لا يخفى على المهتمين في ميدان التربية الخاصة أهمية الدمج التربوي كأسلوب تربوي حديث في تعليم الأشخاص من ذوي الإعاقة وما له من أثر نفسي واجتماعي على الطفل المعاق وأسرته، وعلى الرغم من بدايات الدمج كأسلوب تربوي حديث في رعاية وتربية هذه الفئة وما صاحبه من اختلافات في الرأي حول أهميته لبعض فئات المعاقين عن الأخرى وأهليته كنظام مساند للعملية التربوية والتعليمية فإننا نجد أن بعض الآراء والاتجاهات النفسية والتربوية ترى عدم إمكانية استفادة ذوي الإعاقة الذهنية ممن لديهم متلازمة داون من الدمج كونها فئة غير قابلة للتعليم وأنها تحتاج إلى برامج تهيئة مهنية وخدمة الذات أي تدريبها على المهارات الاستقلالية وأن من يقوم بهذا الدور هي وزارة الشؤون الاجتماعية، بينما اتجاه آخر يرى عكس ذلك بأنها تحتاج مهارات تعليمية بسيطة، وتهيئة مهنية ضمن نطاق المدرسة العادية.
وتحتج المجموعة الأولى بأن هؤلاء الأطفال ممن لديهم متلازمة داون غير قادرين على التفاعل والتكيف مع أقرانهم من غير المعاقين نتيجة عدم مقدرتهم أو صعوبة تفاعلهم مع البيئة المحيطة بهم وخاصة البيئة المدرسية نتيجة قصورهم في التواصل وضعف لغتهم التعبيرية والاستقبالية مما يؤدي إلى ضعف تفاعلهم واندماجهم اجتماعيا مع أقرانهم، وبالتالي يؤثر ذلك سلباً على ذواتهم، وقد يعرضهم لبعض المضايقات أو العزلة نتيجة ذلك القصور.
لفت انتباهي ذات يوم بينما كنت أحضر احتفالاً لبرنامج التربية الفكرية في إحدى المدارس، وكانت إحدى الفقرات الأكثر روعة من تقديم طفل من متلازمة داون الذي أنشد أنشودة رائعة وبشكل يدعو النفس إلى التدبر والتفكير بعمق بهذه الفئة.. يقف الطفل واثقا من نفسه يمسك بمكبر الصوت وأمام جمع كبير من الطلاب والحضور وبكل ثقة يصدح بصوته مجلجلا بين أسوار المدرسة وبين الحضور، وحتى وإن كانت كلماته غير واضحة إلا أنها كانت مميزة ولها واقع مفرح في النفس بصوته العذب، وكانت الإنشودة بعنوان: (لا تلمني يا صديقي) للشاعر عبدالله الملق ــ رحمه الله ــ ومن كلماتها:
وهي أنشودة طويلة استطاع الطفل أن يحفظها ويقول لأصحاب الرأي الذين قالوا عنه إنه لا يستطيع أن يتفاعل مع أقرانه من غير المعاقين ولا يصلح للدمج: ها أنا ذا أصدح بصوتي عاليا في مدرستي وبيئتي الطبيعية، ولذا أصبح هذا الطفل مثار إعجاب كل المدرسة من معلمين واداريين وزوار حتى أنه في احتفالات المدرسة هو أول من يقدم فقرة الحفل أو طابور الصباح…
أعود إلى ما ذكرت… وبينما هو ينشد كنت أفكر بعمق وخلجات تتناوب في الصدر فيها شعور فرح بهذه الفئة لما تقدمه وعلامات السعادة مرتسمة على محياها، وشعور آخر فيه حزن عميق لما كانت عليه حالهم سابقاً بأنهم غير معروفين ومعزولين عن بيئتهم الطبيعية ومجتمعهم!..
لذا أدعو الله أن يبارك خطى من بدأ هذا الدمج وجعله واقعاً ملموساً، وهذه واحدة من إبراز إيجابياته التي لا تحصى وهي علامة حضارية مضيئة في بلدي للنهوض بهذه الفئة وتقديم ما تحتاجه من خدمات تربوية وتعليمية ونفسية واجتماعية ضمن البيئة الطبيعية…
وهي دعوة لكل من يتخوف من دمج هذه الفئة أو هو مبادر للتطبيق الدمج بأن لا تخافوا ولا تضعوا احتمالات الفشل أمامكم بل والله سيكون النجاح حليفكم وسترو ن أن هذه الفئة ظلمت سنين عديدة وقد أتى اليوم الذي ننفض عنها غبار الحرمان والعزل لنشعرها بكيانها وذاتها ووجودها.