤال كان لدي قناعة بأني مجرد طفل يعاني من صعوبات التعلم لا مستقبل له بقدرات ذكاء منخفضة حسب نتائج اختباراتي في الذكاء، يقول: بدأت بالتساؤل من أنا؟ وهل سأبقى هكذا؟، ثم يقول بعد هذه التساؤلات قررت الاشتراك في كل نشاط تعرضه المدرسة لأتحدى قدراتي مثل: نشاط اللغة اللاتينية، ودروس الموسيقى، وغيرها، يقول: لم أتفوق فيها كلها ولكنني تعلمت أنني لم أكن متدني القدرات كما ظننت عن نفسي وأنه لدي القدرة على التعلم.
ويقول كوفمان لقد تعلمت العزف على آلة الكمنجة والتي يعزفها جدي بالمنزل؛ حيث إنه يعمل في فرقة أوركسترا مسائية، ويقول طلبت من جدي تدريبي أكثر على هذه الألة واستمريت بالتدريب فترة الصيف لمدة (8) أو (9) ساعات يوميا حتى أتقنتها، ثم يقول زاد عزمي على التدريب المستمر لأثبت لأي شخص أن قدراتي عالية، من هو هذا الشخص الذي يريد أن يثبت له كوفمان قدراته؟ يقول كوفمان: لا يهم أي شخص كان، المهم هو أن أثبت أن قدراتي عالية، ويقول كوفمان: لقد تطور مستواي كثيرا في العزف مما جعلني التحق بفرقة الأوركسترا بالمدرسة لأصبح ضمن فريق العزف المدرسي، يقول استمريت بالتدريب أثناء وقت الغداء لأتطور وأنتقل لمستوى أعلى إلى أن أصبحت أفضل عازف بالفرقة وحصدت عددا من الجوائز في مسابقات المدرسة.
يقول حصولي على الجوائز انعكس على مستواي الدراسي؛ حيث أصبحت درجاتي أفضل بكثير وأقرب ما تكون لدرجات التفوق في الكثير منها، يقول كوفمان: أردت الالتحاق بصفوف الموهوبين؛ حيث إن الكثير من زملائي التحقوا بها، لقد ذهبت إلى اختبار الذكاء مجددا، يقول: بدأت الأخصائية النفسية بمراجعة اختباراتي السابقة للذكاء فوجدت أنني تحسنت لأصبح في المكان المعتدل ولكنني لم أصل لدرجة الموهبة وفق منحنى التوزيع الطبيعي، فقلت لها ماذا عن التحصيل الدراسي المرتفع، والذي حققت مستوى متقدم فيه؟ يقول بأنها نظرت له وهزت رأسها ثم أشارت إلى الباب، أي اخرج، يقول عندها قررت أن أتخصص في الذكاء لأغير من هذه الطريقة في الحكم على الأطفال؛ لذلك ذهبت بعد التخرج من المدرسة الثانوية لدراسة هذا المجال تحت تخصص علم النفس وتم رفضي بسبب انخفاض درجاتي في اختبار القدرات العامة، يقول: عندها زاد عزمي لدراسة هذا التخصص ويجب أن أجد طريقة لفعل ذلك، يقول كوفمان: عندها لم يكن أمامي سوى الالتحاق بقسم الموسيقى والتي امتلك فيها موهبة العزف، وقد تم قبولي في قسم الموسيقى ومباشرة سجلت مادة علم النفس كمادة اختيارية وحققت فيها أعلى الدرجات، ثم في الفصل التالي أضفت علم النفس كتخصص دقيق لي، وفي السنة التالية غيرت تخصصي بالكامل إلى علم النفس، يقول كوفمان: استمر تفوقي الدراسي حتى تخرجت بمعدل كامل ومرتبة شرف مما جعلني التحق بجامعة ييل لدراسة الماجستير والدكتوراه، وهي إحدى أعرق وأقوى جامعات العالم بالولايات المتحدة (Duckworth,2015, p:31-34).
وقد عمل كوفمان لاحقا أستاذا جامعيا في عدد من الجامعات مثل جامعة بنسلفينيا، وباحثا لدى جامعة كامبردج، وله عدد من الأبحاث والمؤلفات، لقد اختير كواحد من ضمن (50) عالما استطاعوا أن يغيروا الطريقة التي نرى بها العالم، وذلك وفق مجلة بزنس انسايدر بسبب إعادة تعريفه للذكاء الإنساني وطريقة قياس الذكاء، ويمكن الرجوع إلى الرابط التالي:
والآن وبعد ذكر قصة كوفمان هناك عدد من التساؤلات: ماذا لو لم يحفزه معلم التربية الخاصة؟ ماذا لو لم يطلب منه تحدي قدراته؟ ماذا لو منعته المدرسة من الالتحاق بالأنشطة المختلفة؟ ماذا لو لم يجد له موهبة يتدرب عليها وينطلق من خلالها؟ ماذا لو استسلم واقتنع بنتائج اختبارات الذكاء؟
في الحقيقة أن لكلمات المعلمين وقع كبير على الطلاب وخصوصا الصغار منهم، حيث إنهم يتلقونها كمسلمات وحقائق ثابتة، فانتقاء العبارات الإيجابية المحفزة لها تأثير عظيم على الأطفال، فما يقوله الآخرون للطفل عن نفسه يصبح جزءا من شخصيته، ومرآة يرى فيها نفسه، وكلما كان هذا الشخص أكثر قبولاً لدى الطفل كلما كانت العبارة أعمق أثرا في نفسه، وأكثر تأثيرا على شخصية الطفل، وأكثر تصديقاً لها.
والأطفال ذوو صعوبات التعلم يقارنون أنفسهم بالأخرين، يقارنون بين نقاط القوة لدى الآخرين ونقاط ضعفهم مما يجعلهم يرون أنفسهم أقل وأضعف من خلال هذه المقارنة غير العادلة؛ فلربما تعرض أحدهم لأمراض في الصغر مثل كوفمان عندما تعرض للكثير من التهابات الأذن في الصغر، والتي أثرت على بدايته الدراسية بل حولت مساره التعليمي نحو فئة ذوي صعوبات التعلم لمدة (9) سنوات؛ لذلك لابد من تدريب الأطفال ذوي صعوبات التعلم على زيادة الثقة بالنفس؛ لما لها من أثر في صقل المهارات، ورفع مستوى المثابرة الشخصية لديهم، وزيادة التحصيل والتفوق الأكاديمي، وبالمقابل لابد من استثمار الأنشطة غير الصفية في اكتشاف وتنمية مواهب الأطفال ذوي صعوبات التعلم حيث إنها تفتح لهم الأفاق وتوسع مداركهم وتعيد توجيه بوصلة النجاح الأكاديمي، وبالتأكيد ليس الكل سيصبح ضمن أفضل (50) عالما مثل كوفمان، ولكن يبقى من أهم عناصر النجاح هو الثقة بالنفس، وتقدير الذات للأطفال ذوي صعوبات التعلم.
وأخيراً علينا الاستفادة من تجربة كوفمان بدراسة خيارات أخرى غير مؤشرات الذكاء للحكم على الأطفال أو تقييم مستواهم، كما أنه يتوجب علينا تغيير الوصمة التي تلحق بالطفل بسبب تشخصيه؛ حيث إنه يتأثر سلباً عند وضعه في هذا التصنيف.
المراجع:
Duckworth, A., & Duckworth, A. (2016). Grit: The power of passion and
perseverance (Vol.234). New York, NY: Scribner.
د. عبد الله الغامدي
[email protected]
[email protected]
00966561999039
أستاذ التربية الخاصة المساعد في جامعة الطائف.
متخصص في صعوبات التعلم، مهارات القراءة، الاختبارات الدولية، تطوير التعليم.
حاصل على الدكتوراه من جامعة ولاية تينيسي الأمريكية.
لدي بحث منشور بعنوان: الصعوبات التي تواجه معلمي القراءة للتلاميذ العاديين وذوي صعوبات التعلم بالمرحلة الابتدائية.
لدي بحث اخر منشور:
Developing service-Learning skills to serve the international PK-12 students.
شاركت في مؤتمر الأطفال الاستثنائيين Council of Exceptional Children
في حلقة علمية بعنوان: Disabilities in Global Context
عضو في المنظمة منذ عام 2013 حتى تاريخه.