إعداد: اختصاصية العلاج الوظيفي “أسيل عاطف تايه”
يواجه العديد من الأطفال ذوي الإعاقات الإدراكية تحديات في معالجة المدخلات الحسية، مما يؤثر في قدرتهم على التفاعل مع البيئة المحيطة. قد يظهر ذلك في صورة حساسية مفرطة للأصوات، أو عدم القدرة على الشعور بالألم، أو الحاجة المستمرة للحركة للحصول على التحفيز الحسي المناسب.
هنا يأتي دور العلاج الوظيفي في تصميم استراتيجيات تساعد على تنظيم هذه المدخلات الحسية بطريقة تدعم تطور الطفل وتساعده على الأداء اليومي بشكل أكثر استقلالية. لكن كيف نعرف متى يكون التحفيز الحسي مفيدًا، ومتى يصبح مفرطًا ويؤدي إلى نتائج عكسية؟
ما هو تنظيم المدخلات الحسية؟
تنظيم المدخلات الحسية هو قدرة الجهاز العصبي على استقبال المعلومات الحسية من البيئة، معالجتها، والاستجابة لها بطريقة مناسبة تساعد على التفاعل والتأقلم. عادةً ما نفكر في الحواس الخمس التقليدية: البصر، السمع، اللمس، الشم، والتذوق، لكن الجهاز العصبي يعتمد على ثماني حواس تُشارك جميعها في تنظيم الاستجابات السلوكية والانفعالية، خصوصاً لدى الأطفال ذوي الإعاقات الإدراكية.

بالإضافة إلى الحواس الخمس، هناك ثلاث حواس أساسية أخرى:
الحس الدهليزي (Vestibular Sense):
وهي الحاسة المسؤولة عن التوازن وإدراك الحركة وتوجه الرأس والجسم في الفراغ. تنشأ هذه المعلومات من الأذن الداخلية، وتؤثر في قدرة الطفل على الجلوس بثبات، المشي، والركض دون فقدان التوازن.
الحس العميق (Proprioception):
يتعلّق بإدراك موقع الأجزاء المختلفة من الجسم دون الحاجة للنظر إليها، ويساعد على تنظيم القوة العضلية والتنسيق الحركي. تنبع هذه المعلومات من العضلات والمفاصل.
الحس الداخلي (Interoception):
وهي الحاسة المرتبطة بإدراك الجسم للإشارات الداخلية، مثل الجوع، العطش، امتلاء المثانة، الألم، نبضات القلب، والتنفس. تلعب هذه الحاسة دوراً أساسيًا في وعي الطفل بمشاعره الجسدية والانفعالية، مثل معرفة أنه جائع أو قلق أو يحتاج إلى استخدام الحمام.
اضطراب هذه الحاسة يؤدي إلى صعوبات في التنظيم الذاتي، حيث يرتبط بشكل مباشر بعدم القدرة على التحكم بالمشاعر، أو فهم دوافع السلوك، خاصة عند الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد أو اضطرابات الإدراك الحسي.
أنواع اضطرابات معالجة المدخلات الحسية
يمكن تصنيف اضطرابات معالجة المدخلات الحسية إلى ثلاث فئات رئيسية:
- فرط الاستجابة الحسية (Sensory Over-Responsivity – SOR)
- يكون الطفل شديد الحساسية لبعض المدخلات الحسية.
- قد ينزعج من الأصوات العالية، أو يرفض ارتداء ملابس معينة بسبب ملمسها، أو يتجنب الأنشطة الحركية السريعة مثل التأرجح.
- نقص الاستجابة الحسية (Sensory Under-Responsivity – SUR)
- يكون الطفل غير مستجيب للمثيرات الحسية.
- قد لا يلاحظ عند التعرض للألم، أو لا يستجيب عند مناداته باسمه.
- البحث الحسي المفرط (Sensory Seeking – SS)
- يبحث الطفل باستمرار عن التحفيز الحسي بطرق قد تكون مفرطة أو غير آمنة.
- قد يقوم بالقفز المستمر، أو الضغط بشدة عند لمس الآخرين، أو وضع أشياء في فمه طوال الوقت.
دور العلاج الوظيفي في تنظيم المدخلات الحسية
يلعب العلاج الوظيفي دوراً حيوياً في مساعدة الأطفال على تنظيم مدخلاتهم الحسية من خلال:
- العلاج بالتكامل الحسي (Sensory Integration Therapy): يتضمن أنشطة مثل التأرجح، الضغط العميق، واللعب في بيئات محفزة حسياً لتحسين استجابة الطفل للمثيرات الحسية.
- تصميم “حمية حسية” (Sensory Diet): وضع جدول يومي يحتوي على أنشطة حسية مخصصة لتلبية احتياجات الطفل الفردية.
- تعديل البيئة: تغيير البيئة المحيطة بالطفل لتقليل المشتتات وزيادة الراحة الحسية.

تنظيم البيئة الحسية
تنظيم البيئة الحسية يعني تعديل المحيط المادي والاجتماعي الذي يعيش فيه الطفل بحيث يُصبح داعماً لقدراته الحسية، ويقلل من المشتتات أو المحفزات التي قد تجهد جهازه العصبي مما يساعد الطفل على “تنظيم نفسه” بشكل طبيعي خلال الأنشطة اليومية، وتقليل الحاجة إلى تدخل خارجي مستمر.
أمثلة على تعديل البيئة الحسية:
- في المنزل:
- تخصيص زاوية حسية تحتوي على وسائد أرضية، بطانيات ثقيلة، أدوات ضغط، أو أرجوحة داخلية.
- تقليل الأصوات المفاجئة أو العالية (مثل التلفاز، المكنسة الكهربائية) أو استخدام عوازل صوتية وسماعات مضادة للضوضاء للأطفال ذوي الحساسية السمعية.
- توفير إضاءة خافتة أو قابلة للتعديل للأطفال المتأثرين بالإضاءة الساطعة.

- في المدرسة أو الجلسات العلاجية:
- ترتيب المقاعد بعيدًا عن النوافذ أو الأبواب لتقليل التشتت البصري.
- استخدام أدوات تنظيم بصرية مثل الفواصل، والجداول المصورة، وألوان الحائط الهادئة.
- تخصيص مساحة للتهدئة تتضمن أدوات مهدئة مثل أنابيب الفقاعات أو ألياف بصرية مضيئة للأطفال الباحثين عن تحفيز بصري موجه.
- في الحمام أو أثناء الروتين اليومي:
- استخدام سجادة مضادة للانزلاق ذات ملمس مريح.
- وضع علامات مرئية على الأرض أو الحائط لتوجيه الطفل في التنقل داخل المكان.
- ضبط حرارة الماء والتهوية بما يناسب احتياجات الطفل الحسية.
اختيار الأنشطة الحسية المناسبة لكل طفل
اختيار الأنشطة الحسية يجب أن يتم بناءً على تقييم دقيق لنمط المعالجة الحسية لدى الطفل يقوم به اختصاصي العلاج الوظيفي، سواء كان يعاني من فرط الاستجابة، نقص الاستجابة، أو سلوك بحث حسي. يجب أن تكون الأنشطة جذابة، آمنة، وتخدم أهدافاً علاجية واضحة.
أمثلة لأنشطة حسية حسب نوع الاستجابة:
- الأطفال ذوو فرط الاستجابة الحسية:
- أنشطة هادئة ومنتظمة مثل اللعب بالماء الدافئ أو الرمل الناعم.
- الرسم باستخدام أصابع اليد على مواد ناعمة.
- العناق الخفيف أو استخدام السترات الضاغطة للمساعدة على التهدئة.
- التنفس العميق أو النفخ في فقاعات الصابون.
- الأطفال ذوو نقص الاستجابة الحسية:
- أنشطة عالية الكثافة مثل القفز على “الترامبولين” أو “نط الحبل”.
- السحب والدفع باستخدام عربات أو أدوات ثقيلة.
- ألعاب تفاعلية تعتمد على الضغط، مثل “لف الجسم في بطانية”.
- ارتداء حقيبة ظهر تحتوي على وزن خفيف عند المشي أو في النشاط.
- الأطفال الباحثون عن التحفيز الحسي:
- أنشطة بديلة وآمنة توجه السلوك مثل مضغ أدوات مطاطية خاصة بدلًا من مضغ الملابس أو الأشياء.
- استخدام كرات الضغط أو العجين لتفريغ التوتر.
- ألعاب تسلق أو زحف في المساحات الآمنة.
- فترات لعب نشط تتخللها أنشطة تنظيمية مثل ضغط المفاصل أو التنفس.
استخدام استراتيجيات المعالجة الحسية في الأنشطة اليومية
يمكن دمج استراتيجيات تنظيم المدخلات الحسية في تفاصيل حياة الطفل اليومية بطريقة طبيعية، مما يساعده على التفاعل بشكل أكثر مرونة واستقلالية، دون الحاجة دائماً إلى جلسات علاجية منفصلة.
- خلال وقت الطعام:
- تقديم أطعمة بألوان وقوامات وروائح متنوعة (هشّة، طرية، مقرمشة) لتوسيع قبول الطفل الحسي للأطعمة.
- استخدام أدوات مخصصة (مثل الملاعق الثقيلة أو الصحون ذات الحواف المرتفعة) لتحفيز الإحساس العميق وتحسين التحكم الحركي الدقيق.
- تشجيع الطفل على تحضير الطعام (عجن، تقليب، سكب، تقطيع آمن) كجزء من المعالجة الحسية الحركية.
- أثناء العناية بالنفس (ارتداء الملابس والنظافة):
- استخدام ملابس ذات ملمس مريح ومقبول حسيًا، وتجنب الخامات التي تزعج الطفل.
- تجربة منتجات عناية (مثل الشامبو أو الصابون) بروائح وقوامات مهدئة أو محببة للطفل.
- استخدام فرشاة الأسنان الكهربائية أو اليدوية ذات الملمس المناسب لتنبيه حسي فموي متدرج..
- أثناء اللعب:
- اللعب بالصناديق الحسية (رمل، أرز، معجون، جل الحلاقة، خرز مائي) لتنمية اللمس والتمييز الحسي.
- ألعاب توازن مثل المشي على خطوط ملونة، القفز داخل دوائر، أو التوازن على وسادات ناعمة لتفعيل النظام الدهليزي.
- استخدام ألعاب الدفع والسحب (كالعربات) لتوفير مقاومة وتنشيط النظام الحسي العميق.
- أثناء الأنشطة الأكاديمية:
- توفير أدوات كتابة مختلفة (أقلام ثقيلة، ممحاة كبيرة، سبورة مغناطيسية) حسب نوع احتياج الطفل الحسي.
- استخدام كراسٍ مرجّحة أو وسادات هوائية أثناء الدراسة للأطفال الذين يستفيدون من الحركة.
- تقديم استراحات حسية قصيرة (تمارين ضغط، شد، قفز، أو ضغط اليد) بين الأنشطة الأكاديمية لزيادة التركيز.
- في أوقات الانتقال (من نشاط إلى آخر):
- استخدام جداول مصورة لمساعدة الطفل على الاستعداد حسيًا وتوقع التغيير.
- توفير أدوات حسية انتقالية مثل كرات الضغط أو أساور مطاطية يلمسها أو يشدها عند التنقل من نشاط إلى آخر.
- تفعيل موسيقى مهدئة أو إضاءة خافتة للانتقال من وقت اللعب إلى وقت النوم.
- قبل النوم:
- استخدام أنشطة مهدئة مثل التأرجح البطيء، الاستماع إلى صوت مُريح أو قصص مهدئة.
- تطبيق تقنيات المساج الخفيف أو الضغط العميق باستخدام بطانية ثقيلة أو عناق لطيف.
- تخفيف الإضاءة تدريجياً لتقليل التحفيز البصري قبل النوم.
أخطاء شائعة في التحفيز الحسي وكيفية تجنبها
- استخدام التحفيز الحسي بشكل عشوائي دون تقييم دقيق: من المهم أن يتم تقييم احتياجات الطفل من قبل مختص في العلاج الوظيفي لضمان تقديم الأنشطة المناسبة.
- عدم التدرج في تقديم التحفيز الحسي: يجب أن يبدأ التحفيز الحسي بشكل تدريجي، حيث قد يؤدي التعرض المفاجئ لمثيرات حسية جديدة إلى ردود فعل سلبية.
- تجاهل إشارات الطفل: بعض الأطفال قد لا يعبرون لفظياً عن عدم ارتياحهم، لذا يجب الانتباه إلى لغة الجسد والتعبيرات غير اللفظية.
- الاعتماد الزائد على التحفيز الحسي دون تعزيز مهارات التأقلم: الهدف من العلاج الوظيفي هو مساعدة الطفل على تنظيم نفسه تدريجيًا بدلاً من الاعتماد الدائم على أنشطة حسية خارجية.
خاتمة
التحفيز الحسي هو أداة قوية يمكن أن تساعد الأطفال ذوي الإعاقات الإدراكية على تحسين تفاعلهم مع بيئتهم وتطوير مهاراتهم اليومية. ولكن لتحقيق الفائدة المرجوة، يجب تقديمه بشكل مدروس ومتوازن، بحيث يعزز الاستقلالية ويقلل من التشتت أو السلوكيات غير المنظمة. من خلال فهم أنماط المعالجة الحسية لكل طفل وتصميم بيئة داعمة، يمكن تحسين جودة حياتهم ومساعدتهم على تحقيق إمكاناتهم الكاملة.
المراجع
- Case-Smith, J., & O’Brien, J. C. (2015). Occupational Therapy for Children and Adolescents (7th ed.). Elsevier Health Sciences.
- USC Continuing education – Sensory integration certificate
























