بقلم الدكتور علي صابر محمد
ينفرد تجمع البشر دون سائر المخلوقات بالثقافة، والتي تعرف بأنها (ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف والعادات الأخرى، ويكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع)، ولكل جماعة بشرية ثقافتها ولعموم البشرية خيوط مشتركة وأخرى شديدة الاختلاف إذا وضعنا في الاعتبار تباين المكونات الثقافية من مجتمع إلى آخر.
اقرأ ايضا: السينما ودورها في خدمة قضايا المعاقين
والسينما هي الفن السابع الذي ساهم بقدر كبير في التكوين الثقافي لشعوب العالم، وخاصة أن انتشار الأمية حد من دور القراءة قديماً في نشر أفكار معينة بين الناس، ولذلك مع اختراع الراديو تلهف الناس على الثقافة السمعية، بينما كانت السينما بإبهارها وسهولة التلقي منها الطريق الأكثر جاذبية لكل الناس (الأمي والمتعلم)، حتى أن عظماء أدباء العالم لم يقرأهم إلا القلة بينما عرفهم ( الخواص والعوام ) بعد تحول رواياتهم الى أفلام سينمائية، ونذكر منهم في مصر ( نجيب محفوظ ويوسف ادريس ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وعلي أحمد باكثير وغيرهم ).
ومن الآثار الثقافية المعروفة عن السينما المصرية، هو أن مختلف الأقطار العربية أصبحت تفهم بسهولة تامة اللهجة المصرية لأن السينما المصرية كانت حتى وقت قريب نسبياً السينما العربية الأكثر انتشاراً وبالتالي اعتاد المواطن العربي سماع لهجة المصريين، بينما هناك لهجات محلية عربية يستحيل على سامعيها من غير أهل البلد فهم مفرداتها.
تلك جزئية من الآثار الواضحة للسينما في التفاعل الثقافي، ولكن الصورة أعمق وأوسع مدى من ذلك. فعلى سبيل المثال كان للفيلم السوري (الحدود)، للفنان القدير “دريد لحام” توجّهٌ عربي عام، عكس همَّاً عربياً ويكاد يكون عالمياً إذا نظرنا للأحوال العالمية وكيف أن المواطن لم يعد يعرف هل هو (قرغيزي أم روسي) (تشيكي أم سلوفاكي) (مقدوني أم يوناني) (تايواني أم صيني).
أختم هذه المقدمة بإقرار أن (عصر الصورة) بدأ بالسينما وتوسع بالتليفزيون (الأرضي و الفضائي) وأن الدراما المؤلفة تراجعت الآن أمام (دراما الواقع) التي تنقلها الأخبار المباشرة والبرامج التسجيلية والتغطيات الإعلامية (الموجه منها والبريء) ولكن المسرح مازال موجوداً ومؤثراً رغم انتشار السينما، والجريدة مازالت موجودة ومؤثرة رغم انتشار التليفزيون، وتطبيقاً لهذه الحقيقة علينا النظر بعمق لعلاقة (السينما والإعاقة)، ما كان منها، وما نرجو أن يكون.
السينما مرآة أم نافذة
ظلت التساؤلات عن الأفلام وطبيعتها وهل هي مرآة تعكس حال المجتمع وواقعه المباشر، وفي هذا المجال ينظر النقاد للفيلم من حيث دقته وأمانته في نقل الأحداث والتفاصيل، أم أن الأفلام نافذة ننظر منها إلى دواخل حيوات الناس وتجاربهم النفسية في مجتمع ما.
وهذه هي الحال عند الكلام عن (السينما والإعاقة)، فهل الأفلام تتناول اتجاهات المجتمع نحو الإعاقات، أم تدعو المشاهد للغوص في العالم الداخلي للشخص ذي الإعاقة. ففي دراسة تاريخ (السينما والإعاقة) يقول مارتن نوردن أستاذ الاتصال بجامعة ماساتشوستس الأمريكية: بينما كان عامة الأميركيين يريدون التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة كوسيلة للسخرية أو تأليف النكات، كانت الأفلام الأولى تعج بتصوير خالٍ من الحساسية تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة، وكانوا يضحكون عليهم وليس معهم.
ونحن فى السينما المصرية نلاحظ تلك الظاهرة في أفلام الأربعينات والخمسينات، مثل صورة الابن المعاق المتكررة في أفلام ( فيروز) و ( أبو حلموس ) وحتى ( غزل البنات ) ، فقد وضع ذلك الابن كنموذج لغرض التهكم والسخرية واختلاق الضحكات الخالية من الإنسانية.
لكن الحرب العالمية الثانية غيرت من اتجاهات المجتمع الغربي نحو الأشخاص ذوي الإعاقة، وهنا أبرزت السينما قصص شجاعة المحاربين الذين أصيبوا في المعارك، وابتعدت عن إظهار الأشخاص ذوي الإعاقة كمادة للسخرية منهم في الأفلام.
ونرى نفس هذه الظاهرة في السينما المصرية بعد قيام ثورة 52، وحربي 56 و67 وبالأخص بعد حرب 1973، ومن ذلك فيلم (حتى آخر العمر) لمحمود عبد العزيز، والذي يحكي عن إصابة طيار في المعارك الحربية بشلل نصفي سفلي أقعده على كرسي متحرك، ويستعرض معاناته النفسية وانتهازية صديقه، وهذه القصة كانت متميزة وواقعية لأنها تعتبر (نافذة) على الحياة النفسية والعلاقات الاجتماعية لمصابي الحرب الشباب (وسوف نعرض لنفس هذه النماذج في جزء السينما الأميركية).
ومن نفس الميدان – حرب أكتوبر 1973 – ظهر فيلم (الوفاء العظيم) لمحمود ياسين، والذي مثل شخصية من قابل العداء والجفاء من جاره ووالد الفتاة التي أراد خطبتها قبل حرب 1973، وبعد الحرب وتعرضه لبتر ساقه، تحول موقف والد الفتاة من الرفض إلى القبول في مشهد النهاية الذي عبر عن حالة نفسية اجتماعية عايشناها نحن في (مركز تأهيل القوات المسلحة) و (مدينة الوفاء والأمل) لمصابي الحرب في مصر، وذلك بزواج كثير من الموظفات والممرضات هناك من مصابي الحرب.
ولكن مع شديد الأسف لم تدم تلك الفترة الإيجابية في التناول طويلاً، ومن ذلك في السينما الأميركية فيلم Young Frankenstein, 1974, by Mel Brooks
والذي تعامل بشكل كوميدي مع إعاقة البطل الكفيف، والتي استخدمها المخرج كوسيلة للإضحاك في علاقة البطل مع الوحش، وكان ذلك تراجعاً للأيام الأولى في السينما.
وبالضبط هذا ما حدث في السينما المصرية التي تناولت الكفيف بالذات بإفراط كوميدي مثل أدوار (أمين الهنيدي وسعيد صالح وسيف الله مختار وعلي الشريف) الذين أصروا جميعاً على تمثيل دور الكفيف الذي يشجع فرق كرة القدم مثلاً، وعندما وجه إليهم اللوم قالوا إن هناك شخصاً كفيفاً اسمه الشيخ حسن يشجع فريق الأهلي، ولم يلتفتوا إلى أن تشجيع الشيخ حسن للفريق هو رمزي….
اقرأ ايضا: تأملات طبيب نفسي في مسألة (السينما والإعاقة) – ج2
أخصائى الأمراض النفسية والعصبية بمستشفى آل سليمان وشركة كهرباء مصر
طبيب جمعية ومركز التأهيل الشامل للمعاقين بمحافظة بورسعيد
مستشار إعاقات الطفولة لجمعية نور الرحمن
صاحب مدونة ( إطلالة على التوحد ),
كاتب ومؤلف بمجلة وكتاب المنال الصادر عن مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
كاتب بمجلة أكاديمية التربية الخاصة السعودية